على مدار تاريخ مصر السياسى والقضائى لم تحكم أى محكمة مصرية فى قضية جنائية أو سياسية بإعدام أكثر من 500 متهم كما قضت محكمة المنيا التى أذهلت مصر والعالم كله.. إنها سابقة فريدة وخطيرة وسيئة وسلبية على طرفى الصراع وعلى القضاء وعلى مصر كلها.
فالمحاكمات العسكرية فى عهد مبارك لم تصدر مثل هذه الأحكام.. والمحكمة العسكرية التى حاكمت قتلة الرئيس السادات استغرقت وقتاً أطول من محكمة المنيا وحكمت بالإعدام على المنفذين الأربعة والمخطط الأساسى للحادث فقط.. وفحصت مواقف المتهمين بدقة رغم أن قضاتها كانوا ضباطاً.. وكل المحاكم العسكرية التى تلتها فى التسعينيات لم تحكم فى طوال تاريخها بحكم أكثر من 5 إعدامات.. والمرة الوحيدة التى حكمت بـ9 إعدامات كان ذلك غيابياًَ.
وكذلك محاكم أمن الدولة طوارئ فى عهد مبارك لم تحكم بمثل هذه الأحكام.. وأيام عبدالناصر وفى محاولة اغتياله بالمنشية حكم على 6 بالإعدام، وفى 1965 حكم من محكمة عسكرية أيضاً بالإعدام على 6 خفف فيها الحكم على أربعة ونفذ فى اثنين.
وقد عاصرت المستشار العظيم عبدالغفار محمد الذى حكم فى أكبر قضية فى تاريخ مصر كان عدد المتهمين فيها 302 فظل ينظرها أكثر من ثلاث سنوات.. استمع فيها إلى الشهود ودفوعات المحامين والنيابة ومناقشات الدفاع للنيابة والعكس واستمع فيها للمتهمين، وكان يسمح لهم بإلقاء كلمة كل يوم للمحكمة تتعلق برأيهم فى بعض القضايا الفكرية المتعلقة بالقضية، وأذن للدكتور عمر عبدالرحمن أن يدافع عن نفسه فى سابقة فريدة ثم أطلق حكمه التاريخى بعد هذا التمحيص ورفض وقتها أن يحدثه وزير العدل المصرى عن أى شىء يتعلق بالقضية المنظورة أمامه وأغلق الهاتف فى وجهه.. ولم يتحدث للإعلام أبداً وعاش فقيراً ومات فقيراً.
وهكذا فعل أيضاً المستشار الدكتور وحيد محمود فى القضايا التى نظرها.. وقضاة كثيرون أعطوا للمتهمين كل حقوقهم القانونية وأعطوا الدفاع حقه.
أما محكمة المنيا فلم تعط للدفاع عن المتهمين أى فرصة حقيقية.. ولم توفر لهم ضمانات العدالة.. فلو أخذ كل عشرة متهمين يوماً واحداً من الدفاع لاستغرق الدفاع عنهم فقط عدة أشهر فضلا عن مناقشة الشهود من الدفاع أو النيابة وغيرهما.
إن هذا الحكم بهذه الطريقة المتعجلة والمتسرعة يفقد قيمة الردع لأنه سيلغى فى النقض بسهولة.. وقبلها سيؤدى إلى صراعات وثأرات وتفجيرات و..
وقد يتخذه المتربصون بمصر ذريعة للهجوم عليها وضربها تحت الحزام ولن يساهم فى إطفاء حرائق الوطن.. ولكنه سيزيدها اشتعالاً.
وأنا لن أهون من جريمة اقتحام قسم مطاى وقتل نائب مأموره غيلة وغدراً ولا من اقتحام وحرق عشرات الكنائس والأقسام فى محافظات الصعيد، خاصة المنيا والفيوم وبنى سويف.. ولكن القاضى عدل وميزان والحكم عنوان للحقيقة فلا يحيف القضاء على من يكره.. ولا يجامل من يحب.. وأن يحاول القاضى أن يستلهم شيئاً من اسم العدل الذى سمى الله به نفسه.. وعلى قدر ميراثه من هذا الاسم تكون نجاته يوم القيامة.