فجأة صار المصريون ضيفاً ثقيلاً على ليبيا وتونس٬ رؤسهم مطلوبة في الأولي٬ ووجودهم غير مرغوب فيه في الثانية. وما بين ليبيا وتونس يخشى القابضون على الجمر بالداخل من مصير مشابه لما آل إليه الحال في العراق وسوريا٬ ويتحملون في نفس الوقت همزاً ولمزاً عربي حول موقف السلطة المصرية من مجازر العدو التاريخي في غزة.. لمحاولة فهم المشهد اقرأ القواعد التالية جيداً:
القاعدة الأولى: «لسنا سادة العالم»
بعنجهية غير مبررة٬ وغباء لا يقل براعة عن واقعة «أم درمان»٬ نقلت كل وسائل الإعلام المصرية في يونيو الماضي هذا الخبر بالصيغة نفسها: «السيسي يتجاهل تحية المرزوقي في القمة الأفريقية»..أحسنتم.
لم تصدر رئاسة الجمهورية نفياً٬ لم تعترض الخارجية٬ لم يظهر في لهذا البلد عاقلٌ٬ وبعد خمسة أسابيع٬ وبإشتعال الوضع في ليبيا٬ نقلت وسائل الإعلام نفسها خبراً مماثلاً: «تونس تغلق المعابر في وجه المصريين النازحين من ليبيا»..ردت تونس الصفعة٬ واحدة بواحدة يا سادة٬ والبادئ أظلم. إخفاقٌ أول.
القاعدة الثانية:«لا تعمل في صمت»
يدرك بحنكة مدير المخابرات الحربية السابق٬ وبواقع رئيس حالي٬ أن حدوده الغربية مع ليبيا٬ والتي تزيد على ألف كيلومتر٬ ثغرة لن يتمكن مهما فعل من السيطرة عليها منفرداً٬ وكما فعل عبدالناصر مع الثورة الليبية عام ١٩٦٩٬ قرر السيسي أن يدعم اللواء خليفة حفتر.
لم يتردد عبدالناصر كثيرا في الاستجابة لمطالب ثوار ليبيا عندما طلبوا منه الدعم والمشورة٬ فأرسل اليهم مسؤول الشؤون العربية في المخابرات العامة اللواء فتحي الديب ليدير المشهد داخليا ودوليا على مدار ١٨ شهرا٬ ومعه فريق من الجيش والمخابرات ومباحث أمن الدولة ورئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل ومصور صحفي. وكما جرت العادة تلقى الفريق محمد فوزي قائد القوات المسلحة الأوامرا بتحريك ما يلزم من قوات الطيران والمدرعات والمشاة إلى الحدود الليبية.
ودارت الأيام وتكرر المشهد٬ غير أن الموقف عام ١٩٦٩ كان معلناً وواضحاً. كان عبدالناصر حريصاً على إبراز الدور المصري في الثورات العربية٬ في حين فضّل السيسي الاكتفاء بالدَّورين العسكري والاستخباراتي فقط في ليبيا. الشواهد والمعلومات غير الموثقة تقول إن مصر دعمت اللواء حفتر٬ وتم إمداد قواته بالسلاح والمؤن بعضها من مصر وأغلبها من دول عربية ذات مصالح في استقرار ليبيا والقضاء على الجماعات المسلحة٬ وكانت مصر البوابة٬ الطائرات الحربية المصرية حلقت فوق بعض المدن الليبية٬ لكن المشكلة أن النظام الحالي لم يجرؤ على إعلان موقفه صراحة من الأزمة التي تقف على بوابته الغربية.
الترويج لما سُمّىَ «الجيش المصري الحر» كان محاولة للردع٬ استهداف الجالية المصرية بالتحديد وقتلهم شرقا وغربا٬ مسلمين ومسيحيين كان مقصودا٬ البعض اعتبره حدثا عابرا في ظل المجازر الجارية في ليبيا.. لحظة من فضلك: هل هناك جاليات عربية أو حتى إفريقية تتعرض لتصفية متعمدة في ليبيا؟.. لا.
في الواقع أن مصر اتخذت القرار الصحيح لكنها نفذته بالطريقة الخطأ. كان لابد أن تتواجد بشكل فاعل ومختلف في الأزمة الليبية غير أن الطريقة نفسها لم تكن مناسبة. في تاريخ البلدين وعلى مدار ٣ رؤساء تباينت طرق التعامل٬ كانت الثوارة الليبية تتبلور وكان عبدالناصر يقترب من الموت٬ ورغم ذلك ظل أيقونة في عقل وقلب معمر القذافي. تبدل الوضع مع السادات عندما وصلت العلاقة بين الرئيسين إلى مرحلة الندية٬ وتطورت الملاسنات إلى حرب عسكرية لعدة أيام سقطت فيها طائرات وقتل فيها جنود من الطرفين٬ فيما نجح مبارك في احتواء نزق وجنون الرئيس الليبي الراحل. إخفاقٌ ثانٍ.
القاعدة الثالثة: «المقاومة تكسب دائماً..وإن خسرت»
راهنت مصر ودول الخليج على كسر شوكة حماس في معركة «الجرف الصامد». على مستوى الأنظمة الحاكمة ـ بما فيهم مصرـ فإن حماس تعني لهم «الاخوان المسلمين»٬ وعلى مستوى الشعوب فهي فصيل المقاومة الأشهر٬ خاصة بعد اعتناق «فتح» مذهب «المفاوضات» والتغيير السلمي.
مع تسارع الأحداث تكسب حماس أرضية جديدة للتفاوض على رفع الحصار كاملاً٬ أسيران وقوة عسكرية وخسائر لا بأس بها في الجيش الصهيوني٬ علاوة على تعاطف دولي ومواقف داعمة من قبل بعض الدول الأوروبية واللاتينية. الضربة الاستباقية الصهيونية المدعومة «بصمت ومباركة عربية» وضعت الجميع في مأزق. السيسي الناصري في ليبيا صار ساداتياً في غزة ومباركياً مع إسرائيل.
القاعدة الرابعة: «داعش لن تدخل مصر»
تمهل قليلاً٬ من هنا خرج سيد قطب وعمر عبدالرحمن وأيمن الظواهري٬ وعلى هذه الأرض وجِدت «الجماعة الإسلامية» و«التكفير والهجرة» و«الجهاد» و«أنصار بيت المقدس».على هذه الأرض بدأت الجماعات المتطرفة دينيا استهداف المسيحيين والجيش والشرطة والأجانب والأدباء والمسؤولين والحكام. نظرياً: لن تتمكن داعش من دخول مصر كما فعلت في سوريا والعراق٬ المشهد المجمع الذي تراه في العرق عاشته مصر مفصلا على مدار ما يزيد على ستين عاما. عملياً: لا يحتاجون ذلك ..لدينا ما يكفي ويزيد.
«داعشنا» لن تأتي من الخارج٬ يولدون في الداخل ويزدهرون٬ الضربات الموجعة هي التي لا يمكن توقعها٬ ومصر الآن تتلقي ضربات في كل مكان٬ من الشرق إلى الغرب٬ في قلب القاهرة وفي أكثر معاقلها أمناً٬ المعركة مع داعش بدأت بالفعل٬ بعضهم يعتنق الفكر طوعاً٬ وبعضهم يخرج من وطنه منبوذا أو مضطهداً أو مظلوماً أو باحثاً عن حرية أُعتقلت أو ثورة سُرقت.. فيصبحون طرفى صراع٬ كل منهم «داعش» الآخر٬ مقموعون يقولون للسلطة نحن «داعشكم»٬ فتجيبهم: وأنتم «داعشنا».