تستحق وقائع يوم الثلاثاء الماضى 19 نوفمبر 2013 من الذين دعوا المواطنين للاحتشاد فى الشوارع والميادين احتفالاً بالذكرى الثانية لأحداث «محمد محمود» وقفة شجاعة وثورية حقاً مع أنفسهم يتأملون خلالها دلالة هذه الوقائع، ويحللون - بالمناسبة - طبيعة ما جرى فى اليوم نفسه من عام 2011، وفى الاحتفال بالذكرى الأولى له فى 19 نوفمبر 2012.
ولو أنهم فعلوا لتوقفوا أمام ظاهرة انسحاب معظم القوى الثورية والفصائل السياسية التى تحمست للدعوة فى البداية وروجت لها، فى اللحظة الأخيرة، ولم يكن ذلك هو السبب الوحيد وراء عزوف المواطنين عن الاستجابة لها، بحيث لم يزد عدد المشاركين فيها على ألف أو ألفين فى جميع أنحاء البلاد، وعلى عكس ما كان يتوهم هؤلاء وغيرهم، فقد خلت شوارع العاصمة من معظم سكانها، الذين لزم معظمهم البيوت فى هذا اليوم، فى رسالة احتجاج صامتة على الدعوة، وربما على المناسبة، تقديراً منهم أن من واجبهم أن يخلوا الشوارع أمام قوات الشرطة والقوات المسلحة لكى تتحرك بسهولة لمواجهة أى خطر محتمل تنفلت فيه نوازع الشر من عقالها فتقود البلاد إلى فوضى شاملة.
والمقارنة السريعة بين العدد الهزيل الذى شارك فى احتفالية 19 نوفمبر، وبين الملايين التى استجابت للدعوة للاحتشاد فى الشوارع والميادين فى 30 يونيو و26 يوليو من هذا العام، تكشف عن أن الجماهير المصرية ليست قطعاناً من الخرفان، تجمعها صفارة وتفرقها عصا - كما كان الديكتاتور القارح «إسماعيل صدقى باشا» يقول - ولكنها تملك القدر الكافى من الوعى الكافى الذى يجعلها تستجيب فقط للدعوات التى تعبر عن مصالحها، وتتبنى مطالبها، وتعزف عن الاستجابة لدعوات التظاهر التى تضر بهذه المصالح، سواء بسبب أهدافها أو توقيتاتها.. وهو ما يؤكده - كذلك - أن المليونيات التى لا تكف «جماعة الإخوان المسلمين» عن الدعوة إليها كل أسبوع منذ 30 يونيو، تقتصر على عدة آلاف فقط من الأهل والعشيرة وزوجاتهم وأولادهم والمؤلفة قلوبهم وجيوبهم تتناقص كل أسبوع عما سبقه.
ولو أن الذين تزعموا الدعوة للاحتفالية وقاموا بتنظيمها تأملوا دلالة عزوف الجماهير عن الاستجابة لهم، لأدركوا أنهم فضحوا أنفسهم، وكشفوا عن أنهم لا يمثلون اتجاهاً يشكل ثقلاً جماهيرياً فى الحياة السياسية، ولو أنهم بحثوا عن السبب لاكتشفوا أن الشعار الذى دعوا الجماهير للاحتشاد حوله وهو «ضد الفلول والإخوان والعسكر»، شعار يفتقد النضوج السياسى، ويصطدم فى جانب منه بمشاعر الجماهير، ولا يعبر ــ على الأقل فى المرحلة الراهنة ــ عن رؤاها لمصالحها وللمصالح العامة للبلاد.
ولم يكن الأمر يحتاج إلى ذكاء كبير لكى تدرك الجماهير بوعيها الفطرى وخبرتها السياسية، أن «الفلول» قد حشروا حشراً فى هذا الشعار لكى يبدو متوازناً، بعد أن غادروا الساحة السياسية منذ انهيار النظام الأسبق، وحل الحزب الوطنى، ولم يبق منهم ومنه سوى أعضائه القاعديين الذين اضطرتهم ظروف الحياة للانضمام إليه لكى يحصلوا على نصيبهم من الخدمات الحكومية، وانضموا إلى صفوف ثوار يناير أثناء الثورة أو بعدها.. ولكى تكتشف أن الهدف الأساسى للشعار هو المساواة بين «الإخوان» و«العسكر» باعتبارهما عدوين للثورة، وهو نوع من العمى السياسى يخلط بين «العدو» و«الحليف»، ويضعهما على قدم المساواة، لذلك كان طبيعياً ألا يجد هؤلاء إلى جوارهم فى الميدان أحداً من القوى الثورية أو الفصائل السياسية، أو جماهير المواطنين، يؤيد هذا الكلام الفارغ، الذى لا صلة له بأى قراءة صحيحة للواقع، أو بأى رؤية ثورية، والذى لا يستفيد منه سوى الإخوان المسلمين لأنه يفتح الباب أمام تفتيت الجبهة التى قامت بثورة 30 يونيو ويصطنع عداء وهمياً بينها وبين حليفيها الرئيسيين وهما القوات المسلحة والشرطة.
ولو أن هؤلاء تذكروا وقائع السنوات الثلاث الماضية، لأدركوا أن ثورة 25 يناير لم يكن ممكناً أن تنجح لولا أن القوات المسلحة تخلت عن الرئيس الأسبق ورفضت دعم نظامه، وأن ذلك ما حدث فى ثورة 30 يونيو، التى دعمتها ــ كذلك ــ قوات الشرطة، ولو أنهم تذكروا بالمناسبة أحداث 19 نوفمبر 2011، لأدركوا أنها بدأت بمليونية اليوم الواحد للمطالبة بإنهاء المرحلة الانتقالية ورحيل العسكر، فانضموا إليه، وحققوا له هدفه، الذى انتهى بوصول مرشح الإخوان المسلمين إلى رئاسة الجمهورية.. ليستبدل نصف الاستبداد الذى كان قائماًَ فى ظل النظام السابق على الثورة باستبداد كامل، احتاج إلى ثورة أخرى للتخلص منه، ما كان ممكناً أن تنجح لولا دعم الحليفين الرئيسيين لها.
وكان ذلك ما تكرر فى احتفالية الثلاثاء الماضى، فقبل ساعات من بدئها أعلن الإخوان الذين دعموا الدعوة إليها وروجوا لها، انسحابهم من المشاركة فى فعالياتها، وفى اللحظة ذاتها كان حلفاؤهم فى تنظيم أنصار بيت المقدس يغتالون الشاهد الرئيسى فى قضية التخابر، المتهم فيها الرئيس المعزول، وبينما كان ثوار آخر الزمان يهتفون فى ميدان التحرير بسقوط حكم العسكر وبأن الداخلية بلطجية، كان بلطجية بيت المقدس يستعدون لتفجير جنود وضباط الشرطة فى سيناء والإسماعيلية والقاهرة، وكأنهم يقولون لأصابع الإخوان اليسارية، الذين يخلطون بين الأعداء والحلفاء: نحن هنا.
وربنا يهدى!