بعد رحيل الرئيس الأسبق, ظننا أننا مقبلون علي حياة مختلفة, من الاستقرار, والإنتاج, والجدية, والشفافية, والحرية.. وبعد رحيل الرئيس السابق, كان أملنا أن نبدأ مرحلة جديدة من العمل, والتنمية, والانطلاق, والتآلف, والهدوء, علي أمل تعويض ما يقارب الثلاثة أعوام من الانفلات, والاهتراء, والتراجع, والفوضي, والكسل, إلا أن الحال ظلت هي الحال, وبالتالي ظلت المخاوف من المستقبل كما هي, وبات التوجس سيد الموقف.
هذه هي الحقيقة التي يجب أن نقر بها جميعا, وهي أن الحالة العشوائية, التي عاني منها المجتمع طوال تلك الفترة, مازالت تلقي بظلالها علي جميع مناحي الحياة, مع مظاهرات عبثية آن لها أن تتوقف, ومؤامرات داخلية يجب مواجهتها بحزم, وضغوط خارجية من المهم التصدي لها بقوة, ناهيك عن أن حالة الخمول هذه, التي عانت منها جميع القطاعات, يجب أن نقاومها بعلاج جذري.
القضية إذن ليست مجرد خريطة طريق سياسية, سوف يتم تنفيذها, إن عاجلا أو آجلا, لأن هذه هي طبيعة الأشياء, وإنما القضية أكبر من ذلك بكثير, مما يتطلب قيام كل مسئول في موقعه بتحمل مسئولياته كاملة تجاه هذه المرحلة, بحساب عسير علي التقصير واللامبالاة, والضرب بيد من حديد علي مثيري الشغب والقلق والتوتر في المجتمع, وما محاولة اغتيال وزير الداخلية أمس إلا نموذج لما يمكن أن تنزلق إليه البلاد من فوضي شاملة, حال التراخي في التعامل مع الموقف.
وبجانب أنها مهمة الدولة الرسمية, ممثلة في الحكومة, فهي بالدرجة الأولي, أيضا, أصبحت شئنا أم أبينا ـ مهمة قواتنا المسلحة, التي أولاها الشعب ثقته, حينما طلبت منه, من خلال وزير الدفاع, النزول إلي الشارع لتفويضها في إدارة أزمة البلاد, وإذا كان هناك من يسعون إلي تقويض مهمة هذه القوات, فمن المهم أن نعي خطورة هذا المسعي في هذه المرحلة, وأن نواجهه علي كل المستويات السياسية, والإعلامية, والعملية, وخاصة بعد أن رأينا أن القيادة العسكرية تتعامل الآن مع هذه القضية علي استحياء, نافية عن نفسها طوال الوقت' شبهة' التدخل في إدارة شئون البلاد, علي الرغم من أنه مطلب شعبي, وسوف يظل كذلك إلي حين عودة الحياة الطبيعية.
لقد أخطأت القيادة العسكرية التقدير, حينما سارعت بالانسحاب من المشهد السياسي عام2012 تحت ضغط من بعض الفصائل- ذات المصلحة- وتحت شعار ما كان يجب أبدا أن يتردد وهو' يسقط حكم العسكر', وبالتالي كان من الطبيعي أن يقفز علي المشهد فصيل بعينه, مادامت الضغوط قد آتت أكلها, ومادام المجتمع لم يصل بعد إلي حد النضج السياسي, الذي يؤهله للانتقال إلي المرحلة الأكثر إشراقا, وها قد بدا واضحا أننا لم نستفد من دروس الماضي, فراحت قوي أخري تقفز علي المشهد الحالي في غيبة من الشعب, الذي انشغل بأموره الحياتية القاسية, وما يلبث إلا أن يفاجأ بتكرار المأساة, التي يتصدرها الآن أصحاب نفس الشعار في السابق, لنظل ندور في حلقة مفرغة من التشويش والانكسار, ويظل المواطن الطبيعي هو الضحية لهذه المؤامرات التي تنطلق من أيديولوجيات, مصر الكنانة منها براء.
ربما لا يعلم الكثيرون في بر مصر أن هناك مليوني شخص يقتاتون من عائد السياحة, التي أصبحت شبه منعدمة, وبالتالي فهؤلاء يعيشون الآن أسوأ مراحل حياتهم علي الإطلاق, وربما لا يدرك البعض خطورة إغلاق أكثر من ثلاثة آلاف مصنع خلال العامين ونصف العام الماضية, بعد تسريح العمالة التي كانت تعمل بها, وربما لا يعي هؤلاء, وأولئك عواقب إحجام رأس المال الأجنبي عن دخول البلاد طوال هذه الفترة, مع تزايد أعداد الخريجين, وارتفاع أعداد العاطلين, وقد لا ننتبه إلي خسائر شركات الطيران, أو سوق الأوراق المالية, أو حركة التجارة, أو الإنتاج الصناعي, أو السكك الحديدية التي بلغت خسائرها خلال أسابيع حظر التجوال فقط أكثر من مائة مليون جنيه, ناهيك عن خسائر شركات النقل والمقاولات, والمؤسسات الصحفية, وأسواق العقارات, والسيارات, بالإضافة إلي الديون الداخلية والخارجية التي تجاوزت1.5 تريليون جنيه.
نحن إذن..
أمام أزمة تتطلب الكثير من الإجراءات الحاسمة, انطلاقا من المادة الرابعة في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية, التي تنص علي أنه' في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تتهدد حياة الأمة, والمعلن قيامها رسميا, يجوز للدول الأطراف في هذا العهد أن تتخذ في أضيق الحدود, التي يتطلبها الوضع, تدابير لا تتقيد بالالتزامات المترتبة عليها في هذا العهد', وخاصة أننا أمام حالة طوارئ قائمة بالفعل, نتيجة' حرب استنزاف' يخوضها الشعب في سيناء في مواجهة إرهابيين لا يتورعون عن القيام بأعمال قتل, وتخريب, وتفجير, ونتيجة تظاهرات يومية في الأقاليم المختلفة, تستهدف وقف حال البلاد والعباد, وإثارة القلق والفوضي, ونتيجة طابور خامس ينتشر في المؤسسات الرسمية للدولة, يعبث بمقدراتها, انطلاقا من أجندة خارجية معلنة إلي حد كبير.
وهذه الإجراءات الحاسمة, لمواجهة ما نحن فيه الآن, أري أنها تتمثل في التالي:
< انطلاقا من قانون الطوارئ, وقف جميع المظاهرات في أنحاء البلاد تحت أي دعاوي أو مسميات لمدة عام علي الأقل.
< تجريم الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات, فئوية كانت أو سياسية, آخذين في الاعتبار الظروف الراهنة الداخلية والخارجية.
< إلغاء المحاصصة السياسية والطائفية حال تشكيل أي مجالس من أي نوع, علي اعتبار أن الأولوية للأكفأ والأصلح والأقدر علي العطاء.
< خضوع التمويل الأجنبي لأي منظمة أو جمعية لإشراف الدولة, مع النص علي عقوبات مشددة للمتجاوزين, مع أهمية فتح الملفات السابقة في هذا المجال.
< قصر التعامل مع السفارات الأجنبية علي وزارة الخارجية, أو من خلالها, وألا يسمح لأعضاء هذه السفارات بالتدخل في شئوننا الداخلية, إعمالا لمبدأ المعاملة بالمثل.
< فتح قنوات اتصال مباشر مع قيادات الجماعات الشاردة, التي تعلن وتعمل علي نبذ العنف, أملا في إعادة تكوينها بالشكل الذي يضع مصلحة مصر أولا, قبل أي اعتبارات أيديولوجية, أو مكاسب سياسية.
< إعطاء الأولوية لشبه جزيرة سيناء في التنمية والبناء, بما يجعلها أكثر جذبا للاستثمار, وبما يتيح توطين أكبر قدر ممكن من السكان هناك خلال السنوات القليلة المقبلة.
< بدء حملة لجمع السلاح غير المرخص, وإعادة النظر فيما تم ترخيصه, علي اعتبار أن هذه الآفة قنبلة موقوتة تهدد أمن وسلامة المجتمع.
< أهمية التركيز علي الأمن الجنائي بمختلف صوره وأشكاله, بعد أن استحوذ الأمن السياسي علي الجزء الأكبر من جهود الأجهزة المختصة, مما فاقم من حالة الانفلات في المجتمع.
< تشديد العقوبة الجنائية علي البلطجة بشتي فروعها, من سرقة سيارات ومنازل, وخطف, وتحرش, وترويع آمنين, وتهديد, وفرض إتاوات, واحتلال شوارع وأرصفة.
إذن..
نحن الآن في حاجة إلي يد حازمة تستطيع استعادة هيبة الدولة, وقيادة وطنية تستطيع تحقيق تطلعات الشعب, وإرادة قوية يمكنها نشر الأمن والأمان في ربوع المجتمع, ولن يتحقق أي من ذلك أبدا من خلال فصيل سياسي يسعي الآن إلي فرض الهيمنة, وإنما من خلال فترة انتقالية قد تمتد لعامين, يفرز خلالهما المجتمع كوادر جديدة لم تتلوث يدها, لا بالدماء, ولا بالأموال, وهو الأمر الذي يحتم علي قواتنا المسلحة حمل هذا العبء جنبا إلي جنب مع الحكومة, مع مواجهة كل من يحاول الانتقاص من هذا الدور, أو التشكيك فيه, آخذين في الاعتبار أنها رغبة الغالبية العظمي في المجتمع, حتي لو تطلب الأمر استفتاء جماهيريا في هذا الصدد, ولنعترف بأن فشل التجربة الحزبية لدينا كان سببا رئيسيا في هذه الحالة, التي وصلت إليها البلاد, ويجب عدم القفز علي هذه الحقيقة.
هي إذن لحظة فارقة في حياتنا, يجب أن نتعامل معها دون زيف أو تلوين, وذلك بعد أن عانينا من تجربتين مؤلمتين, كانت الدماء, والقتل, والحرق قواسم مشتركة بينهما, وكانت الهيمنة, والاستحواذ, والاستئثار بالسلطة سمات واضحة في سياستهما, وكان التخبط السياسي, والإخفاق الاقتصادي علامة بارزة في كلتيهما, وبالتالي يجب ألا نراهن علي عامل السرعة في إنجاز الملفات المطروحة, بقدر ما يجب أن نتريث كثيرا في دراستها وصقلها بما يتناسب مع عظم المسئولية, وحجم التركة الموروثة المثقلة بالتعقيدات داخليا وخارجيا, وأعتقد أن التحرش بالشقيقة سوريا الآن للانقضاض عليها عسكريا, بين لحظة وأخري, هو أحد العوامل المهمة التي تجعلنا مطالبين بإعادة النظر في الشأن الداخلي والخارجي علي السواء, ولن يكون ذلك بالتأكيد إلا من خلال القوات المسلحة أيضا.
ولأن الأمر كذلك..
ولأن الخطر أصبح داخليا وخارجيا في آن واحد, فلن يكون بمقدور أي مواطن صالح القبول باستمرار محاولات زعزعة الأمن والاستقرار من أي فصيل, وهو ما يتطلب من هؤلاء وأولئك إعادة النظر في هذه السلوكيات, التي تعد خصما من رصيدهم الجماهيري سياسيا واجتماعيا, وسوف تحتاج هذه الفصائل إلي عشرات السنين لإعادة بناء الثقة مع المواطن مرة أخري, وذلك لأن الأمر الآن يتعلق بمستقبل الوطن- كل الوطن- وهو ما يدركه العامة والخاصة علي السواء, ولن يستطيع أحد بأي حال, ولا تحت أي ذرائع, إيهام الشارع بخلاف ذلك, بل إنني علي يقين من أن أنصار هذا الفصيل, أو ذاك, حينما يدركون الحقيقة سوف ينفضون من حول قيادته إلي غير رجعة, لأن هذه هي الشخصية المصرية التي تهرع إلي الالتفاف حول راية الوطن في المحن والشدائد مهما تكن المغريات.
وسوف نظل نردد ما رددته القيادتان السياسية والعسكرية من أن مصر للجميع, وتتسع لجميع التيارات, إلا أننا في الوقت نفسه يجب أن نؤكد أن مصر أولا, وبالتالي فليس مقبولا أبدا التحريض علي مصر من فوق منابر الخطابة في دولة ما, من خلال أحد علماء الدين, أو بعلاقات مع عواصم أجنبية, من خلال أحد أدعياء السياسة, وهو الأمر الذي وجد استهجانا واسعا من فئات الشعب المختلفة, ومن بينها من كانوا يناصرون هذا أو ذاك, وقد تكون الأرض قد ضاقت عليهم بما رحبت في مصر, إلا أنها سوف تظل فسيحة أمام كل أصحاب العقول الرشيدة الذين يسعون إلي إعمارها والذود عنها, وها هم الأشقاء العرب يمدون أيديهم بسخاء إيمانا منهم بحق مصر عليهم, في النصرة, والدعم, ولم لا؟, وهي مصر التي حباها الله سبحانه وتعالي في القرآن الكريم بما لم يحاب به غيرها.
علي أي حال..
هي معركة أجدها ممتدة, بين الاستقرار وزعزعة الاستقرار.. بين الاستقلال واستمرار التبعية.. بين شعب مسالم وأيديولوجيات تحاول أن تفرض نفسها, وفي النهاية حتي لو طالت هذه المعركة سوف تنتصر إرادة الشعب, إلا أن علينا أن نخوضها دون تردد علي كل الجبهات, الداخلية منها والخارجية, وخاصة أن الارتباط وثيق بين هذه وتلك, فالداخل لم يعد يخفي مساوئه, كما الخارج لم يعد يخفي مآربه, إلا أننا يجب أن نثق في أنفسنا, وفي حضارتنا, وفي تاريخنا, وفي قيادتنا, وفي الوقت نفسه نسمو فوق الخلافات, ونترفع أمام الصغائر, وذلك لأن الأعين تترقبنا من كل جانب, والخطر يحدق بنا من كل صوب, وهو ما جعلنا نناشد الجميع تحكيم لغة العقل والمنطق والضمير, قبل أن تقع الكارثة.
.. وللحظر أيضا إيجابيات!
لا شك أن فترة حظر التجوال, التي عشناها علي مدي الأسابيع الماضية, قد عالجت سلبيات كثيرة اعتادها المجتمع, علي مدي تاريخه الحديث, من إسراف في المرافق والخدمات, وعشوائية في الممارسة الحياتية, في غياب من الدولة الرسمية, التي كانت, ومازالت, تبحث دون جدوي, ودون جدية, في وسائل تخفيف ذلك الإسراف, وتنظيم تلك العشوائية.
فقد أسهم الحظر دون قصد في تحقيق بعض ما كانت تسعي إليه الحكومات المتعاقبة في هذا الصدد, بدءا من ترشيد الكهرباء, نتيجة إغلاق المحال التجارية أبوابها في ساعة مبكرة, وهي القضية التي استحوذت علي مناقشات مستفيضة ودراسات عقيمة, علي مدي سنوات طويلة, كما أسهم في ترشيد استخدام البنزين والسولار, نتيجة اختفاء السيارات ليلا, في الوقت الذي انخفضت فيه نسب التلوث في المدن إلي درجة كبيرة, للسبب نفسه.
ولن نخوض في العوامل الاجتماعية, حيث لم شمل الأسر, وتخفيض الإنفاق علي المقاهي, التي أصبحت إحدي آفات العصر, أو العوامل الأمنية, حيث تراجع نسبة الجريمة ليلا, علي الرغم من استشرائها في عز الظهر, إلا أن هذه القضية المتعلقة بالحظر يجب أن تفتح الباب واسعا أمام إعادة النظر فيما اعتدناه من سلوكيات خاطئة في حياتنا, بما يسهم في استمرار ذلك الترشيد علي كل المستويات.
وإعادة النظر, هذه, سوف تحتاج إلي قرارات فوقية لا تقبل المساومة, بما يتناسب وطبيعة المرحلة, وإلي تعاون شعبي أعتقد أن الشارع مهيأ له الآن أكثر من أي وقت مضي, وذلك لأننا قد نعود فور رفع الحظر إلي الأزمات ذاتها, من انقطاع للتيار الكهربائي, ونقص في المواد البترولية, ومزيد من جرائم ما بعد سهرات الإدمان والتعاطي... إلي غير ذلك من الإخفاقات, ومظاهر الانفلات.
وإذا كنا نطالب بتدارك هذه الأوضاع من خلال القنوات الرسمية للدولة, فإننا هنا لسنا الحالة الفريدة في هذا المجال, وذلك لأن سلوكيات العالم المتقدم قد اعتادت ذلك رسميا وذاتيا منذ زمن بعيد, إلا أن الأوضاع لدينا كانت قد خرجت عن السيطرة علي مدي عقود عديدة, في الوقت الذي استكانت فيه السلطة الرسمية أمام هذا الانفلات لأسباب واضحة, وصلت إلي حد استرضاء المشاغبين والبلطجية في أحيان كثيرة, فأصبحوا يحتلون الشوارع حتي الساعات الأولي من الصباح.
القضية إذن لا تحتاج إلي تشكيل لجان للبحث والدراسة والإحالة, كما كان يحدث في السابق, كما لا تحتاج إلي استطلاعات رأي استهدفت دائما إجهاض الموقف, وإنما تحتاج فقط العزيمة والإصرار, لنبدأ مرحلة مرحلة جديدة يشعر معها المواطن بأن هناك شيئا ما قد تغير في حياته إلي الأفضل, ويدرك من خلالها أن هناك دولة تدير, وأن هناك وطنا يستحق.
ومن هنا أري ضرورة النص علي, إغلاق المحال التجارية, والمقاهي, وما شابه ذلك في الثامنة مساء, وتوقف وسائل النقل العام والباصات في التاسعة ليلا, مع عودة' حرس الدرك' إلي سابق عهد في الأزقة والحواري مساء, للتعامل مع الخارجين عن القانون الذين قد يجدون ضالتهم في مثل هذه الظروف.
وأعتقد أن مثل هذه الإجراءات سوف تجد تعاونا شعبيا واسعا, وخاصة بعد أن يجد المواطن أنها قد حققت أهدافها اقتصاديا وأمنيا واجتماعيا, لنحقق بحكومة مؤقتة, ما لم تستطع حكومات طويلة العمر تحقيقه, وربما تكون هذه هي الإيجابية الحقيقية التي تسجلها الذاكرة لهذه الحكومة, في ظل هذه الظروف, متشابكة الأطراف, وغامضة الملامح.