الحقيقة التي ينبغي أن نضعها جميعا نصب أعيننا وعماد مرجعيتنا السياسية ، أقصد كل القوى الوطنية والثورية خاصة على اختلاف أيديولوجيتها ومواقفها واختياراتها ، أنه لم يحدث في التاريخ الحديث أن ولدت ديمقراطية حقيقية في دولة من الدول إلا بعد أن تم حسم مكان المؤسسة العسكرية في بنية الدولة ومؤسساتها وعزلها عن السياسة وتداول السلطة بين القوى المدنية الممثلة لشعب هذه الدولة أو تلك ، تلك حقيقة أبعد ما تكون عن وجهات النظر أو الاجتهادات السياسية ، شهادة التاريخ والواقع ، في أمريكا اللاتينية ، في تركيا ، في أسبانيا ، في أي مكان كانت المؤسسة العسكرية تهيمن على الحياة السياسية ، كانت الديمقراطية إما منعدمة ، أو مجرد واجهة مزيفة لواقع أبعد ما يكون عن الديمقراطية ، بعض الديكورات وأحزاب السبوبة ومنظمات الارتزاق الداخلي أو الخارجي ومحيط واسع من الفساد المالي والقضائي والإداري والانتهازية السياسية في أرخص صورها وغياب للشفافية والمنظومة الرقابية ، وبالتالي ينبغي أن يفهم موقفنا أو موقف أي قوة ثورية أو وطنية من تقاطعات الجيش المصري مع السياسة الآن في هذا الإطار ، إنه ليس موقفا استثنائيا ولا سلبيا من الجيش أو المؤسسة العسكرية أو حتى أذرعها الأمنية ، المخابرات الحربية والعامة ، فتلك كلها ظهر الدولة وحصنها وقوام الأمن فيها ، ونحن ـ كشعب ـ مسؤولون جميعا عن دعمها وتقويتها وحمايتها وتعزيز مكانتها وتعظيم حرمتها في نفوس المواطنين ولدى الدول الأخرى كذلك ، ولكن هذا كله شيء ، ومسألة أن تكون تلك المؤسسة هي مؤسسة الحكم الحقيقية للدولة شيء آخر ، لا يمكن التساهل مع هذا التحدي أو التراجع فيه خطوة واحدة ، وإلا كنا نخون كل أشواق الأمة لحياة أفضل وأرشد ، وكنا نحكم على بلادنا بأن تظل كتلة بشرية متخلفة ومنسحقة تقبع في جنبات العالم الثالث المظلمة إن لم يكن أبعد من الثالث ، وجود المؤسسة العسكرية في السلطة يعني أن الشعب تم تهميشه وأن الشعب لم يعد مصدر السلطات وإنما الجيش هو مصدر السلطات ، وأن الإرادة الشعبية ليست هي صاحبة القرار في إدارة شؤون الدولة وتحديد سياساتها ، وإنما البندقية والدبابة هي صاحبة القرار ومن تحدد الإطار السياسي . هذه الحقيقة الجوهرية والحاسمة في نهضات كثير من شعوب العالم وتحولها من العالم الثالث والمتخلف والمهمش إلى العالم الأول أو الناهض أو الديمقراطي أو "المحترم" ينبغي أن تكون هي عماد أي حراك سياسي وطني حقيقي في مصر ، وبوصلته الأساسية ، يمكن أن نختلف على أي شيء ، ويمزق بعضنا ثياب بعض في شجار سياسي قاس ومشروع وفي أي قضية أو كل القضايا ، ولكن تبقى هذه الحقيقة هي المرجعية الأولى التي عندها نتفق ثم نقول : نقطة ومن أول السطر ، وكل ما بعدها يهون ، وينبغي أن يكون هناك حوار وطني موسع وجاد وعميق حول هذه المسألة والانتقال السلمي والحكيم للسلطة إلى "الشعب" وأن تشارك القوات المسلحة في هذا الحوار بشكل علني وشفاف وليس على طريقة حوارات ياسر رزق ، وأنا أدرك أن غالبية القوى الثورية ومعظم القوى الوطنية تؤمن بذلك ، وتشتاق له وتتمناه ، ولكن القلق من حالة السيولة الاجتماعية التي تمنح رجال المال والعائلات الكبيرة الحضور الأهم ، وضعف الجذر الشعبي لكثير من القوى وسط تمدد شعبي للقوى الإسلامية ، كل ذلك يجعل الموقف من هذا الموضوع مائعا وضبابيا ، بل وربما دفع البعض إلى الرضا بحكم العسكر حاليا ، معتبرا أنه أخف الضررين ، وهذا ما نصفه بأنه "أسر الخوف" أو الاختيار السياسي تحت ضغط الخوف من المجهول ، وأعترف بأن تجربة الإخوان المسلمين خلال العام الذي حكموا فيه كانت مخيفة ومقلقة جدا ، ولا معنى لحديث أنصارهم عن محدودية الأخطاء والممارسات الظالمة ، المسألة لم تكن في الكمية وإنما في الوجهة والبوصلة ، ويبقى تعاظمها بعد ذلك مسألة وقت وانتظارا للحظات التمكن الكامل من أجهزة الدولة الخشنة ، أعترف بذلك ، الجميع خاف من التجربة وعانى منها ، حتى بعض الإسلاميين أنفسهم ، ولكن هذا الخوف من نوايا الجماعة وهيمنتها لا ينبغي أن يكون مبررا لأن نكفر بالديمقراطية أو نتنازل عن المرجعية الأساسية التي تمثل الشرط الأول والجوهري للإبحار الديمقراطي للوطن ، إخراج المؤسسة العسكرية وأجهزتها من اللعبة السياسية ، وإنما يدعونا إلى التفكير في الضمانات الدستورية وربما ما فوق الدستورية والمؤسسية التي تحول دون تغول أي حزب أو جماعة أو قوة على الدولة في أي لحظة ، وأن نمنح الشعب أدوات دستورية قوية وفعالة وناجزة تتيح له قطع الطريق على هذا الانحراف إذا بدت بوادره بصورة واضحة حتى لو كان قبل اكتمال مدة الحكم ، حتى لو كان بعد أشهر قليلة من وجود هذا الحزب أو ذاك في الحكم ، دعونا نبحث عن ضمانات عملية لشراكة وطنية حقيقية تحمي الوطن وتحصن الديمقراطية من أن تستغل كسلم أو باب خلفي للهيمنة والاستبداد من أي طرف ، أما أن يدفعنا الخوف إلى أن نختار حكم المؤسسة العسكرية كبديل ، فهذا يعني أننا نخون الوطن فعليا ، مهما كسونا تلك الحقيقة بثياب زور من الكلام المعسول ، ويعني أننا بعنا الديمقراطية فعلا ، وأننا قبلنا أن نعيد إنتاج منظومة الفساد والقمع والاستباحة ، مهما حسنت النوايا ، وحكمنا على شعبنا وبلادنا أن يبقيا في هذا الركن المحتقر بين دول العالم .