بعيدا عن التوغل في تقييم ما حدث في 3 يوليو ، حيث انقسم المصريون تجاهه ، وهو انقسام لن يفيد اليوم أي كلام في مناقشته أو تقييمه أو الانتصار لوجهة نظر فيه ، فإن ما لا شك فيه أن تطورات الأحداث باعدت بين الفريق عبد الفتاح السيسي وبين ما كان يبشر به من مستقبل رائع للبلاد ، وأن الصورة الوردية التي كان يحدث المصريين عنها وكانت تدور في رأسه وهو يقول لهم "بكره تشوفوا مصر" قد انطفأت ، وأنه في أزمة حقيقية ، لم يداريها ، بل عبر عنها أكثر من مرة ، بل إن تردده الواضح أمام مطلب الترشح لرئاسة الجمهورية وقيادة الدولة لتنفيذ ما بشر به والتبريرات التي يقدمها تكشف بوضوح عن عمق إحساسه بالخطر وبالمأساة التي وصلت إليها البلاد والأعباء التي سيتحملها من يتصدر المشهد الآن . كيف أفلت المسار من الفريق السيسي ، ولماذا سارت الأمور بعيدا عما كان يتصور ويتمنى ، ولماذا تآكل الإجماع الشعبي حوله بعد أن شهد وهجا مثيرا في 30 يونيو ، بدون شك هناك أسباب موضوعية لهذه الانتكاسة ، وأستطيع أن أجمعها في أسباب عشرة : الخطأ الأول : هو خضوعه لضغوط المؤسسة الأمنية بانتهاج سياسة دموية في إنهاء احتجاجات أنصار مرسي في أعقاب تنحيته ، وهو الأمر الذي ورطه في أربع مذابح مروعة وغير مسبوقة في تاريخ مصر كله خلال أقل من شهر واحد ، مذبحة الحرس الجمهوري ومذبحة المنصة ومذبحة رابعة ومذبحة جامع الفتح وميدان رمسيس ، إضافة لمذبحة خامسة في أكتوبر ، لم يشهد تاريخ مصر الحديث كله سفكا لدماء المحتجين في مظاهرات مثلما شهد في ذلك الشهر الكئيب ، والذي حول مجرى الأحداث جذريا وحول الانقسام الوطني إلى خنادق يصعب تجاوزها في المدى المنظور ، وحول مذبحة رابعة إلى رمز تاريخي اخترق بلادا كثيرة ومجتمعات عديدة وأصبح كابوسا يؤرق الجميع بمن فيهم الدولة ومؤسساتها وأجهزتها وديبلوماسيتها . الخطأ الثاني : تعجله في اتخاذ قرارات غلق القنوات الفضائية الإسلامية دون غيرها وهو القرار الذي رسخ قناعة قوية ومبكرة لدى ملايين الشباب الإسلامي أنهم أمام انقلاب عسكري يستهدفهم بالأساس وليس حركة تصحيح ثورية ، وجعلهم ينحازون بالكامل وبعصبية شديدة لقضية محمد مرسي باعتبار أنهم يواجهون معركة وجود وليس خلافا سياسيا ، ولم يكن ليضر الفريق السيسي كثيرا أن تبقى القنوات حتى مع بعض الضغوط أو التحذيرات ، ولم تكن لتلك القنوات من المهنية والكفاءة ما يعادل قناة الجزيرة مثلا في قوة تأثيرها على الرأي العام . الخطأ الثالث : ترك العنان للأجهزة الأمنية في تدشين حملة اعتقالات واسعة في صفوف الإسلاميين ، حيث صور له مستشاروا السوء أن اعتقال عدة آلاف سينهي كل شيء ويعبد الأرض أمام مسيرته ، فكانت النتائج عكسية ، لأن حملة الاعتقالات جعلت الاحتجاجات أكثر ضراوة وإصرارا ، لأنه إذا كان سيموت في زنزانة فالأفضل أن يموت مناضلا في الشارع ، وأفرزت حملات الاعتقال قيادات من صفوف ثالثة ورابعة يعجز الجهاز الأمني عن فهمها أو ملاحقتها طوال سبعة أشهر، لقد وضعت هذه الحملة ظهور ملايين الشباب للحائط ، فلم يعد عندهم ما يخسرونه ، وكان ذلك في الحساب السياسي خطأ كارثيا للسلطة الجديدة . الخطأ الرابع : سيطرة المؤسسة العسكرية وأذرعها الأمنية مبكرا جدا على الإعلام الرسمي في أعقاب إطاحة مرسي ، وهيمنة أصوات خبرائها ولواءاتها على الحوارات واللقاءات التي كانت بصوت واحد وموجة واحدة وبكثافة مستفزة للغاية ، وقد انتبهوا لذلك مؤخرا فخففوا من ظهورهم ، وقد عززت هذه الخطوة العقيمة من الإحساس بأن الدولة تسير نحو قمع سياسي وإعلامي صارم وجعل كثيرين يتشككون في نوايا الفريق السيسي ومن معه . الخطأ الخامس : طلبه التفويض من الشعب لمواجهة الإرهاب في موقف استعراضي ، وكان ذلك خطأ قاتلا بالمعيار السياسي ، لأنه طلب التفويض لنفسه "فوضوني" ، والمفترض أن التفويض يكون للدولة وليس لوزير فيها أو لقائد عسكري ، أيضا طلب التفويض لنفسه جعله المسؤول الأول والعاشر لحمامات الدم التي تفجرت من صبيحة اليوم التالي للتفويض ـ مذبحة المنصة ـ واستمرت شهرا ، أيضا مواجهة الإرهاب لا تحتاج تفويضا شعبيا لأنها مسؤولية الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية بنص الدستور وبموجب القوانين القائمة ، وفي المحصلة فهم طلبه على أنه استعراض لنفوذه كقائد عسكري يعلن أنه الرجل الأول في الدولة . الخطأ السادس : إقصاء الإسلاميين من لجنة الخمسين لصياغة الدستور الجديد ، والاستسلام أمام التحريض المتطرف من خصوم الأحزاب الإسلامية والوقوع في نفس الخطأ الذي أخذوه على دستور مرسي ، وتصور أن الدستور يكتبه المنتصرون وليس مشروع توافق وطني ، فلم يكن أحد يستوعب أبدا أن تتمثل الأحزاب الإسلامية كلها بواحد من خمسين ، هو ممثل حزب النور ، في الوقت الذي يعرف الجميع أن تلك الأحزاب وزنها السياسي في كل الاستحقاقات السابقة لا يقل عن ستين في المائة ، وكان هذا خطأ فادحا تسبب في فقدان الدستور لقيمته كوثيقة للتوافق الاجتماعي وعقد اجتماعي جديد بين أبناء الوطن جميعا ، كما عرضه لهذا الاختبار القاسي والمتوتر جدا وسط المخاوف من عدم نجاح الاستفتاء عليه لأسباب عديدة ، كما عزز هذا الموقف من يقين الأحزاب الإسلامية أن النظام الجديد يضمر لها الشر ويصر على إقصائها نهائيا من الحياة السياسية . الخطأ السابع : سوء التقدير الواضح لعواقب وتبعات الإطاحة بالرئيس محمد مرسي ، والانخداع بتحليلات هيكل الكسولة والسطحية عن إمكانية الإفادة من إدارة عبد الناصر لصراعه مع الإخوان في 54 وأن اللحظة التاريخية متشابهة ، وهو خطأ فادح يدفع ثمنه حتى الآن ، لأن الوقائع مختلفة تماما بين اللحظتين ، والحالة الثورية والشعبية والدستورية ونطاق الأزمة كلها داخليا وإقليميا ودوليا لا وجه للشبه بينها وبين الحالة في 54 ، وها هو يواجه حراكا شعبيا ثوريا حقيقيا مستمرا على مدار سبعة أشهر متتالية ، وهو ما لم يحدث في تاريخ مصر كله بهذه الوتيرة والإصرار . الخطأ الثامن : استنفاذ طاقة الدولة ومؤسساتها واستنفاذ خياراتها مع أنصار مرسي في بدايات الأزمة وخلال أسابيع قليلة ، فاستخدمت فيها القتل على نطاق واسع والاعتقال على نطاق واسع والإقصاء على نطاق واسع ، مما أفقد تلك الأدوات أي فاعلية لها بعد ذلك كأداة تهديد أو وعيد أو حتى تحذير ، بل واضطره رد الفعل إلى التراجع النسبي عن هذه الخيارات العنيفة ، وخاصة القتل واسع النطاق ، لأنه جلب استياءا دوليا واسعا ، كما جلب تعاطفا شعبيا ـ قل أو كثر ـ مع أنصار مرسي لدى قطاع كبير من الشعب لم يكن يؤمن بقضيتهم أساسا بل ربما كان معارضا لهم . الخطأ التاسع : وهو رهان الفريق السيسي على الاستفادة من الانقسام الوطني ، وليس الرهان على صناعة إجماع جديد أو توافق وطني جديد ، لقد بدا أن السيسي حريص على أن يقدم نفسه على أنه ممثل المؤيدين للثلاثين من يونيو ضد المعارضين لها ، وبدا في كل المواقف والتصريحات منحازا بقوة لهذا الاتجاه ضد الاتجاه الآخر ، وهو خيار سهل ومغري في البداية لصناعة حشد جماهيري مؤيد للشخص ، لكنه على المدى البعيد مدمر لمشروعه بالكامل ، لأنه يصبح قائدا لنصف الشعب أو جزء منه والنصف الثاني لا يعترف به ولا يخضع له ويصر على إسقاطه ، بما يعني أن الدولة والمجتمع ستظل على انقسامها لفترات طويلة وهو ما يعوقه عن قيادتها ويجعله ـ باختصار ـ الرجل غير المناسب لبداية صفحة جديدة للدولة والوطن ، بل يصبح عبئا ورمزا للانقسام الوطني ، ولو أنه تجاهل الاستشارات الأمنية ضيقة الأفق من البداية ، وراهن على صناعة مصالحة وتوافق وطني جديد ، أيا كانت صيغته أو صعوبته أو تنازلاته المرحلية لما تورط في كل هذا الدم ، ولما ورط الوطن في كل هذا النزيف الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري ، ولما وضع نفسه أمام هذه الورطة التي لا يبدو أن لها مخرجا قريبا له وللسلطة الجديدة بكاملها . الخطأ العاشر : هو وضع المؤسسة العسكرية للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث في مواجهة الشعب مباشرة أو تيارات فاعلة فيه ، وكان المجلس العسكري الأول بقيادة طنطاوي وعنان مدركين جيدا لهذه الحساسية ، فكانوا يحرصون على أن يبدو الجيش بعيدا عن الصدام المباشر ، هو وسيط بين الجميع وحام للوطن وللجميع والأذن المستمعة للجميع ، بعيدا عن الخصومة مع أي قوة سياسية ، هو منقذ للوطن كل الوطن ، الآن تعرضت العلاقة بين الجيش والشعب لهزة خطيرة ، وللمرة الأولى في تاريخ العسكرية المصرية يشعر رجالها بالخطر إذا تحركوا بالزي الرسمي بين الناس في الشوارع والمحلات والميادين والمطاعم والمواصلات ، لم يحدث ذلك أبدا من قبل ، وهي كارثة وطنية حقيقية تحتاج إلى تفكير عاجل ، وطني ومسؤول ، في إصلاحها ووقف تداعياتها .