ليس هناك رئيس يشبه آخر، ولا سياسى يماثل غيره. قد توجد أحيانا سمات مشتركة بين سياسيين اثنين أو أكثر. ولكن يستحيل موضوعيا أن يكون أى سياسى صورة جديدة لآخر سبقه بعقود أو سنوات، ولا يمكن تصور ذلك إلا إذا كان الخيال قوياً طاغيًا.
ولذلك ربما يكون التحدى الأول أمام المشير عبدالفتاح السيسى، ضمن قائمة تحديات هائلة، هو أن يتكلم بما يكفى لكى يعرفه الناس بعيدًا عن الخيال وما يصنعه من صور.
فمازالت صورة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر هى الأكثر قربًا إلى خيال قطاع من الشعب المصرى حين يُذكر اسم المشير السيسى، نتيجة التأثير الإعلامى القوى الذى يمارسه من يحبون هذه الصورة من ناحية، ولأن قطاعاً من المجتمع يبحث عن «منقذ» ما.
ولا يعرف معظم هؤلاء عن عبدالناصر إلا قشورًا يختلط فيها التاريخ الفعلى بالتأريخ الموَّجه. ولا يعنى من يعرفون عنه أكثر بحقيقة أن الزمن دار عدة دورات منذ ستينيات القرن الماضى إلى الحد الذى يجعل تلك الفترة تاريخًا بعيدًا. فمصر اليوم بخرابها الاقتصادى والاجتماعى والتعليمى والصحى ليست مصر منتصف القرن الماضى بإمكاناتها التى لم تكن فى حاجة إلا إلى حسن إدارة. كما أن نسبة القدرات البشرية المميزة بين ملايينها الذين يقتربون من المائة تقل كثيراً عن نظيرتها وسط نحو 21 مليوناً فى بداية عهد الناصر.
غير أن المشكلة ليست فى وضع حد لما يُقال حول ما بين عبدالناصر والسيسى من اتصال. فليست صورة عبدالناصر هى الوحيدة المرسومة للسيسى رغم أنها الأكثر رواجاً. هناك من يتخيلونه، وربما يتمنونه، سادات آخر لأنهم ينفرون من رؤية عبدالناصر الاقتصادية والاجتماعية ولا يتحملون منهجه فى الاستقلال الوطنى إلا حين يقتصر على شعارات وأغان على الطريقة التى عرفتها مصر منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى.
كما أن لمشكلة «صورة» السيسى أو «صوره» امتدادًا فى المكان وليس فقط فى الزمان. فبعض هذه الصور الأقل انتشارًا مطبوعة فى التاريخ العالمى وليس المصرى. وقد لجأ إليها بعض راسمى «صور» السيسى لإثبات أن العالم عرف قادة عسكريين صاروا رؤساء ناجحين. وظهرت فى هذا السياق صورتا الجنرالين الأمريكى أيزنهاور والفرنسى ديجول.
وغنىٌّ عن الذكر بطبيعة الحال أن مصر ليست هذه الدولة أو تلك، بتقاليدهما السياسية المتراكمة عبر أكثر من قرنين. فلا مجال أصلاً للمقارنة بين نظام الحكم الأمريكى ذى الخصوصية الشديدة جدًا وأى نظام حكم فى باقى دول العالم. ففى الولايات المتحدة حزبان رئيسيان ينضوى أى قادم جديد إلى عالم السياسة داخل أحدهما فيصير شخصًا آخر غير ذلك الذى كانه قبل أن يلحق به. وهذا هو ما فعله أيزنهاور، أو بالأحرى حدث له.
أما المقارنة مع فرنسا فهى جائزة، ولكن بعيدًا عن حالة ديجول، رغم اختلاف مستوى التطور السياسى والاجتماعى.
فقد تولى ديجول الرئاسة بعد أن نجحت الثورة الفرنسية الكبرى، التى مرت بحالات مد وجزر لنحو ثمانية عقود، بحوالى ثمانية عقود أخرى. فمن 1789 إلى 1958 كانت فرنسا قد تجاوزت التداعيات السلبية لثورتها ورسخت آثارها الإيجابية ولم تعد فى حاجة إلا إلى حكم أكثر استقرارًا بعد إخفاق النظام البرلمانى فى الجمهورية الرابعة، فأقام ديجول الجمهورية الخامسة شبه الرئاسية. غير أن المفارقة قد تكون أكثر فائدة بالنسبة إلى حال مصر الآن إذا تأملنا الظروف التى أنتجت حالتى بونابرت الأول والثانى فى 1799 و1852، أو ما أطلق عليه الظاهرة البونابرتية.
فبعد 10 سنوات على ثورة 1789، بدا نابليون بونابرت كما لو أنه منقذ لفرنسا التى مزقتها الفوضى والحرب الأهلية والتدهور الاقتصادى، وأصيب معظم الناس بالهلع الذى يدفع إلى البحث عن مخلِّص. وبدا بونابرت بالنسبة إليهم كذلك حيث وجد السلطة فى قارعة الطريق فانتشلها بسيفه على حد تعبيره.
وأعيد إنتاج المشهد بطريقة مختلفة بعد 53 عامًا عندما قادت البرجوازية والقوى الليبرالية الفرنسية قطاعًا واسعًا من الشعب باتجاه مساندة تولى الجنرال الحفيد لويس بونابرت السلطة خوفًا من صعود التيارات الاشتراكية والطبقة العاملة فى موجة 1848 الثورية التى سعت إلى تحقيق أهداف ثورة 1789 عبر إضفاء أبعاد اجتماعية عليها.
فهل تكون صورة بونابرت الأول أو الثانى هى الأقرب إلى الظروف التى صعد فيها نجم السيسى فى مصر؟