سمعت وشاهدت كغيرى كلمة الرئيس الأسبق أو المخلوع أو المتنحى أو المتهم محمد حسنى مبارك التى ألقاها أمام محكمة جنايات القاهرة، أثناء دفاعه عن نفسه فى محاكمة القرن، وبعيداً عن الفرصة السانحة التى أُتيحت له للدفاع عن نفسه هو وغيره من قيادات النظام البائد، والتى لم تُتح لغيرهم، وبعيداً عن الوقوف فى موضع التعليق على قرارات وأحكام القضاء المصرى الذى نثق فيه ونقدره، فقد شعرت بأن العدالة لن تستقيم قبل أن تعطى المحكمة الفرصة أيضاً للمجنى عليهم مثلما أعطتها للجانى أو المتهم.
المجنى عليهم هنا هم التسعون مليون مصرى، الذين تحدث إليهم مبارك مُبرئاً نفسه من كل خطاياه فى حقهم، واكتفى فقط بالتوضيح بأنه لا يدعى لنفسه الكمال، وأنه كأى إنسان يُصيب ويُخطئ، وأنه تحمل المسؤولية بإخلاص وشرف، وأن التاريخ سيحكم عليه وعلى غيره بما له وما عليه، وأنه رغم توخيه الحذر والدقة فى كل قراراته إلا أن التوفيق لم يحالفه فى بعضها، وأن حديثه هذا قد يكون الأخير قبل أن يوارى جسده التراب ويلاقى ربه، لكنه مرتاح الضمير، لا أعرف كيف.. لكنه مرتاح الضمير!
وتوقفت كثيراً عند كلمته «مرتاح الضمير» باحثاً عن مبرر واحد لراحة ضميره، لينهال على ذاكرتى سيل من التاريخ الأسود لحياة المصريين فى ظل هذا العهد البائد، وتصورت أننا لو أردنا أن نختار واحداً ممثلاً للشعب المصرى فى تلك المحاكمة ليتحدث باسم الشعب المصرى كدليل إدانة، سنجد ملايين المتطوعين، فلا يخلو بيت فى مصر من جريمة فى حقه أصابت أحد أفراده، أو أصابتهم جميعاً، فقد يكون واحداً من ملايين المصريين الذين خارت قواهم وانتفخت بطونهم واصفرت أعينهم بعد أن أذاب أكبادهم فيروس سى، أو واحداً من طريحى الأرض أمام المستشفيات انتظاراً لدوره من أجل غسيل كليته، أو مُعاقا أو مريض سرطان أو عاطلا عن العمل أو هاربا من حكم بالسجن فى قضية شيك بـ500 جنيه، أو يائساً من حياته وجد فى مياه النيل الحضن الدافئ الذى لم يجده فى الحياة، أو قاتلاً لأبنائه وزوجته لعدم قدرته على الإنفاق عليهم، أو مريضاً عقلياً لم يتحمل عقله قسوة الحياة، أو قد يكون أحد ضحايا زبانيتك وأباطرة عهدك البائد ممن تركت لهم البلد ليعبثوا بها وبنا كيفما أرادوا، ويتحكموا فى مصائرنا، وقد يكون واحداً من ملايين الأطفال المشردين فى الشوارع ممن فُعِل بهم كل ما يتخيله ولا يتخيله العقل.
وربما يكون واحداً من 75 راكباً من الذين قُتلوا عام 1995 فى حادث تصادم قطار بمؤخرة قطار آخر فى القاهرة، أو واحداً من ضحايا قطار الإسكندرية عام 1997، أو قطار العياط عام 2002 الذى راح ضحيته أكثر من 1000 مسافر منهم 300 تفحمت جثثهم، أو ربما واحداً من ضحايا قطار المنصورة عام 2006، وقطارات أخرى لم تُمح ذكراها المؤلمة حتى الآن من ذاكرتنا.
فالقائمة كبيرة يا ريس، يا ترى ضميرك لسه مرتاح؟! ربما كنت تحتاج من يُذكرك بـ476 حاجاً غرقوا فى الباخرة المصرية سالم إكسبريس عام 1991، أو غرق العبارة السلام 95 عام 2005، والعبارة السلام 98 عام 2006 وغرق 1400 بنى آدم. ولن أتحدث عن مستنقع الجهل والأمية الذى انغرست فيه أقدامنا جميعاً، والذى أعتبره أعظم جريمة أُرتكبت فى حق مصر والمصريين.
يا ترى لسه ضميرك مرتاح يا ريس قبل أن يوارى جسدك التراب؟!!!!