لا أتعامل مع الخطاب السياسى لرئيس الجمهورية باعتباره مفكرا ومثقفا وعالما لا يشق له غبار وأنه فاق الأولين والآخرين والأوسطين، وأن كلماته سلاسل ذهب مضفورة بالبلاتين ومرصعة بالياقوت والزمرد وكل حجر كريم!
كنت وما زلت أتعامل ذهنيا مع ضابط كبير وصل لرتبة المشير وتولى مواقع مهمة وتصدى لما أظنه بل وأعتقده اعتقادا هذه المرة جازما ولا يخر منه الماء، مهمة تاريخية حضارية من طراز رفيع بكل المعايير، هى مهمة تضافر الحركة الشعبية الواسعة مع القوات المسلحة لإزاحة كابوس الشاطر وبديع والبلتاجى وغيرهم من قادة قوى التخلف والقهر الفكرى والاستبداد باسم الدين، وإنقاذ مصر والأجيال الطالعة من مصير أفغانستان والعراق!
ومنذ ظهر السيسى على الساحة السياسية وزيرا للدفاع ثم مرشحا للرئاسة ثم رئيسا وأنا أستمع إليه بدقة وأحاول أن أفصل بين انبهارى بدوره فى التغيير وبين مضامين خطابه التى ستحدد حاضرى وحاضر أولادى ومستقبلهم ضمن الملايين التسعين الذين يسكنون المحروسة واسمهم المصريون!
استمعت إليه قبيل الانتخابات الرئاسية، وكنت نفرا ضمن حشد من أهل السياسة والأحزاب، وتطرق إلى قضية شغلتنى ومازالت أعتقد أنها تشغل كثيرين جدا، هى قضية واقع الإسلام والمسلمين وماذا نفعل من أجل ولو نصف خطوة إلى الأمام؟!
يومها قال المرشح الرئاسى وهو يعلم أن ما يقوله سوف ينقل ويناقش وأنه ليس فى غرفة مغلقة مع من إذا طلب إليهم الكتمان سيلبون: إننا إذا أردنا أن نبحث عن شعب أو أمة تمثل الإتقان والإصرار على العلم والعمل ومواجهة التحديات فسيتجه نظرنا مباشرة إلى الأمة الألمانية، وإذا بحثنا عن تجسيد للفناء فى سبيل الوطن وتجسيد للصدق والالتزام وتعظيم قيمة العمل والإنتاج والاحترام الشديد للقيم والتقاليد فسيتجه نظرنا مباشرة إلى الأمة اليابانية، فماذا عنا نحن.. ماذا عن الأمة الإسلامية إذا أردنا أن نبحث عن الكذب والنفاق والإهمال والقتل والإرهاب والعبث بمضامين كل ما هو مقدس؟! ولم يجب وزم شفتيه وظهر الأسى والألم على وجهه.. ثم استطرد: ولذلك فإن من أولوية مهامى إذا فزت فى الانتخابات أن أسعى لتغيير هذا الواقع، ولو استطعت أن أستحضر خطباء للجمعة من خريجى هارفارد وكمبردج لفعلت لأنها جريمة أن نترك شعبنا وأولادنا لمن يزيفون وعيهم ويلقنونهم المغالطات فى شأن ديننا الحنيف العظيم، ولا بد من التصدى لهؤلاء المزيفين وتغيير الخطاب الدينى!
فى ذلك اليوم لا أخفى أننى انبهرت ثم قلت فى نفسى ولنفسى: ربما هى حماسة ما قبل وقوع الفأس فى الرأس، وأشك أنه سيواصل الاهتمام لأنه بذلك يضع رأسه وليس يده فى عمق أعماق أعشاش الدبابير!
ثم كانت الأمسية الاحتفالية التى أقامتها وزارة الأوقاف والأزهر بمناسبة ليلة القدر، وتحدث الإمام الأكبر والوزير وبعدها طوى السيسى كلمته التى أعدها، ثم ارتجل بصوته الحريرى الهادئ الحاسم الباتر، وإذا بى أسمع تأكيدا لمضمون ما سمعته منه قبل توليه الرئاسة، وربما تكررت عبارات بعينها، وبدا إصراره متصلا على مستوى حتمية تغيير الخطاب الدينى وواقع المسلمين، ومستوى حتمية القصاص واستمرار الحرب ضد الإرهاب.. فاعليه ومموليهم!
وهنا ينتقل الأمر إلى مستوى سأحاول تلخيصه ببساطة!
الأمر فى نظرى- ودون أن أعمد إلى تحميل خطاب الرجل أكثر مما يحتمل- هو أن رئيس الجمهورية يعى أن وطنه مازال يعيش صراعا بين مشروعين وهو صراع ممتد منذ القرن الثامن عشر إلى يومنا هذا فى القرن الحادى والعشرين.. هو الصراع بين مشروع الركود والحفظ والتلقين وتقديس ما ليس له قداسة من متون فقهاء سابقين، وحجر على العقل والفهم والإبداع والحرية، وبين مشروع التجدد والفهم والوعى ومواكبة متغيرات الزمان والمكان وإعمال العقل فى كل ما نتلقاه وحسم العداء المصطنع بين العلم وبين الدين.
ولقد وصل أصحاب مشروع الركود والتخلف إلى مرحلة حمل السلاح الخفيف والثقيل والقتل بلا هوادة وتخريب المنشآت العامة وأبراج الكهرباء ومحطات القطارات والقطارات نفسها، وهذا يعنى فى نظرى أن ذلك المشروع يلفظ آخر أنفاسه فى آخر معركة، حيث لم تتوقف المعارك وبدرجات مختلفة وبأسلحة متفاوتة منذ واجه الشيخ حسن العطار الركود بمنهج جديد هو نقد المتن فى الحاشية بدلا عن حفظه والتهميش عليه بما قد يزيده تعقيدا وركودا.
نحن إذن بصدد موجة معاصرة فى مشروع التجديد والنهوض الوطنى، ونقطة البداية هى تصحيح ما استقر فى الوجدان الشعبى من مغالطات فادحة تمس جوهر الدين وصميم العقيدة وتنعكس على سلوكيات الناس وتشغلهم بالشكل عن الجوهر، حيث بات شكل الجلباب وطوله، وهيئة اللحية وطريقة تهذيبها، وتغطية وجه المرأة بسواد فى عز لهيب الصيف ورطوبته هو ما يشغل عقول كثيرين!
ترى هل يعد التقاط هذا الخيط من الخطاب السياسى لرئيس الجمهورية ومناقشته وتطويره والبناء عليه شكلا من أشكال النفاق السياسى وتطبيلا للحاكم وإلباسه ثوب الفلاسفة المجددين وهو ليس كذلك؟!
أم ترى أن الواجب الوطنى والالتزام الأخلاقى والمعرفى يستوجبان الاستجابة لأى بادرة تهدف الخير للوطن والوعى للناس والقوة للأمة؟!
اعرف الإجابة، ولكنها تساؤلات قد تبدو مشروعة فى مناخ صارت الاتهامات فيه أسهل من التنفس.