أخطأ الرئيس محمد مرسي حين دعا ما تسمي جبهة الإنقاذ للحوار, وأخطأت جبهة الإنقاذ حين رفضت دعوة الحوار, أخطأ الرئيس لأن الكرة الآن ليست أبدا في ملعب جبهة الإنقاذ,
فالجبهة بكل ما يحيط بها من هالة إعلامية داخلية وخارجية لا تستطيع بأي حال السيطرة علي أو التأثير في مائة صبي يثيرون الفوضي هنا أو هناك, بالفعل الجبهة لا وجود لها في الشارع, وإلا لظهرت كراماتها في صناديق الانتخابات.
كما أخطأت الجبهة حين رفعت سقف المطالب التعجيزية حتي لا يكتمل الحوار, أملا في أن تتفاقم الأوضاع, وذلك باستمرار نزيف الدم, وأثبت قادة الجبهة بذلك أن قضيتهم ليست مصر واستقرارها وأمنها, وإنما الهدف أولا وأخيرا هو كرسي الحكم, ولكن لأن قادة الجبهة علي يقين من أنهم لن يستطيعوا تحقيق هذا الهدف عن طريق الصناديق, فراحوا يبتزون ويضغطون ويتحدثون عن تقسيم سلطة, وتقسيم مصالح, وكأن مصر أصبحت غنيمة لهؤلاء وأولئك.
وقد أخطأ الرئيس مرارا حين ترك الشارع يزداد توترا, وكلما تفاقمت حدة التوتر قرر اعتبار مجموعة ما شهداء, وأقر لمجموعة أخري معاش الشهداء, والإفراج عن مجموعة ثالثة عاثت خرابا ودمارا, والتراجع عن قرار ما لحساب مجموعة رابعة, إلي أن توج كل ذلك بقرارات شابتها عيوب واضحة, وهي الخاصة بمدن القناة, ولذلك كان من الطبيعي تحدي هذه القرارات منذ اللحظة الأولي, بالتزامن مع مزايدات من الجبهة, وما أدراك ما الجبهة؟!.
الأزمة الرئيسية, الآن, هي أننا شعب يريد أن يعيش ويستقر, ودعونا نعترف بأنه لن يتحقق لا العيش ولا الاستقرار في ظل هذا الوضع, وحتي لو كان هناك حوار, فهو حوار طرشان, فئة تحكم, وفئة أخري ترفض هذا الحكم: الفئة الأولي ترتكن إلي شرعية, والثانية تلوح بإشعالها نارا, وهي بذلك لم تعد قوي معارضة, وإنما مراكز قوي داخل الدولة, إما أن يستفيد نظام الحكم من نظرية الرئيس السادات في التعامل معها, أو أنها سوف تبادر باستعارة هذه النظرية, أو أن تستعيد جهة ثالثة تترقبها الأنظار الآن زمام المبادرة, لتريحنا من هذا وذاك قبل خراب, أراه قريبا, بأيد محلية وأموال أجنبية.
بالفعل.. الصبية الذين يعيثون في مصر فسادا الآن ليسوا ثوارا, وليسوا قوي سياسية, فلا يمكن التصديق بأن حرق الفنادق وترويع السائحين يأتي في إطار الاعتراض علي الدستور, أو علي الحكومة القائمة, كما لا يمكن أبدا أن يكون قطع الطرق والكباري, وخطوط مترو الأنفاق, والسكك الحديدية; في إطار احتجاجات سياسية, كما لا يمكن أن يكون التخريب المنظم للمقنعين والملثمين في محافظات مصر المختلفة مصادفة, أو من قبيل توارد الخواطر, بل هناك ما هو أكثر من ذلك, وهو أن الأدلة أصبحت واضحة تجاه إنفاق يتم ببذخ علي من يقومون بهذه الأفعال, وأعتقد أن أجهزة الدولة الرسمية تستطيع تحديد من يقف وراءها, وفي هذه الحالة يجب التعامل مع هذه القضية بحسم, أو أن الحوار سوف يكون أجدي مع هؤلاء المشردين وأطفال الشوارع تحت عنوان حوار الصبية بدلا من حوار القوي السياسية, مادام استقرارنا أصبح رهنا بهؤلاء, الذين جعلوا من القوي المختلفة مجرد غطاء سياسي لجرائمهم.
الأزمة إذن..
واضحة المعالم منذ الوهلة الأولي, وكانت فقط في حاجة إلي حكم محكمة كي يفجرها, أو أزمة عابرة كي تحركها, والدليل علي ذلك أن القوي السياسية الموجودة علي الساحة, بمختلف أطيافها, كانت قد انخرطت في الإعداد والاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة, إلا أنها ما لبثت أن اعتلت موجة المزايدة وإشعال الموقف, فور أن أصبحت الأجواء مهيأة لذلك, وهو ما يؤكد أن طريق الأزمات سيظل طويلا إذا استمرت الحالة الراهنة التي لم تكفها مزايدات الداخل, فراحت العواصم الأجنبية هي الأخري تدخل علي الخط ببيانات وتصريحات فجة, كان أكثرها لفتا للانتباه ما صدر عن البيت الأبيض الأمريكي بضرورة محاكمة المتسببين في أحداث العنف في مصر, وكأنه قد كتب علينا أن نظل نتلقي الأوامر والتعليمات من البيت الأبيض, قبل الثورة وبعدها, وللأسف لم يخرج علينا مسئول علي أي مستوي يستنكر هذا التدخل السافر في شئون دولة كان يجب أن تلقن الآخرين دروسا في القانون والديمقراطية والتاريخ, إلا أنه يبدو أننا قد استمرأنا التخلف, ومن ثم وجب علينا علي الأقل أن نسمع ونصمت.
الأوضاع ساءت لدرجة التذمر في صفوف قوات الأمن, وساءت لدرجة الترقب الدقيق لردود فعل القوات المسلحة, وساءت لدرجة الاستهانة بدعوة الحوار مع رئيس الدولة, وساءت لدرجة الاستهتار بقرار جمهوري حول الطوارئ أو حظر التجول, وساءت لدرجة السخرية من رمز الدولة في الفضائيات علي ألسنة بلطجية في بعض الأحيان, وساءت لدرجة وضع العربة أمام الحصان في صورة مبادرات لا تعدو عن كونها إشعالا للأزمة, وساءت لدرجة التهديد بانتخابات رئاسية بمنأي عن سلطة الدولة, وساءت لدرجة إعلان انفصال هنا أو استقلال هناك, وساءت لدرجة الطعن في السلطة القضائية, والافتئات علي التنفيذية, وساءت لدرجة إشعال الحرائق في المنشآت العامة والسطو علي الخاصة, وساءت لدرجة الانهيار اليومي لسوق الأوراق المالية والناتج المحلي, وساءت لدرجة تشكيل عصابات مسلحة مدربة بالخارج, وساءت لدرجة تفشي ممارسات القتل والخطف والنهب والاغتصاب, وساءت لدرجة سقوط هيبة الدولة علي كل المستويات.. فماذا تبقي إذن؟!.
أعتقد أن..
تصريحات الفريق أول عبدالفتاح السيسي, وزير الدفاع, قبل يومين, خلال لقائه طلبة الكلية الحربية كانت خطيرة بما يكفي لترجمة المشهد الراهن, حينما أكد أن التحديات والإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تواجه مصر حاليا تمثل تهديدا حقيقيا لأمنها وتماسكها, محذرا من أن استمرار صراع مختلف القوي السياسية, واختلافها حول إدارة شئون البلاد قد يؤدي إلي انهيار الدولة, ويهدد مستقبل الأجيال القادمة, وأن استمرار هذا المشهد دون معالجة من جميع الأطراف يؤدي إلي عواقب وخيمة, تؤثر علي ثبات واستقرار الوطن, وأري أن تصريحات وزير الدفاع هذه ليست مجرد ترجمة للواقع فقط, وإنما هي بمثابة إنذار أيضا إلي جميع القوي لتدارك هذا الوضع, علي اعتبار أن القوات المسلحة هي الملاذ الأخير الوطني والمتماسك, الذي استغاثت به شوارع مدينة بورسعيد, حيث تأزمت الأمور, وهي حائط الصد المنيع الذي نلجأ إليه جميعا كلما استحكمت حلقاتها.
ولأن الأمر كذلك..
فقد نجد في الأزهر ونقابة الأشراف, في هذه المرحلة, بصيص الأمل الذي ننشده لصياغة توافقية بين القوي المختلفة, وذلك بالقيام بمزيد من الجهود في هذا الصدد, إلا أن ذلك لا يعني أن الدولة بأجهزتها المختلفة يمكن أن تستمر متخاذلة في مواجهة ما يحدث علي أرض الواقع من أحداث عنف وتخريب وتدمير, وذلك لأن ممارسات الغوغاء هذه, إن استمرت أكثر من ذلك, فنحن أمام عد تنازلي لانهيار الدولة, وليس مجرد سقوط نظام, فنحن علي شفا كارثة اقتصادية غير مسبوقة يؤكدها التخفيض الائتماني الجديد ــ حسبما أكد مصدر مصرفي ــ حيث يزيد ذلك من أعباء وتكلفة التعاملات التجارية, وفتح الاعتمادات والنقل والشحن مع العالم الخارجي, علاوة علي تآكل مؤشر الثقة في الاقتصاد من جانب المؤسسات الدولية علي اختلاف نشاطها المالي والاستثماري والتمويلي, أضف إلي ذلك ما أكده مصدر آخر بالبورصة المصرية من أن هناك انسحابا منظما للمتعاملين بالبورصة تراجع معه عدد المتعاملين من270 ألفا إلي70 ألفا فقط.
ولن يتوقف أمر الكوارث, بالتأكيد, علي الوضع الاقتصادي فقط, فهو الذي يلقي بظلال سريعة علي الوضع الأمني, والوضع الاجتماعي, وهي كارثة حقيقية, وخاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن معظم المأجورين, الذين يعيثون في الأرض فسادا الآن, هم ضحايا عقود سابقة من التهميش أصبحوا خلالها مشردين بالشوارع, أو بلا عمل, أو مسجلين خطر أو محترفي إجرام, وهو ما جعلهم فريسة سهلة للاستغلال مقابل أجر, حتي لو كان ذلك العمل هو حرق مصر ونهبها, فهؤلاء سوف يروعون الآمنين, بل سيدخلون عليهم بيوتهم, بأجر أيضا, وهؤلاء سوف تكون لهم السيادة علي الشارع, في غياب سلطة الأمن, ومن هنا رأينا بين القوي السياسية من يعلن أننا: ليست لنا سيطرة عليهم, وهو في الحقيقة يريد أن يعلن أننا: لم نعد نسيطر عليهم, وهذه هي الحقيقة, فقد أصبح هناك من يمول أكثر, ليس بهدف الحصول علي مكاسب سياسية, وإنما بهدف التخريب والتدمير, ولذلك يمكن الجزم بأن الأمور قد خرجت عن السيطرة, إذا لم نصل إلي رأس الأفعي في كل موقعة.
ولنا أن نتصور, وسط هذا السيناريو الواضح والكئيب, التحذير شديد اللهجة الذي صدر عن وزير الدفاع, إلا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئا لدي القوي السياسية علي مختلف أطيافها, فراحت ترفع من سقف مطالبها, وتزايد علي أبناء شعبها, وكأنها تعيش في واد, وأبناء الوطن في واد آخر, وفي خضم الأزمة, وجد العابثون بأمن البلاد أرضا خصبة لتحقيق مآربهم, فكان المزيد من الحرائق, والمزيد من قطع الطرق, والمزيد من التحدي لسلطة الدولة.. ووسط الأزمة أيضا, كان تلويح صندوق النقد الدولي بتأجيل الموافقة علي القرض المتعثر أساسا, وذلك بالقول إن انتهاء حالة الخلاف والشجار السياسي أمر مهم, لضمان تحقيق التوافق علي خطة الإصلاح الحكومية, وتوفير المساندة المجتمعية لها, وهو أمر لازم لاستمرار ونجاح تنفيذ الخطة, حسب تصريحات أحد مسئولي الصندوق.. ووسط الأزمة أيضا, كانت تصريحات المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل بأن دعم مصر مرهون بتحقيق الاستقرار, وتحذيرات عواصم عديدة لمواطنيها من السفر إلي مصر, ولم لا؟, وهي مصدر خطر, ولم لا؟, وأهلها غير آمنين, فكيف بالآخرين؟!
المطلوب الآن..
هو أن تنحني جميع القوي الفاعلة وغير الفاعلة تحت علم مصر ورايتها, وذلك بالتسليم أولا وأخيرا بأن مصلحة مصر وشعبها فوق كل اعتبار, والجلوس علي مائدة حوار واحدة دون شروط مسبقة, مع التأكيد أن صناديق الانتخاب هي الطريق إلي مقعد الرئاسة, والبرلمان, ومن ثم مقاعد الحكومة.. والمطلوب الآن, هو أن تعلن جميع القوي استنكارها لذلك العنف الشائع في المجتمع تحت عناوين المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات, والتعامل مع الأزمة علي أرض الواقع, وليس من خلال تصريحات ملتوية.. والمطلوب الآن هو إجراء مصالحة سريعة مع مدن ومحافظات القناة, فهم درع مصر في الماضي والحاضر والمستقبل, في ظل استمرار وجود عدو حقيقي علي حدودنا الشرقية يبدو أننا قد تناسيناه في ظل هذا الغباء السياسي المستحكم, وفي ظل التكالب علي فتات مقاعد تنفيذية لا تسمن ولا تغني من جوع.. والمطلوب الآن هو إجراء مصالحة سياسية مع أعضاء الحزب الوطني المنحل إذا أردنا استقرارا حقيقيا, فهم في النهاية يمثلون عائلات وقبائل ربما كانت أكثر وطنية وإخلاصا لمصر مما نشاهده علي الساحة الآن.
علي أي حال..
هي سفينة واحدة يجب أن نعبر بها جميعا إلي بر الأمان, وواهمون هم من يتصورون أنهم بمنأي عن الغرق, في حال تعثرت في الإبحار, اللهم إلا من يحملون جوازات سفر أجنبية, وأرصدة بالخارج, وهم الذين يغالون في التشدد والتزيد الآن, فهؤلاء يجب أن يكونوا خارج اللعبة السياسة أيا كانت أوراقها, وواهمون هم من يتصورون أن بإمكانهم القفز علي الشرعية, علي غير إرادة الشعب, وذلك لأن الثورة قد اندلعت أساسا لمواجهة مثل هذه الممارسات المستبدة, وعقارب الساعة لا يمكن أن تعود أبدا إلي الوراء, وواهمون هم من يتخيلون أن التاريخ يمكن أن يغفر لهؤلاء أو أولئك, أو أن الشعب يمكن يتغاضي عمن أسهموا أو ساعدوا علي إيجاد أجواء التوتر هذه, وإذا كانت جبهة الإنقاذ حالة عابرة علي غرار الشيء لزوم الشيء, فإن رئيس الدولة مع الحكومة حالة سياسية مرتبطة بزمن محدد, أما مصر, فسوف تبقي ما بقيت هناك حياة, وهو أمر بدا واضحا أننا لم نعد ندركه جيدا.