وأغلب هذه الخلايا الإرهابية دخلت فيما عرف بالمجلس الوطني الانتقالي المؤقت الليبي يوم 27 فبراير 2011، وكان رأسه مصطفى عبدالجليل وقد سيطرت مجموعة من العناصر الجهادية والتكفيرية وأصحاب الفكر القاعدي على هذا المجلس، وصبغ بدوره شرعية على تلك الميليشيات التي تعامل معها باعتبارها بديلا عن المؤسسات الأمنية والشرطية بليبيا، بدلا من إعادة تفعيل الشرطة المدنية، كما كانت تلك الميليشيات تعمل بالاتفاق مع الحكومة، والتي أعطتها الحق في اعتقال الأشخاص ووضعهم في سجون تابعة لها، بالإضافة لترسانة الأسلحة التي تمتلكها، ناهيك عن دعمها من خلال الناتو في فترة القتال ضد قوات القذافي، وقد حاولت رئاسة الأركان الليبية السيطرة على تلك الميليشيات من خلال وضعها تحت قيادة الجيش، كما أعلنت رفضها وجود أي ميليشيات خارج الإطار الرسمي للدولة، إلا إن هذا الأمر باء بالفشل وما زالت تلك الميليشيات تعمل بشكل منفصل عن الدولة، خاصة مع تدفق الأسلحة القادمة إليها من تركيا وقطر، بخلاف سيطرتها على منابع النفط، وقد كشف رفيق الشلي– مدير الأمن الخارجي سابقا بتونس– عن أن طائرات قدمت من قطر إلى ليبيا مليئة بما اسماهم «المجاهدين» وهو ما يفسر نجاحات «أنصار الشريعة» في ليبيا، واحتلالهم قاعدة لقوات الصاعقة التابعة للواء حفتر في بنغازي، كما أكد المصدر ذاته في تصريح لصحيفة تونسية أن المجموعات الإرهابية القادمة من «داعش» ومن بينها عدد كبير من التونسيين يتراوح بين 4-5 آلاف هدفها السيطرة على طرابلس ثم احتلال الزنتان، وفي هذه الحالة ليصبح الخطر أكبر على تونس، حيث سيتم وفق تقديره «اقتحام الجنوب عبر الحدود ثم تأتي عملية التمركز»، وكان من نتيجته تفاقم هذه الصراعات المسلحة أن بدأت الدول الأخرى في سحب ممثليها من ليبيا، ومطالبة مواطنيها بمغادرة البلاد، لا سيما بعد أن أدى تدهور الوضع الأمني إلى تصاعد العنف والسرقات والخطف من أجل الحصول على فدية.
البعد السياسي للصراعات المسلحة في ليبيا
يرى عدد من المحللين أن الإسلاميين يسعون إلى التعويض عن هزيمتهم في الانتخابات التشريعية التي جرت في 25 يونيو الماضي بتسجيل مكاسب على الصعيد العسكري، وهو ما انعكس في انطلاق ميليشيات جماعة الإخوان في مصراتة وحلفائهم في المدن الأخرى في تنفيذ خطة انتقام من أعضاء مجلس النواب الليبي الجديد الذين التحقوا في مدينة طبرق لافتتاح أول جلسة للمجلس، ورفضوا الانصياع لأوامر جماعة الإخوان بمقاطعة الجلسة الافتتاحية، حيث تم تفجير بعض منازل هؤلاء النواب، وطرد عائلاتهم من مدينة زلتين، ومن المعروف أن البرلمان الليبي الجديد الذي عقد أولى جلساته بطبرق في 4 أغسطس الماضي، قد حضره 157 عضو من 188 وقاطعه 31 نائبًا لبُّوا دعوة نور بوسهمين رئيس المؤتمر الوطني (البرلمان) المنتهية ولايته في طرابلس، متهمين المجتمعين في طبرق بأنهم (حفتريون) أي تابعون للواء حفتر، ومن مظاهر الصراع السياسي أنه في ذات الوقت عقدت المجالس البلدية المنتخبة ي المنطقة الغربية، وهم تابعون لجماعة الإخوان، اجتماع طالبوا فيه بحل كتائب القعقاع، والصواعق، والمدني، وقوات أمن المطار التابعة للزنتان والحكومة، وتخوض حربا ضد تحالف الثوار الإسلاميين دخلت أسبوعها الرابع، وطالبت بتولي الثوار مهمة أمن طرابلس وإخراج باقي القوى العسكرية من العاصمة كما استنكرت موقف الحكومة لعدم انحيازها للثوار، كذلك رفضت أي تدخل أجنبي، ومعاقبة كل من يطالبه وكان رئيس الحكومة عبدالله المثنى قد طالب التنظيم بالتدخل وتعزيز قدرات الجيش والشرطة لتصبح الأسلحة في أيديهم فقط.
وقد كشفت دراسة أخيرة لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، أن جماعة الإخوان والإسلاميين المتطرفين يديرون الحرب بالوكالة في ليبيا عن تركيا وقطر والسودان، وأن الخلايا المتطرفة تتبع أسلوب حرب العصابات في محاولة لاستبدال نظام الدولة بنظامها غير الليبرالي، وأكدت الدراسة أن الوضع صار أكثر تعقيدًا، لأنه لم يعد تصارعًا على النفوذ السياسي بعد أن اضيفت الأسلحة الثقيلة للصراع، وأصبح العنف يهدد كل ليبيا بالتقسيم ثم أوصت الدراسة أنه ينبغي على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعة أصدقاء ليبيا وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الاصرار على فرض وقف فوري لإطلاق نار وانسحاب الميليشيات من العاصمة كما يجب على واشنطن أن تمارس ضغطا على الدول الأخرى التي تزود الوكلاء الليبيين بالدعم المادي، بأن يوقفوا تدخلهم في ليبيا، هذا رغم التسليم بأنه ليس أمام المجموعة الدولية غير هامش مناورة ضيق لمتابعة هذه العملية، ومن المعروف أن للأوروبيين والامريكيين ودول خليجية مصالح متباعدة، حيث يبحث كل طرف عن موطئ قدم في ليبيا للحفاظ على مصالحه في مجال الطاقة أو على إستراتيجية في النفوذ الإقليمي.
وكان المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية قد حذّر في بيان له صدر في 6 أغسطس الماضي من أن دوامة العنف في ليبيا خرجت عن السيطرة بعد أن وصل عدد القتلى في اشتباكات بنغازي وطرابلس إلى 469 حالة خلال يوليو فقط، وأضاف أن حالة الانقسام في ليبيا بدت واضحة للعيان بعد الخلاف العميق المسجل بين المؤتمر الوطني السابق والبرلمان الجديد منذ عقد الجلسة الأولى للمجلس الجديد في طبرق، كما حذّر البيان الأوروبي أيضا الدول الأوروبية من ترك ليبيا تتحول إلى دولة فاشلة لما يحمله ذلك من عواقب وخيمة على أمن ومصالح الأوروبيين أنفسهم، وكانت مصادر دبلوماسية في الأمم المتحدة قد أكدت أن هناك إجماعا من قبل المجتمع الدولي ممثلا في الأمم المتحدة باتخاذ خطوات بشأن التعامل مع الأوضاع في ليبيا، تبدأ بوقف فوري لإطلاق النار، وتأمين المدن والخدمات الأساسية، وتمكين مجلس النواب من الانعقاد، وبدء عمليات الحوار السياسي حول الأزمة بمشاركة جميع الأطراف، مشيرة إلى أن موضوع الدفع بقوات حفظ السلام يتواجد أيضا على طاولة البحث.
وفي الوقت الذي يُلوِّح فيه البرلمان الليبي بطلب مساعدة من الأمم المتحدة لفرض الأمن، ويقرر حل الميليشيات المسلحة، ومحاولات القوى الليبرالية تشكيل جبهة واحدة تنهي هيمنة الإسلاميين على مقاليد الأمور في ليبيا، وهي محاولات باءت بالفشل عدة مرات بسبب خلافات تتعلق بطريقة الحكم وإدارة الدولة في المستقبل إلا أننا نجد أحد الشروط التي وضعتها أمريكا وحلفاؤها في أوروبا، هو إشراك الإسلاميين بشكل رئيسي وجوهري – وعلى رأسهم جماعة الإخوان – في أي اتفاق على الحل في ليبيا، وهو ما جرى رفضه من جانب القبائل وحفتر بسبب تعنت الإسلاميين، ولكن لا يزال مسئولون ليبيون سابقون يقيمون في الخارج حاليا ويجرون اتصالات مع الأطراف الغربية وروسيا لإيقاف مسلسل المواجهات الدامية الجارية، وبشروط جديدة أبرزها استبعاد الإسلاميين المتشددين وعلى رأسهم «أنصار الشريعة» ومن يحملون رايات القاعدة عن أي ترتيبات للحوار، خاصة وأن جبهة الإسلاميين لن توافق على مثل هذه الترتيبات.
تحسب إقليمي ودولي للعنف القادم من ليبيا
كشفت مصادر أمنية في تونس أنها فككت في الآونة الأخيرة 27 خلية إرهابية تشرف على 15 معسكر تدريب موزعة على 11 محافظة بهدف تكوين جهاديين شرسين قادرين على الدخول في مواجهات مع قوات الأمن والجيش، وأن هذه الخلايا المنتشرة في محافظات تونس العاصمة وأريانة وبن عروس والمنستير وسوسة والقصرين وقنصة وسيدي بوزيد والكاف وجندوبة نجحت في خداع الأجهزة الأمنية والعسكرية وحولت مناطق جبلية بعيدة عن المناطق العمرانية إلى معسكرات أمنة تدرب فيها مئات الشباب على أخطر أنواع القتال، وهو ما يشكل خطرًا داهما على البلاد، ومؤشرًا على استقواء هذه المجموعات بنظرائها في ليبيا وسوريا والعراق والصومال، وأن كثيرا من التونسيين المتواجدين في هذه المعسكرات تم تدريبهم في معسكرات ليبية تابعة لتنظيم أنصار الشريعة وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب – كما كشفت وزارة الداخلية التونسية أيضا عن وجود خمس خلايا إرهابية في جهة رواد والكرم ودار افضال وسكرة وهي مناطق شعبية بضواحي العاصمة تونس، والقت القبض على 21 عنصرًا ارهابيًا كانوا يخططون لتنفيذ اغتيالات لقيادات سياسية وأمنية وإعلامية، ومهاجمة منشآت إستراتيجية هامة، ومن المعروف أن عناصر إرهابية سبق واغتالت اثنان من قيادات المعارضة ليبراليين هما شكري بلعيد في فبراير 2013، ومحمد البراهمي في 25 يوليو من نفس السنة، ووجهت أصابع الاتهام لجماعة الإخوان في تونس التي يعبر عنها حزب النهضة، وتشير تقارير أمنية في تونس إلى تورط جماعة أنصار الشريعة في ليبيا وتونس في اغتيال 51 ضابطًا وجنديًا تونسيًا في الآونة الأخيرة، وهو ما أثار غضب الشارع التونسي خاصة بعد تصريح وزير الخارجية التونسي إلى وجود ما يقرب من 80000 تونسي يقيمون في ليبيا حاليا مقابل مليون ليبي في تونس، تشكلت منهم خلايا إرهابية يقودها زعيم تنظيم أنصار الشريعة التونسي (أبو عياض) التحالف مع بلمختار الذي يقود كتيبة «الموقعون الدم» المنشق عن فرع «القاعدة في بلاد المغرب» مكا أشارت التقارير أيضا إلى عناصر إرهابية قدمت من ليبيا والتحقت بمقاتلين تونسيين استقروا في جبل «الشعانبي» بتونس، وقاموا بعملية اغتيال 15 جنديًا تونسيًا في خلية هذا الجبل.
وفي الجزائر التي اكتوت بنار الإرهاب والعنف أكثر من عشر سنوات، تسببت الميليشيات المسلحة في ليبيا في تهديد حدود الجزائر مما أدى بالحكومة الجزائرية إلى الدفع بأكثر من 40000 جندي على طور الشريط الحدودي في ليبيا لمنع تسلل أي عناصر مسلحة إلى البلاد أو إمداد تلك العناصر بأي دعم مادي ولوجستي، كما قامت القوات الجزائرية بنصب منصات إطلاق صواريخ مضادة للطائرات من طراز S-125 الروسية في عدد من ولايات الشرق خاصة منها الحدودية مع تونس وليبيا، في خطوة استباقية واحتياطية تحسبا لأي هجمات إرهابية، وتأتي هذه الخطوة بعد ورود أنباء مؤكدة أن الجماعات الإرهابية في ليبيا تعد للقيام بهجمات جوية بواسطة طائرات تستهدف بصفة خاصة مؤسسات حساسة في كل من الجزائر وتونس والمغرب تماثل هجمات 11 سبتمبر 2011 بنيويورك وواشنطن، وفي نفس السياق ذكرت صحيفة (الخبر) الجزائر في 8 أغسطس الماضي أن الجزائر رفضت استضافة قاعدتين لطائرات أمريكية دون طيار من أجل مراقبة الأوضاع في ليبيا، وذلك رغم الضغط الأمريكي على الجزائر لإقامة هاتين القاعدتين، وقد حدَّد الأمريكيون موقع القاعدة الأولى في شمال منطقة (الدبداب) وهو معبر حدودي بين الجزائر وليبيا، أما القاعدة الثانية ففي منطقة (تافست) القريبة من الحدود بين الجزائر وليبيا والنيجر، وقد جاء هذا الرفض الجزائري رغم عرض واشنطن استفادة الجزائر من الصور التي ستحصل عليها هذه الطائرات بدون طيار، ومشاركة الجزائر فيها، وحيث يحتاج الأمريكيون كثيرا إلى العمق الجغرافي الجزائري الذي يتيح لهم ممارسة عمليات مراقبة أكثر دقة لمناطق غير مكشوفة من الصحراء الليبية.
كما أكدت جريدة «البلاد الجزائرية» أن أجهزة المخابرات الجزائرية كشفت عن وجود اتفاق بين إرهابيين من ليبيا تابعون لأنصار الشريعة وعناصر من تنظيم داعش يقضي بترحيل مقاتلي داعش إلى دول المغرب لدعم أنصار الشريعة الموجودة في ليبيا وتونس، وأظهرت التقارير أن داعش بدأ يفكر جديا في توسيع نشاطه إلى منطقة المغرب العربي وشمال أفريقيا بغرض فتح جبهة في منطقة ثانية بعيدًا عن منطقة الخليج مستثمرًا الانفلات الأمني الرهيب الذي تعيشه ليبيا.
كما أفادت هذه التقارير أن الاتفاق بين إرهابي ليبيا وداعش تم على إثر لقاء جمع هذه الأطراف في إحدى المدن التركية ويقضي بدعم أنصار الشريعة بالمقاتلين المنحدرين من منطقة المغرب العربي على ضوء إعلان ما يسمى بتنظيم «القاعدة لبلاد المغرب الإسلامي» عن عدم اعترافه بداعش، في حين أعلنت كل من «أنصار الشريعة» وأنصار بيت المقدس» انضمامهما لتنظيم داعش «الدولة الإسلامية» وخروجهما عن بيعتهما السابقة لتنظيم القاعدة، كذلك أكدت التقارير الاستخباراتية أن المجموعات الإرهابية القادمة من (داعش) ومن بينهما نحو 4000 – 5000 فرد من التونسيين تستهدف فرض السيطرة على طرابلس في ليبيا، ثم احتلال الزنتان، وهو ما يشكل خطرًا داهمًا على تونس لقرب مدينة الزنتان من الحدود التونسية، حيث سيتم اقتحام الجنوب عبر الحدود، ثم تأتي عملية التمركز، وفي حين إستبعد وزير الخارجية الليبي عبور مطلوبين أو مشتبه فيهم عبر الحدود التونسية، إلا إن ما لديه من معلومات تفيد باحتمال تدفق مقاتلين من سوريا والعراق على ليبيا في إطار الرسالة التضامنية بين الجماعات المقاتلة المنتشرة في سوريا والعراق وليبيا.
ويعد التعاون الأمني بين مصر والجزائر في الأونة الأخيرة هو الأكبر عقب اندلاع الفوضى في ليبيا، وقد تجلى هذا التعاون في تقديم الجزائر لمصر ملفا كاملا يوضح الأهداف والأماكن الحيوية والسيادية التي يسعى تنظيم أنصار الشريعة الموجودة في المغرب العربي لاستهدافها بمصر، وأن عمليات تهريب لشحنات من المتفجرات وقذائف صواريخ مضادة للطائرات يتم تهريبها من ليبيا إلى مصر لصالح تنظيم أجناد مصر التابع لجماعة الإخوان، والذي يستهدف ضرب طائرة الرئاسة المصرية بصاروخين أرض جو من نوع 0سام – 7 استريلا) بعد انطلاقها من مطار القاهرة، فضلًا عن تنفيذ سلسلة تفجيرات ضد شخصيات ومقار حكومية بالاعتماد على أجهزة تفجير عن بعد متطورة لا يمكن التشويش عليها، وكان الجيش الجزائري قد صعّد من هجماته ضد الجماعات الإرهابية التي اغتالت 13 جنديا وجرح 16 آخرين من الجيش في بلدية اعكوران تبيزي اوزو، واستطاع الجيش القضاء على 6 إرهابيين من الجماعة السلفية للدعوة والقتال، خلال عملية عسكرية في منطقة القبائل بأعلى جبال غابات غرازفة في شمال شروق البلاد، وعلى طول الحدود الشرقية مع تونس والجنوبية مع مالي وليبيا، لذلك جاءت زيارة الرئيس السيسي للجزائر ولقائه بالرئيس الجزائري بوتفليقه للشكر على التعاون الأمني، وتعزيزًا لهذا التعاون لا سيما في المجال الأمني، وما تفعله مصر والجزائر من إجراءات أمنية مشددة هو الحد الأدنى الذي لا تنازل عنه بالنظر لخطورة التهديدات الأمنية التي تتعرض لها مؤسسات الدولة في البلدين من جانب التنظيمات الإرهابية في ليبيا وفي الخلفية هناك تعاون استخباراتي في مجال التبادل المعلومات والقبض على الإرهابيين من أجل مواجهة الخطر الإستراتيجي الأكبر والمتمثل في خطط الغرب لتقسيم الدول العربية فان مثل هذا التقسيم سيدفع سكان المناطق البترولية في الجزائر، وذات الطابع العرقي الاحادي (سواء عرب أو أمازيج أو طوارق) إلى الضغط على السلطات المركزية لتحقيق مكاسب قد تمهد للتقسيم مستقبلا، أما بالنسبة لمصر فإن تقسيم ليبيا إن تمكنت قوى الشر من تنفيذه سيسهل البدء في تنفيذ مخطط تقسيم مصر، واذا كانت مصر قد تمكنت من إفشال مثل هذه المخططات في الوقت الراهن فانها ستواجه عقبات كبيرة من أجل الحفاظ على وحدتها واستقرارها نتيجة الخطر الداهم من ليبيا.
وقد دعا ممثلوا حكومات المغرب والجزائر وتونس وليبيا ومصر والولايات المتحدة خلال اجتماعهم في واشنطن على هامش القمة الأفريقية الأمريكية الأطراف المتصارعة في ليبيا إلى وقف فوري لإطلاق النار وإجراء مفاوضات لمعالجة احتياجات الأمن والاستقرار في البلاد، ودعمهم البرلمان الجديد المنتخب في ليبيا أخيرا، وقد جاء هذا الاجتماع السداسي بعد سلسلة من الاجتماعات الثنائية بين ممثلي الحكومات بلدان شمال أفريقيا فيما بينهم، ومع الخارجية الأمريكية على هامش القمة الأفريقية – الأمريكية في واشنطن، وركزت المباحثات الثنائية على التهديدات الإرهابية والأوضاع الحرجة في ليبيا وتونس والساحل وتداعياتها على الأوضاع الأمنية والاستقرار في المنطقة والعالم، وضرورة اعتماد إستراتيجية إقليمية موحدة في مواجهة هذه التهديدات الأمنية، والسعي لحل الأزمة التي تعصف بليبيا في إطار آلية بلدان الجوار التي أطلقت في يوليو الماضي في تونس، والتي بناء عليها سيعقد في القاهرة اجتماعا وزاريا لدول الجوار الليبي قبل شهر أغسطس الحالي (ربما 25 أغسطس) للنظر في عدد من التوصيات والأفكار التي أعدتها اللجنتان الأمنية والسياسية في اجتماعاتهما الأخيرة في كل من مصر والجزائر في 5 و6 من الشهر الحالي، كما كانت الأوضاع الصعبة في ليبيا على رأس الموضوعات التي بحثها رئيس وزراء ايطاليا مع الرئيس السيسي خلال زيارة الأول لمصر في بداية الشهر الحالي، وذلك لما تشكله الهجرة الليبية وتصدير الإرهاب إلى الدول الأوروبية في شمال البحر المتوسط، الأمر الذي يشكل تهديدًا خطيرًا لهذه الدول، مما أدى إلى قيام ايطاليا بتوجيه ضربة جوية بطائرات بدون طيار لعدد من معسكرات الإرهابيين في بنغازي.
ولا يقتصر التعاون في مجال مكافحة الإرهاب على دول شمال أفريقيا فقط بل يشمل دولا أخرى مجاورة لها في غرب وجنوب أفريقيا تتعرض لنفس التهديد، حيث يمتد حزام التهدي الإرهابي وعمقه عبر الصحراء الكبرى في ليبيا ليخترق جنوب الجزائر وصولا إلى مالي والنيجر وتشاد وحتى السنغال، حيث بقايا ما يعرف بـ «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والذي سعى إلى إقامة دولة في شمال مالي لولا تدخل فرنسا بتفويض من المغرب للقضاء على هذا المسعى، وحال نجاح اللواء خليفة حفتر في بسط نفوذ قواته على كامل التراب الوطني الليبي فإنها يكسر هذا الطوق، ويخفف العبء عن مصر، وتزداد خطورة هذا الحزام الذي يحاول تطويق مصر من الغرب في التحامه مع حزام آخر يحاول تطويق مصر من الجنوب حيث السودان، الذي يسيطر عليه نظام حكم إخواني تحت قيادة البشير وتسمح الخرطوم بدخول عدد كبير من قيادات الإخوان الهاربين من مصر للاقامة أو توطئة لتوجههم إلى قطر وتركيا هذا مع الوضع في الاعتبار ما ثبت من أن السودان صار معبرًا للأسلحة والصواريخ الإيرانية التي تأتي من إيران أو يتم تصنيعها في مصنع اليرموك القريب من الخرطوم، وضربته الطائرات الإسرائيلية منذ عامين وكان به نحو 12 شاحنة محملة بالصواريخ لنقلها عبر صحراء مصر الشرقية إلى سيناء توطئة لاستخدامها بواسطة الإرهابيين في سيناء، أو نقلها إلى حماس في غزة عبر الانفاق وكانت إسرائيل أيضا قد ضربت مرتين قوافل تضم شاحنات تحمل أسلحة متجهة إلى مصر قبل إختراقها الحدود الجنوبية لمصر، ويجري كل ذلك في ظل ادعاءات السودان بحقيقة منطقتي حلايب وشلاتين المصريتين، ومع الخلاف بين لابلدين حول مشروع سد النهضة الإثيوبي، وهو ما يشير إلى احتمال تحرك الجبهة الجنوبية في السودان في تزامن مع تحرك الجبهة الغربية في ليبيا ضد مصر في توقيت يحدده التحالف الشيطاني الذي يضم جميع القوى المعادية لمصر في الدوائر المحلية بالداخل والإقليمية والدولية.
دعوات مصرو جزائرية للتدخل عسكريا ضد ليبيا
مع تفاقم الأوضاع الأمنية في ليبيا، وبما يهدد بانتقالها إلى داخل حدود مصر الغربية خاصة بعد أن استعرضت الجماعات الإرهابية قواها عسكريا قرب الحدود المصرية في درنة، تصاعدت الأصوات في مصر تطالب الدولة بالتدخل عسكريا لإجهاض هذه التحركات المعادية بشن ضربة استباقية ضدها، وباعتبار ذلك حقا سياسيا وإستراتيجيا مارسته دولا كثيرة في الدائرتين الإقليمية والدولية حرصوا على على أمنهم واستقرارهم، ولم يقتصر ذلك على ما فعلته الولايات المتحدة بغزوها لافغانستان عندما بررت تهديدات تنظيم القاعدة ضدها في احداث 11 سبتمبر 2001، وكذلك في العراق عام 2003 بدعوى تدمير أسلحة الدمار الشامل هناك، وكذلك إسرائيل في جميع حروبها ضد الدول العربية – ربما باستثناء حرب أكتوبر 1973 التي كان دور القوات الإسرائيلية دفاعيا ولكن أيضا ما فعلته مصر عام 1977 في عهد الرئيس السادات عندما هاجمت قوات القذافي منفذ السلوم، وبعث بعملائه إلى مطروح وأحدثت عدة تفجيرات في أماكن منها، فكان الرد المصري بتوجيه ضربات جوية ضد أهداف منتفاه داخل ليبيا داخل ليبيا، مما أجبر القذافي على التزام حدوده، والامتناع عن استفزاز مصر عسكريا في المنطقة الحدودية مع ليبيا مرة أخرى.
إلا إن أزمة اليوم تختلف عما حدث عام 1977م حيث لا يوجد نظام في ليبيا بل فراغ سياسي وأمني رهيب مصحوب بتعدد القوى السياسية والإرهابية، كما أن مصر تواجه تحديات أمنية خطيرة في الداخل، وعلى حدودها الشرقية والجنوبية، لذلك فان الأزمة الحالية تعتبر أعظم خطرًا على البلدين معًا منذ مواجهة منفذ السلوم عام 1977، الأمر الذي جعل مناشدات التدخل المصري في ليبيا لم تخرج من القاهرة فقط بل الكثير منها يأتي من ليبيا نفسها التي تغرق يوما بعد يوم في حرب أهلية تنهار تحتها كل مقومات الدولة نتيجة الصراعات المسلحة بين الميليشيات الإرهابية داخلها، وفي غياب جيش وطني قوي، ومع سقوط المواقع الحكومية تباعًا في قبضة الميليشيات المسلحة أصبح واضحًا في نظر كثير من المحللين أن المواجهة المصرية معها صارت مسألة وقت سواء أرسلت مصر قواتها إلى ليبيا أو أن الميليشيات المسلحة قامت بغزو التراب المصري، بل أن السؤال الذي فرض نفسه على المراقبين هو إلى أي مدى يمكن لمصر والجزائر وتونس أن يتحملوا مثل هذا الوضع الليبي، كما أن السؤال نفسه صار مطروحًا على الأوروبيين بالقوة نفسها، وإلى أي مدى يمكن لأوروبا أن تتحمل انهيار الدولة في ليبيا ومعها ثرواتها النفطية والمالية؟
ولقد جاءت تصريحات وزير الخارجية المصري الأسبق عمرو موسى التي نُشرت في بيان مكتوب بحرفية، والتي حذّر فيها من تأثير صراع الفصائل والطوائف في ليبيا على أمن مصر، وعبَّر عن المخاوف المصرية من إمكانية امتداد القتال الداخلي هناك عبر الحدود، داعيا إلى النظر في إمكانية رد مصر عسكريا داخل ليبيا، باعتبار حق الدفاع عن النفس، وقد أثارت هذه التصريحات ردود فعل مختلفة نظرًا لقرب عمرو موسى من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وبروزه في الفترة الأخيرة كمتحدث غير رسمي، وهو ما أثار تكهنات حول هجوم مصري وشيك على ليبيا صار مطروحا على طاولة صنع القرار في مصر، لا سيما بعد حادثة مقتل 22 جنديا مصريا في الفرافرة من قبل عناصر إرهابية قادمة من ليبيا، كما زادت المخاوف المصرية في الايام الماضية بعد هروب 13000 عامل مصري من الجحيم في ليبيا ولجوئهم إلى الحدود التونسية، حيث ذكروا قصصا مرعبة لأسلوب معاملتهم من قبل الميلشيات المسلحة هناك، وهو ما يعزز موقف الرئيس السيسي في مصر، حيث يرى المصريون أن قيادته القوية هي البديل الوحيد للفوضى في ليبيا، ورد كرامة المصريين الذين أُهينوا هناك، إلا إن المتحدث باسم الخارجية المصرية اعتبر تصريحات موسى لا تعبر عن وجهة نظر رسمية للدولة المصرية، بل تعبر عن رأيه هو وانه لا يعلم عن أي خطط فورية للتدخل في ليبيا.
ولم تقتصر الدعوى للتدخل في ليبيا على المصريين فقط، بل لقد وُجِّهت مثل هذه الدعوى أيضًا رسميا من قبل ليبيا لكل من مصر والجزائر بالتدخل، ويعود ذلك إلى عدة أسباب تتمثل في وجود الآلاف من المصريين في ليبيا نزحوا إلى تونس في الأونة الأخيرة، وتصاعد المخاطر ضد مصر من جانب الجبهة الليبية وضرورة ضبط الحدود، والتعاون بين مصر والجزائر وتونس حتى لا يتهدد أمن هذه البلاد من جانب ليبيا، وحتى لا تنتقل عدوى التقسيم من ليبيا إلى هذه الدول، ويكون التدخل العسكري بمثابة عمل إستباقي لمنع وقوع هذا السيناريو المدمر.
ولم تكن فكرة التدخل العسكري وليدة اللحظة، حيث سبق الحديث عن تدخل مصري – جزائري في حديث عن عملية «أزهار الربيع» نشرته صحيفة «الفجر» الجزائرية والتي بدأت بطلب فرنسي من الجزائر في ديسمبر 2013، لمشاركتها في دور عسكري بليبيا تحت مظلة مكافحة الجماعات الإرهابية المسلحة، ثم تكررت دعوات فرنسا للتدخل العسكري في ليبيا وكانت آخرها في 7 ابريل 2014 عندما دعا وزير دفاعها «جان إيف لورديان»، وتنهض فكرة العملية العسكرية «أزهار الربيع» على أساس الانطلاق من 3 محاور هي غرب ليبيا وشرقها، إضافة إلى البحر، وبحيث تستخدم فيها الطائرات والقنابل الذكية وأعمال كوماندوز جوية وبحرية محدودة، وقد بدأ الاعداد والتخطيط لهذه العملية منذ عدة شهور واعتبارها عملية جراحية في تحديد وتدمير أهداف محددة ذات أهمية إستراتيجية للتقليل من حجم الخسائر المدنية قدر الامكان، وعلى أن تستند هذه العملية إلى تعاون عسكري أمريكي – أوروبي – عربي في شنها بشكل خاطف إستنادًا إلى مناطق على تخوم الحدود مع الجزائر، ولكن يبدو أن الإدارة الأمريكية تراجعت عن تنفيذ هذه العملية بعد صعود ملفات أخرى أكثر سخونة من الملف الليبي، وأكثر أهمية لإدارة أوباما، ورغبة في مزيد من نضج الأوضاع في الشرق الأوسط بما يسهل انهاكه، وحتى تكون مثل هذه العملية فرصة للحصول على مكاسب أكبر من دول المنطقة، ولكن مع زيادة الخطر القادم من ليبيا ضد مصر والجزائر، قامتا الدولتان بتشكيل لجنة أمنية مشتركة من رجال المخابرات فيهما للتنسيق المعلوماتي والعملياتي لدرء التهديدات القادمة من ليبيا ضدهما، وإجهاضها مبكرا قدر الامكان قبل وقوعها، وقد تطور هذا التعاون الاستخباراتي المشترك لوضع خريطة طريق تقوم على تعاون إستراتيجي أوسع وأعمق، وهو ما انعكس في زيارات متبادلة لعاصمتي الدولتين من جانب كبار رجال الاستخبارات فيهما، ومحادثات مطولة إستهدفت أساسا مواجهة الجماعات الإرهابية في ليبيا، وافشال محاولة إقامة خلافة أو إدارة إسلامية في هذا البلد، مع عدم استبعاد تدخل عسكري مشترك متعدد السيناريوهات لتحقيق هذه الأهداف، وذلك في ظل الضغوط التي تتعرض لها الدولتان من جانب شعوبهما لوضع حد للفوضى في ليبيا، ويقول المعهد الأمريكي للدفاع والأمن أن الوضع المتدهور في ليبيا كلف الجزائر ملياري دولار حتى الآن في صورة نقل معدات عسكرية واقامة قواعد عسكرية دائمة على طول الحدود مع ليبيا، وأن التدخل المباشر من قبل الجزائر قد يكون ضرورة حتمية، حتى وان لم يتحقق شن عملية مشتركة بين الجزائر ومصر، فمن المحتمل أن تضطر الجزائر لشن عملية جوية بمفردها ضد أهداف محددة في ليبيا.
وبالنسبة لمصر، على الرغم من أن كل التحركات المعادية مرصودة سواء على الحدود المصرية – الليبية، أو تلك التي تجري في تركيا وقطر، وكذا وسائل تجنيد شباب الإخوان في مصر، وهي ذاتها طريقة تجنيد الشباب في سوريا عن طريق دعمهم ماليا وبالسلاح، ثم إستقطابهم فكريا، فضلا عن فضح الجماعات الإرهابية القريبة من الحدود المصرية تحت المراقبة، ومن السهل أصطيادها في الصحراء بين مصر وليبيا في مساحة قدرها 600 كم2، إلا أن مصر لا تستبعد احتمالات شن عمليات عسكرية داخل ليبيا، إذا ما أدركت تماما أنه لا بديل أمامها سوى تدمير هذه البؤر الإرهابية داخل ليبيا، وقبل أن تنقل عملياتها إلى داخل مصر، خاصة إذا ما استقر الامر داخل ليبيا لإحدى الفرق الإسلامية، وأعلنت ما تنشده من إمارة إسلامية فيها وبدأت تستعد للتوسع خارج حدود ليبيا، هذا رغم استبعاد المسئولين المصريين هذا السيناريو في الوقت الحالي، بالنظر لكثرة القيود المصاحبة له، أما أبرز هذه القيود فهو تحديد الأهداف الرئيسية المطلوب توجيه الضربات ضدها والتي بها يمكن إحداث تغيير في الوضع القائم في ليبيا إلى الافضل، كما أن هذه الضربة – سواء من جانب مصر منفردة أو بالاشتراك مع الجزائر ستطول بالضرورة دول أخرى مثل تونس والحدود الجنوبية حيث مالي والنيجر، فضلا عن ضرورة موافقة الأطراق الدولية والإقليمية على مثل هذه الضربة والحصول على دعمهم ومساندتهم على الأقل سياسيا، إلى جانب المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها أي قوات برية تتوغل داخل المستنقع الليبي الذي يعج بالميليشيات والخلايا الإرهابية المنتشرة على كل الساحة الليبية، ناهيك عن صعوبة تشكيل تحالف عربي أو عربي – غربي تشارك فيه مصر لوضع حد للإرهاب المتفاقم في ليبيا، ومنع تحولها إلى أفغانستان أخرى، وضرورة عدم إثارة الجماهير الليبية في الداخل والتي قد تنظر إلى أي تدخل عسكري مصري باعتباره عدوانا مصريا على ليبيا، وبما قد يؤجج مشاعر الكراهية ضد مصر.
ومع أن الجزائر أطلقت تحذيرات، يبدو أن المعنى بها مصر، أنها ضد التدخل العسكري، إلا أن الحكومة الجزائرية لم توضح بعد ما الذي تنوي عمله، اما لوقوف على الحدود لن يمنع من يتسلل من المقاتلين والسلاح إلى مصر، هذا في المرحلة الأولى، كما لن يكون سهلا مواجهة الجماعات المسلحة بعد أن تكون قد استولت على المواقع المهمة في ليبيا وضاعفت من قوتها، إلا أن السؤال الذي لا يزال مطروحًا أمام مصر والجزائر وأيضًا أوروبا هو: هل ستسكت هذه الدول حتى يتم الإعلان عن قيام إمارة إسلامية متطرفة في كل ليبيا – على نمط دولة داعش في سوريا والعراق والصومال؟
وما قد يواكب ذلك من اشتعال حرب أهلية داخل ليبيا ينتج عنها مئات آلاف اللاجئين من ليبيا إلى الدول المجاورة جنوب وشمال البحر المتوسط؟
سيناريوها التدخل في ليبيا
لا شك في أن مصر تمتلك القدرات الكاملة، وبدائل كثيرة لحماية أمنها القومي، دون الحاجة للدخول في مغامرة مهاجمة ليبيا لما قدم يمثله ذلك من مخاطر على أمن الوطن من جانب قوى خارجية، حيث تمثل إستراتيجية «الدفاع النشط» الأسلوب الامثل لمواجهة أي قوات إرهابية موجودة على الأراضي الليبية، ومنعها من اختراق الحدود للقيام بعمليات إرهابية على الأراضي المصرية، مع استمرار العمل بالإجراءات الوقائية الحالية لا سيما تكثيف الدوريات البرية والجوية على طول الحدود، مع الوضع في الاعتبار أن السلطات المصرية ليست بحاجة لاذن من أحد لحماية أمننا القومي، واذا كانت إستراتيجية الدفاع النشط تسمح لقواتنا بتنفيذ عمليات تعرضية داخل العمق القريب في الجانب الليبي، من حدودنا لاجهاض نوايا عدائية مؤكدة ضد مصر، إلا أن احترام القانون الدولي يمنعنا من ضرب أحد الا إذا اعتدى علينا، وهو ما يفرض علينا في إطار الدفاع النشط أن ننسق عملياتنا التعرضية مع السلطات الليبية وموافقتها سواء علنية أوسرية، ويفرض بالتالي إيجاد شكل من أشكال التعاون الأمني والإستراتيجي بين السلطات المصرية والليبية، ويمكن أن يدخل في هذا التعاون الجزائر وتونس وذلك حتى لا تخطو مصر بشكل منفرد يثير ضدها الرأي العام الدولي والإقليمي، وقد يشمل هذا التعاون الإستراتيجي الابعاد المعلوماتية والعملياتية والتدريبية، وضمان موافقة القبائل الليبية على أي إجراءات أمنية مشتركة.
أما السيناريوهات الممكنة للتدخل عسكريا في ليبيا حفاظ على الأمن القومي فانها تتمثل في الآتي: (1) التعامل النيراني فقط عن بعد من خلال شن هجمات جوية وصاروخية ضد مناطق تمركز ومستودعات أسلحة ومواقع الجماعات الإرهابية في المنطقة الشرقية في ليبيا، مع الوضع في الاعتبار أن مثل هذا السيناريو لا يؤتى ثماره إلا إذا استمرت مثل هذه الهجمات لفترة زمنية تضمن كسر إرادة هذه الجماعات الإرهابية بعد تكبيدها خسائر مادية وبشرية جسيمة، ويفضل أن تكون الهجمات الجوية بطائرات بدون طيار هجومية وتملك مصر طائرات بدون طيار هجوميه ممتازه– او طائرات هليكوبترمثل الاباتشي الأمريكية ومي – 25 الروسية – وتجنبا لاحتمال وقوع خسائر في الطيارين، فالافضل ان تكون بدون طيار لأن الطائرات بدون طيار توفر معلومات لحظية عن الأهداف المعادية وضربها فورًا قبل تغير أوضاعها، (2) القيام بعمليات برية جراحية بواسطة قوات التدخل السريع التي يتم نقلها جوًا أو بحرًا لشن عمليات هجومية خاطفة يتم من خلالها تدمير أخطر التجمعات الإرهابية في شرق ليبيا، على أن يتم تأمين عودة سليمة وسريعة لهذه القوات بتوفير غطاءات جوية وبحرية وبرية لعملياتها، مع الاستعداد لتوسيعها إذا تطلب الموقف ذلك، ويعتبر هذا السيناريو هو الاصعب الذي يجب وضعه في مؤخرة سيناريوهات العمل (3) أما السيناريو الثالث، وهو الافضل فيتمثل في دعم قوات الجيش الليبي الوطني، خاصة قوات اللواء خليفة حفتر التي تشن هجمات مستمرة لتدمير البؤر الإرهابية في منطقة بنغازي، على أن يشمل هذا الدعم توفير الغطاء الجوي اللازم لأعمالها، ويفضل أن يكون بطيارين ليبيين، إلى جانب الامداد بالأسلحة والمعدات التي تحتاجها، فضلا عن تأمين التدريب لها داخل الأراضي المصرية أو الليبية إذا ما توفرت ظروف آمنة هناك، (4) أما السيناريو الرابع فهو شن عمليات جوية وبرية وبحرية مفتوحة للقضاء على الإرهاب بشكل جذري ونهائي في ليبيا، وهو السيناريو الذي ينبغي تجنبه ولا يتم اللجوء اليه إلا بموجب قرار دولي ومشاركة دول الجوار الجغرافي، ودول أخرى أوروبية وعربية متضررة من الإرهاب الليبي، وأن تحدد جيدًا الأهداف الإستراتيجية التي ينبغي تحقيقها وأسلوب ذلك، والشكل الذي ستنتهي عنده الحرب، وكيف سيتم وبسرعة تسليم المسئولية والسلطة إلى الجيش الليبي وقيادة سياسية يرتضيها الشعب الليبي وقواه السياسية، (5) كما لا ينبغي استبعاد السيناريو الخامس، والمتمثل في تنفيذ عمليات مخابراتية تحتية داخل ليبيا، تستهدف التسلل إلى داخل الجماعات الإرهابية واغتيال قادتها، وتفجير مستودعات أسلحتها وتفخيخ مقارها وألياتها.
إلا إن جميع هذه السيناريوهات لا يمكن أن تنجح إذا لم يتوفر لها غطاءًا سياسيًا وأخلاقيًا يبرر العمل العسكري ويعطيه المشروعية ويوفر له القبول على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
ولأن التدخل عسكريًا ضد ليبيا يعتبر قرارًا سياديًا من الدرجة الأولى قبل أن يكون قرارًا عسكريًا، وذلك لوجود ضوابط دستورية لعملية إرسال قوات خارج الحدود أو القيام بشن أي ضربات عسكرية، حيث تنص المادة 146 من دستور 2014 على أن رئيس الجمهورية لا يعلن الحرب ولا يرسل القوات المسلحة إلى خارج الدولة إلا بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني وموافقة مجلس النواب بأغلبية عدد الأعضاء، وفي حالة عدم وجود مجلس نواب – كما هو الحال اليوم – فإن القرار يكون في يد رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الدفاع الوطني، ولكن حتى تتاح الظروف السياسية والعسكرية التي تؤمن إنجاح أي من السيناريوهات السابقة، فان الإجراءات الأمنية المصرية في المنطقة الحدودية مع ليبيا يجب تشديدها من حيث تكثيف القوات والكمائن ووضع كاميرات المراقبة والمجسات الارضية، ومراقبة المدقات والدروب الجبلية، وتسيير الدوريات في تفتيش المناطق الجبلية الوعرة، وسد الثغرات بين المواقع الأمنية الثابتة، بجانب الاستطلاع الجوي الدوري والمستمر.
رؤية تحليلية
ينبغي أن تدرك جيدًا أننا في مصر وعلى حدودنا مع ليبيا، نواجه بعد ثورة 17 فبراير هناك تيارًا متشددًا يريد أن يستولي على البلد ويستحوذ على ثرواته، ويجعل من ليبيا منطلقا نحو تهديد مصر ودول المغرب العربي، سواء بالاستيلاء على السلطة وتكوين إمارات إسلامية فيها، أو بتصدير الإرهاب، وهم من أجل تحقيق هذه الأهداف مستعدون لبذل كل جهودهم، غير مكترثين بأي مصلحة وطنية أو مقدرات البلاد، ولهذا لم ولن تبال الجماعات الإرهابية بأي خسائر بشرية أو مادية تصيب الشعب الليبي وثرواته، مما يؤكد وجود نوايا مبيتة لتدمير البلد والسير به في اتجاهات لا عودة إذا لم يسيطروا على السلطة في ليبيا، وتعتبر جماعة الإخوان قاسم مشترك بين جميع التنظيمات الإرهابية في ليبيا، حيث يسود مبدأ التناصر فيما بينهم، سواء في ذلك أنصار الشريعة في بنغازي أو الدروع في مصراته، وهو نفس الهدف والسلوك الذي تتبعه جماعة الإخوان في مصر من تحالفها مع السلفيين والثوريين والاشتراكيين من أجل هدم مؤسسات وهياكل الدولة المصرية، وعندما فشلت في ذلك لجأت لمهاجمة الأهداف والمرافق الإستراتيجية، بما في ذلك محطات الكهرباء والمواصلات لمعاقبة الشعب على تأييده للنظام القائم الذي إختاره، وفي ليبيا تمارس جماعة الإخوان وحلفاؤها نفس السلوكيات وبقدر أكبر من الوحشية والهمجية لعدم وجود سلطة الدولة، على عكس مصر التي تمارس الدولة فيها سلطاتها مما أدى إلى حجم وتحجيم جماعة الإخوان فيها إلى حد كبير، وقد بلغ التخريب في ليبيا حد تدمير 90% من الطائرات في المطار وقيف خزانات الوقود، ومبدأهم في ذلك هو نفس مبدأ جماعة الإخوان والمتمثل في «إذا لم تكن الدولة تحت سيطرتهم وحكمهم فليدمروا كل شيء» وحتى الوصول إلى فكرة «تدمير المعبد على من فيه ورغم أن الصراع المسلح في طرابلس يختلف عن المشهد في بنغازي، ففي الأخيرة هناك مواجهة بين المجموعات التابعة لتنظيم القاعدة وأنصار الشريعة تقاتل الدولة، إلا إن الوضع يختلف في طرابلس حيث يسود صراع سياسي بين مجموعات تريد إسقاط الحكومة، ومع استمرار هذا الصراع وزيادة التدخل الإقليمي والدولي في ليبيا فإنها مرشحة للانقسام إلى ثلاث دويلات على الأقل، ونجاح جماعة الإخوان في ليبيا وحلفائهم داخلها وخارجها سيجعل الانقسام ينتقل بالضرورة إلى الدول المجاورة وأهمها مصر، وتحقيق المخططات الأمريكية لتقسيم الشرق أوسط الجديد باتباع أسلوب الفوضى الخلاقة، واعتمادًا على جماعة الإخوان وحلفائها في تيار الإسلام السياسي، ومع انهيار الدولة في ليبيا عادت خرائط تقسيم ليبيا للظهور مرة أخرى، بعد أن ظهرت سابقا وفق وثيقة سرية لجهاز المخابرات البريطانية (MI5) مؤرخة في عام 1955 كشف ضلوع الحكومة البريطانية في مخطط لفرض خريطة جديدة في منطقة المغرب العربي، من خلال تقسيم ليبيا إلى عدة دويلات تحت إطار حكم فيدرالي، ولكن هذه الخريطة عادت مرة أخرى للظهور على يد مراكز بحثية أمريكية دفعت بها النعرات القبلية والحرب القبلية المشتعلة على أكثر من جبهة داخل ليبيا.، برقة في الشرق، وفزان في الوسط، وطرابلس في الغرب، وقد أعلن إقليما الشرق والوسط بالفعل الحكم الذاتي في ليبيا.
أن مطالبة مجلس النواب الليبي بتدخل الأمم المتحدة لإعادة الأمن والاستقرار إلى ليبيا، إنما يعكس حقيقة الواقع المؤلم الذي تحياه ليبيا اليوم، حيث لا سلطة ولا جيش ولا مخابرات، ولا شرطة قادرين على فرض إرادة الدولة على الميليشيات المسلحة المسيطرة على مناطق عديدة من ليبيا، وتفرض سطوتها عليها، كما تكشف وتؤكد الاحداث الجارية على الارض عدم قدرة الدولة على مواجهة تلك الميليشيات المتطرفة، فضلا عن عدم وجود آليات تمكنها من مواجهة هذه التحديات، وحيث يجد الشعب الليبي نفسه اليوم فريسة مجموعات مسلحة تتفاوت في درجات تشددها العقائدي، وتتقاتل من أجل السيطرة على الموارد المالية ومخازن السلاح وحقول النفط والمعابر، واصبح حكام ليبيا الحقيقيين هم خليط من الجماعات الليبية المقاتلة وأنصار الشريعة والإخوان المسلمين والقاعدة، وهذا الخليط يضم ضمنيًا خليطا آخر من ليبيين وعرب وأفارقه وأسيويين.
هذا مع الوضع في الاعتبار أن كل من تولوا السلطة رسميا في ليبيا من سقوط نظام القذافي، خضعوا لابتزاز هذه الجماعات المسلحة والقبائل، وحيث ثبت وتأكد أن هناك 13 أو 14 مسئولا في مستوى وكيل وزارة ينتمون لجماعة الإخوان والمجموعات المقاتلة التي انصهر بعضها في حزب «الوطن» الذي أسسه المقاتل السابق في افغانستان عبدالحكيم بلحاج، حتى أن الوزارات تشتري الأمن من خلال دفع مبالغ هائلة من الأموال للميليشيات في مقابل حمايتها ضد هجمات خصومها، وبهذا إقتسمت الميليشيات المسلحة النفوذ، وسيطرت على ما تبقى من هياكل إدارية في البلاد، وقد بلغ الصراع أشده بين هذه الميليشيات المسلحة، وكل منها يستند إلى قبيلة أو فصيل إخواني أو ديني متشددا فيما يشبه معركة كسر عظم من أجل السيطرة على مطار طرابلس الدولي الذي يمثل أحد المعابر الرئيسية، ونقطة التواصل مع الخارج، وكل هذه العوامل تزيد وترجح حتمية تدخل خارجي، سواء إقليمي أو دولي، وحتى لا تتحول ليبيا إلى صومال آخر، وإذا كانت الصومال بعيدة جدا عن مصر، إلا أن ليبيا بحكم مجاورتها لمصر فان مصر لا تملك رفاهية الانتظار حتى تتحول ليبيا إلى صومال آخر، وينتقل الإرهاب والتقسيم إلى داخل مصر، وهو ما يفرض على مصر ضرورة التحسب لأسوأ السيناريوهات واتخاذ خطوات استباقية تجهض ما تستهدف له مصر من مؤامرات إنطلاقا من ليبيا، وحتى لا تجعل الإخوان ينفردون بليبيا وينفذون مخططاتهم ضد مصر إنطلاقا من هناك، واضعين في الاعتبار وجود أكثر من 30 مليون قطعة سلاح في أيدي ميليشيات موغلة في التطرف، وأن هاجس الاستئصال صار مسيطرًا على نفوسهم بعد تجربة الإطاحة بنظام حكم الإخوان في مصر، والتي تلقى بظلالها على مجمل الأوضاع في ليبيا وغيرها من الدول العربية والإسلامية التي بها تجمعات إخوانية.