إذا كانت الديمقراطية هي ذلك الشكل من الحكم القائم علي حكم الأكثرية والتداول السلمي للسلطة لتحقيق حكم الشعب بنفسه ولنفسه فهي بذلك وسيلة لبناء المجتمع وإدارته وتسوية تناقضاته ورؤاه المختلفة سلميا.
وعن طريق الحوار وصناديق الانتخاب ولتستمد عن طريقها الحكومات شرعيتها فإذا فهمت وطبقت بأساليب خاطئة وغوغائية من قطاعات ليست هينة من حيث العدد والوزن فإنها تصبح بذلك وسيلة تخريب للوطن وهدم مؤسساته يتعين وقفها حتي تهدأ الأمور ويستعيد الوطن توازنه.
أسفرت محاولة إقامة نظام ديمقراطي علي مدي العامين الماضيين عن أغلبية كبيرة لا تملك أدوات أو مهارات قيادة دولة بحجم وثقل مصر وعن أقلية معتبرة لديها الكفاءات والخبرات التي توظفها ليس للبناء والإصلاح بل فقط لإسقاط من بالحكم, فالأولي مرتبكة وعاجزة وهي تكتشف يوما بعد يوم جسامة المسئولية وتعقد المشكلات وأن اعتبارات متخذ القرار ليست كاعتبارات المطالب به والثانية متربصة بالأولي وحصرت أهدافها في إسقاطها وسخرت لذلك كافة إمكاناتها وهي غير قليلة, كما أسفرت المحاولة عن سقوط ليس فقط حاجز الخوف ولكن معه أيضا القيم والأخلاق لدي الكثيرين فغاب الوازع بعد أن غاب الرادع وانطلقت جموع كثيرة منتهكة القوانين والأعراف وكأنه انتقام مجنون من كل ما يمكن اعتباره سلطة بشرا كان أو حجرا, وامتدت النتائج إلي العديد من مؤسسات الدولة التي اختل أداؤها بشدة فالشرطة عاجزة عن فرض القانون بالكامل في غيبة الإمكانات والقبول الشعبي و أصبح القضاء طرفا في معترك السياسة ولم يبق متماسكا إلا الجيش الذي لا يتدخل احتراما لمهنيته وتفاديا لاجتراء البعض الذي أساء تفسير اجتنابه الصدام المادي أو المعنوي مع أي من فصائل الشعب بأنه ضعف يسمح بالتطاول عليه.
فشلنا إذن في إقامة النظام الديمقراطي المأمول والذي يدعي الجميع حرصهم علي إقامته وبافتراض التمكن من إقامة مثل ذلك النظام فإن المعطيات الحالية تنبئ بعدم نجاحه فمن حالة الاستقطاب والتربص والتخوين والتصادم الحالية يمكن توقع كيف ستكون الأوضاع عقب إقامة ذلك النظام الذي يرجح أن يكون نظاما ديمقراطيا تجري فيه انتخابات حرة ونزيهة ولكنه فاشل بمعني عجزه عن حل مشكلات البلاد الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والأمنية مثله في ذلك مثل الأنظمة التي قامت في بعض دول أمريكا اللاتينية أواخر القرن العشرين وتركيا ما قبل أوردجان وباكستان الحالية, هذا في الوقت الذي حققت فيه دول أخري إنجازات هائلة وصفت بالمعجزة في ظل أنظمة حكم غير ديمقراطية كالصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة, فليست العبرة بما نكتبه في الدستور أو نسنه من قوانين أو ما تعلنه الأحزاب من برامج تعلي من شأن الحريات وحقوق الإنسان فعلي أهمية ذلك جميعا فإن العبرة بما يجري علي الأرض من ممارسات فعلية تمثل في مصر الآن نموذجا لكيف تكذب الأفعال الأقوال.
لم يعد الخيار أمام مصر الآن بين أن تكون دولة ديمقراطية أو غير ديمقراطية وليس بين أن تكون دولة دينية أو مدنية بل أصبح الخيار بين أن تكون دولة أو لا دولة فالدولة كما يعرفها رجال القانون هي أرض وشعب وسلطة فإذا فقد أحد أضلاع هذا المثلث فقد صفته كمثلث أي لم تعد هناك دولة وهو ما تسير إليه مصر الآن بخطي حثيثة بالانهيار المتتابع للسلطة, فإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك بالفعل فإننا لا نملك ترف الانتظار حتي تصحح الديمقراطية أخطائها بنفسها فإذا استمرت الأمور علي ما هي عليه واستمر الفرقاء السياسيون في صراعهم الذي لا تحده حدود فستكون النتيجة حتما انزلاق البلاد إلي دمار وإفلاس كاملين وإلي اضطراب شديد في سيناء التي تحاك المؤامرات لسلخها عن الوطن وهو ما لن يوقفه وقتها سوي ديكتاتور يتمتع بسلطات مطلقة لا تحدها قيود دستورية فعالة ليس بغرض قهر الشعب أو نهب ثرواته أو الانحياز لفصيل دون آخر أو الإعداد لتوريث الحكم لأبنائه بل لإنقاذ الوطن والشعب من مصير مظلم ينتظر الجميع ولإعادة بناء مؤسسات الدولة ولوضع أسس التحول الديمقراطي في مناخ لا يقتل فيه المصريون بعضهم البعض وفي ظل سلطة قوية قادرة علي وقف العبث والانفلات والتخريب فسوف يكون ذلك هو الدواء المر الذي لا مفر منه ليس كفرا بالديمقراطية كمبدأ, ولكنه حل واقعي لمشكلة استفحلت حتي صارت كارثة فهو ذلك النوع من الحلول الذي وصفه الخيام في رباعياته بقوله وعف زلالا ليس فيه الشفي.. واشرب زعاف السم لو تشتفي.