أعرف أن النصائح هذه الأيام كثيرة، ورغم أنها فى معظمها تتحدث عن مستقبل الوطن وموجهة لرئيس الجمهورية القادم، إلا أنها على الأغلب ترسل إلى عنوان المشير عبدالفتاح السيسى، باعتباره يقينا الرئيس القادم. وبغض النظر عن الدوافع الشخصية هنا أو هناك، إلا أن هذا المنهج فيه مشكلتان: الأولى أنها تحرمنا من المناقشة والحوار حول مهام المرحلة المقبلة، فمهما كانت نوايا وآراء الرئيس القادم فإن عليه أن يأخذ فى اعتباره ما توصل إليه الرأى العام، خاصة فيما يتعلق بالقرارات الصعبة التى لا مفر من اتخاذها.
والثانية أنها تكاد تكون تفصيلا على مرشح واحد للرئاسة، وفى هذا استهانة بالنزاهة والمصداقية المطلوبة فى العملية الانتخابية، فحتى لو كانت الأقدار محسومة، فإن المرشح لمنصب الرئيس لا يوزن بعدد الأصوات التى يحتمل حصوله عليها، وإنما بقيمة الآراء التى يعرضها على المواطنين، والكيفية التى يمكن تحقيقها من خلالها. ولكن لو أن الأقدار غير محسومة، كما أعتقد، فإن المسألة تصبح أكثر جدية وخطورة، ونصبح أمام منافسة حقيقية بين مرشحين يمثلون توجهات متعددة. وهناك دائما ما هو معروف بالتصويت السلبى- وكان شائعا للغاية فى الانتخابات الرئاسية السابقة حينما انتخب مرسى من كان كارهاً لشفيق، وانتخب شفيق من كان كارهاً للإخوان- الذى ينتظر أن يكون وارداً فى هذه الانتخابات أيضا.
وليس سراً على أحد أن الشعب المصرى منقسم بين أغلبية سياسية وقفت وراء خارطة المستقبل وأقلية عارضتها بالرأى السياسى والعنف والإرهاب، وبين القاهرة والدلتا ومحافظات القناة من الناحية، والجنوب والمحافظات الحدودية من ناحية أخرى. والمجتمع فى أغلبه منقسم، حيث تبدو أغلبية النساء وكبار السن من الرجال فى ناحية، والشباب فى ناحية أخرى.
وبالطبع، فإن كل جماعة، بل شريحة، وأحيانا أسرة، منقسمة على حالها، ويتبع ذلك حال النقابات والأندية الرياضية، حتى نصل إلى حركة تمرد. وحتى وقت كتابة هذا المقال كان هناك ثلاثة مرشحين للرئاسة لكل منهم وزنه فى الحياة العامة، ورغم أن استطلاعات الرأى العام أعطت دوما للمشير السيسى ثقلا متميزا عن بقية المحتمل ترشحهم، فإن هذه الاستطلاعات أيضا شهدت نسبية هذا الثقل، حيث حصل فى استطلاع مركز ابن خلدون على 54٪، ومركز بصيرة على 51٪، ولاتزال المعركة فى بدايتها، ولم تجر فيها المناظرة السياسية- الرسمية أو غير الرسمية- بعد.
ولكن ما يهمنا هنا هو تلك القضايا الموضوعة على مائدة المناظرة، بل على جدول أعمال الرئيس فور توليه منصبه. وخلال الأسابيع الماضية، قدمت الكثير من الأفكار حول ما أعتقد أنه يغير من تاريخ مصر كلها (ملكية أرض مصر، اللامركزية، تحول مصر إلى دولة بحرية، ربط العمل بالإنتاج، إعطاء أهمية عظمى للطاقة الشمسية)، ولكن كل ذلك لن يصير ممكناً إلا إذا كان تعريف الموقف الذى تمر به مصر دقيقا، ومن ثم يحدد الأولويات الواجب التركيز عليها. وفى الحقيقة فإن الحديث عن الفقر، والاهتمام بالمواطن، واستعادة مصر لمكانتها الدولية، والغضب المستحق فى قضية مياه النيل؛ كل ذلك مقدر، ولكن قبل ذلك هناك خطوة مهمة، وهى تعريف الموقف بأنه أزمة كبرى تعيشها مصر، والبعض منا- الأستاذ محمد حسنين هيكل- يفضل أن يسميها مأزقاً، ولكن المعنى فى الحقيقة واحد، وهو أننا أمام حالة استثنائية، صعبة، ممتلئة بالأخطار والتهديدات للدولة والوطن والمجتمع. وعندما تعيش دولة ما «أزمة كبرى»، فإن الوقت ليس فيه ما يسمح بالآراء والتمنيات الطيبة والمشروعات الكبرى التى تحل كل المعضلات، وإنما بالقرارات التى تواجه حالة مستعصية.
نحن إزاء حالة مستعصية، مركبة فيها أزمة أمنية فوق أزمة اقتصادية فوق أزمة اجتماعية فوق أزمة فى تعريف الدور المصرى فوق أزمة فى النخبة المصرية فوق أزمة للفجوة بين الدستور والقوانين، وأخرى بين السلطات الثلاث. ولو شئنا أو أبينا فأمامنا معضلة ماذا نفعل مع الإخوان المسلمين، وما هو شكل العلاقة بين المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة المدنية؟
من هنا فإننى أختلف مع الصديق الأستاذ محمد سلماوى فى أهمية الإعلان عن قرارات المائة يوم الأولى، لأنه فى حالات الأزمة الكبرى، وهى بالنسبة للفرد مثل الإصابة بذبحة صدرية أو بجلطة دماغية، فإن المائة دقيقة التالية هى التى ستحدد مصير صاحبنا وعما إذا كان سوف يعيش حياة طبيعية أو يعيش ومعه عاهة مستديمة أم سيلحق، لا قدر الله، بالرفيق الأعلى. فى مثل هذه الحالات فإنه لا يكون مفيدا كثيرا للمريض الحديث عن ضرورة اتباع نظام غذائى صحى، أو الحث على ممارسة الرياضة، أو تغيير نمط الحياة، أو الابتعاد عن الضغط العصبى والنفسى. الوعد فى الحالة المصرية بتنفيذ مشروع قناة السويس، أو إطلاق العنان لممر التنمية، أو القسم بأن تنمية سيناء سوف تحدث فى القريب العاجل؛ كل ذلك لا يخرج مصر من الأزمة، كما أنه من كثرة استعماله لم يعد يصلح كمخدر موضعى. ما فى يد رئيس الجمهورية المنتظر القرارات السيادية فى كل ما يتعلق بشؤون البلاد، والمحافظة على مصر وسلامة أراضيها، خاصة أنه سوف يكون مطلق اليد فيما أعطاه الدستور من صلاحيات حتى انتخاب مجلس النواب.
فما هى القرارات التى يستطيع رئيس الجمهورية اتخاذها ويمكن تطبيقها وتنفيذها خلال المائة يوم الأولى؟ المرشح للرئاسة الأستاذ مرتضى منصور طرح أمراً لا يمكن أن يكون من قرارات المائة يوم الأولى، وهو الخاص بتعديل الدستور حتى يمكن تعديل سلطات رئيس الجمهورية، لأن مجلس النواب لم ينتخب بعد، ويحتاج الأمر إلى نقاش وطنى واسع وممتد؛ ولكنه طرح ضرورة وقف المظاهرات والإضرابات لمدة عام، وهو قرار يمكن أن يصدر خلال المائة يوم الأولى، فهل سيفعل، وهل الموارد والقدرات والظروف مواتية، وما رأى المشير السيسى والأستاذ حمدين صباحى؟
رئيس الجمهورية بوسعه، بل من واجبه، تشكيل حكومة جديدة، وهذه بالضرورة لا بد أن تتم خلال المائة يوم الأولى، فما هو شكل ومضمون هذه الحكومة التى ستقوم بدور غرفة العناية المركزة، أو هيئة أركان حرب القوات المسلحة ساعة صراع محتدم؛ فالقضية هنا ليست الأسماء، ولا يمكن الاحتجاج بأن النظام القديم قام بعملية تجريف للقيادات السياسية والاقتصادية، ولكن القضية هى: هل سيبقى شكل الوزارة على ما هو عليه، أم أننا نحتاج قرارا سياديا بوزارة مختلفة، أصغر حجما بكثير مما نعرف، وأكثر فاعلية بكثير عما تعودنا عليه؟ وبصراحة، فإن بداية تحديد مصير الوطن، وما إذا كان ممكنا له اللحاق بالدول المتقدمة أو يظل قابعا فى نطاق الدول المتخلفة، سوف تتحدد بأمرين، كلاهما يدخل فى نطاق القرارات السيادية الرئاسية: أولهما تشكيل الوزارة شكلا وموضوعا؛ وثانيهما شكل ومضمون مؤسسة الرئاسة ذاتها.
لقد كتبت من قبل فى العهد السابق عن وجود رئيس قوى ومؤسسة رئاسة ضعيفة، حيث كانت سلطات الرئيس طاغية، ولكن كل معاونيه كانوا لا يزيدون من حيث الفاعلية على أعمال «السكرتارية» لرئيس الجمهورية. وهؤلاء رغم كفاءتهم الكبيرة فى إدارة أعمالهم، فإن رئيس الجمهورية شخصياً بات أسير نزعاته الشخصية، وما يرد إليه من معلومات لم يكن كله دقيقاً ولا مناسباً وأحياناً موجهاً أيديولوجياً أو به مصالح شخصية. لم تكن هناك تلك الكيانات التى تتابع وتراقب وتفرز وتحلل وتقدم للرئيس الخيارات الممكنة والتى لا تستنكف عن عرض القرارات الصعبة على الرئيس فى أحلك الأوقات. فمن هؤلاء يا ترى الذين سيقومون بتلك المهام الصعبة وقرارات الموت والحياة لوطن يمر بأزمة طاحنة؟ وهل سيختلف هؤلاء فى إدارة يقودها المشير عبدالفتاح السيسى عن إدارة أخرى للأستاذ حمدين صباحى، عن إدارة ثالثة للأستاذ مرتضى منصور؟
قرارات المائة يوم الأولى مهمة، لأنها سوف تحدد الإطار السياسى الذى سوف يعمل فيه الرئيس، فطبقا للدستور المصرى، فإن العلاقة بين الرئيس والوزارة ومجلس النواب سوف تكون بالغة الحساسية والدقة فى ظروف صعبة. ومن الطبيعى، مع الحفاظ على النزاهة والأمانة والمنافسة المشروعة، أن يسعى الرئيس سياسيا لكى يصل إلى مجلس النواب ومن سيتوافقون مع برنامجه لإنقاذ الوطن مما وصل إليه. فما هى تلك القرارات التى سيتخذها الرئيس أيا كان اسمه؟ كان الله فى عونه فى كل الأحوال.