فى أعقاب هزيمة 1967 التى كشفت عن أن العدو الإسرائيلى كان لديه معلومات كاملة عن مواقع المطارات المصرية، بما فى ذلك السرية منها التى أقيمت فيها مخابئ لإخفاء الطائرات، تبادل المصريون نكتة تقول إن أتوبيساً للنقل العام توقف فى إحدى المحطات، فنبه المحصل الركاب قائلاً: «اللى عايز ينزل فى محطة المطار السرى ييجى جنب الباب».. ولما عاد أحدهم أدراجه دون أن ينزل سأله عن السبب فقال الراكب: «أنا نازل محطة المطار السرى اللى جاية!».
وفى التسعينيات، كانت الصحف المصرية الرسمية تصر على وصف «الإخوان المسلمون» بـ«الجماعة المحظورة»، على الرغم من أن قادة الجماعة كانوا يتحدثون باسمها فى الاجتماعات والمؤتمرات فى الداخل والخارج، وكان مرشحوها يخوضون الانتخابات العامة والنقابية بالتحالف مع مرشحى الحزب الحاكم، وكان لقيادتها مقر معروف فى محطة الملك الصالح بالمنيل، فأعاد المصريون إعادة صياغة النكتة، لتتواءم مع هذا الوضع المضحك، بحيث ينبه المحصل الركاب بأن على من يريد النزول فى محطة المحظورة أن يستعد عند الباب، ويرد الراكب الذى عاد أدراجه دون أن ينزل على سؤاله عن السبب قائلاً: «أصل أنا عاوز أنزل فى محظورة غير دى!».
تذكرت هاتين النكتتين وأنا أقرأ نص قرار مجلس الوزراء رقم 579 الذى صدر أمس الأول، وقضى بأن «ينفذ الحكم الصادر من محكمة القاهرة للأمور المستعجلة فى 24 فبراير الماضى، فيما تضمنه من اعتبار جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، منظمة إرهابية، وما يترتب على ذلك من آثار أولها توقيع العقوبات المقررة قانوناً لجريمة الإرهاب، على كل من يشترك فى نشاط هذه الجماعة أو التنظيم أو يروج لها بالقول أو بالكتابة أو بأى طريقة أخرى، وكل من يمول أنشطتها، أو انضم إليها واستمر عضواً فيها بعد صدور هذا القرار».
وكانت الحكومة السابقة برئاسة د. حازم الببلاوى قد أعلنت فور صدور هذا الحكم أنها ستنفذه بعد أن يصبح حكماً باتاً، لأن الأحكام المستعجلة هى بطبيعتها أحكام مؤقتة تتعلق بالشكل، وترتبط بدفع خطر حال لا يمكن تدارك آثاره، يمكن أن يهدد أصل الحق الذى يطالب به المدعى.. وأن الحكم النهائى هو الذى يصدر عن محكمة الموضوع!
لكن حكومة الببلاوى لم تستطع أن تصمد أمام ضغوط الإعلام، وثورة الرأى العام التى اشتعلت غضباً فى أعقاب جريمة تفجير مبنى مديرية أمن الدقهلية، فاجتمع مجلس الوزراء ليصدر قراره باعتبار المحظورة جماعة إرهابية استناداً إلى الحكم الذى أصدرته محكمة القاهرة للأمور المستعجلة، وفسر القرار ذلك بتطبيق المادة 86 من قانون العقوبات وما يليها - المعروفة إعلامياً بقانون الإرهاب - على من يرتكب جريمة إرهابية من أعضائها أو المنتمين إليها أو يروج لأفكار تدعو للعنف أو تحرض عليه.. إلخ.
أيامها قلنا وقال غيرنا إن قرار مجلس الوزراء مجرد تحصيل حاصل، وإنه أقرب إلى بيان سياسى بأن الحكومة تنوى تنفيذ القانون منه إلى قرار ينشئ حالة جديدة.. فالمواد الخاصة بالإرهاب قائمة فى قانون العقوبات، ومن واجب الحكومة - عبر أجهزتها المختصة بذلك وهى أجهزة الأمن - أن تطبقها على كل من يشكل عصابة للقيام بعمل إرهابى، أو ينضم إليها، أو يروج لأفكارها، أو يحرض على العنف، ومن بينهم بالطبع من يرتكب ذلك من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات المتأسلمة، الذين تم القبض بالفعل على مئات منهم، بينهم بعض قادة الجماعة، تجمعت الدلائل على أنهم يخالفون نصوص هذا القانون، وقُدموا للنيابة العامة التى لاتزال تحقق مع بعضهم وأحالت البعض الآخر إلى المحاكم التى تتولى محاكمتهم، وصدرت بحق بعضهم أحكام.. وإذا كان من المنطقى أن تصدر أى حكومة بياناً تعلن فيه أنها ستطبق القانون بكل حزم على كل من يخالفه فليس من المنطقى أن تصدر قراراً بتنفيذ القانون، وإلا كان معنى ذلك بمفهوم المخالفة أن باستطاعتها أن تخالف القانون.
لم تكن الحكومة إذن فى حاجة إلى إصدار قرار بأنها سوف تطبق قانون الإرهاب على كل من يخالفه، ونشر مثل هذا القرار فى الجريدة الرسمية لا يحوله من بيان سياسى إلى قانون واجب النفاذ، لأن ذلك ليس من اختصاص الحكومة، لكنه من اختصاص السلطة التشريعية أو من يحل محلها، وهو رئيس الجمهورية، والتفسير الذى ورد فى هذا البيان لنصوص قانون الإرهاب، والذى يعتبر كل من انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة إرهابياً، دون أن تقوم دلائل على مشاركته بأى صورة، فيما يقوم به غيره من أعضاء الجماعة من نشاط إرهابى هو تفسير خاطئ ويخالف القانون ونصوص الدستور التى تقضى بأن «العقوبة شخصية».
ما يلفت النظر هو أن ينشر قرار أو بيان اعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية فى الجريدة الرسمية، عقب الاجتماع الذى عقدته الحكومة فى الأسبوع الماضى، فى أعقاب العملية الإرهابية التى وقعت فى محيط جامعة القاهرة، وأسفرت عن استشهاد وإصابة عدد من كبار رجال الشرطة بمديرية أمن الجيزة، وقيل إن الحكومة ناقشت خلاله مشروع قانون بتعديل قانونى العقوبات والإجراءات الجنائية، لتشديد العقوبات على الجرائم الإرهابية، ولمنح الشرطة سلطات إضافية، حتى لا يستفيد المشتبه فى ارتكابهم جرائم الإرهاب من الضمانات التى يكفلها القانون فيواصلوا نشاطهم.. وأنها أحالت المشروع إلى رئيس الجمهورية لمناقشته وإصداره، وفجأة اختفت أنباء هذا المشروع، لتحل محلها الزغاريد التى انطلقت تبشر المصريين بأن الحكومة قررت تطبيق القانون على الإرهابيين.
وإذا أرادت الحكومة أن تدرج جماعة الإخوان المسلمين فى قائمة المنظمات الإرهابية، فليس أمامها حل سوى أن تضيف إلى قانون العقوبات نصاً صريحاً، يحدد الحالات التى يجوز فهيا إدراج إحدى الجماعات فى هذه القائمة، والجهة التى يحق لها اتخاذ هذا القرار، والعقوبات التى تترتب على الانضمام لهذه الجماعة، والضمانات التى تتيح لمن ينطبق عليهم الطعن عليه أمام القضاء، استرشاداً بالقوانين المماثلة التى أصدرتها دول ديمقراطية فى أعقاب تعرضها للإرهاب، ومن بينها القانون الأمريكى الذى يعطى لوزير الخارجية والنائب العام حق إصدار قرار بإدراج أى جماعة فى قائمة المنظمات الإرهابية، ويحدد العقوبات التى تترتب على ذلك.
وهى على كل الأحوال ليست فى حاجة إلى ذلك، فيما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين، لأن قانون الإرهاب ينطبق على الذين يمارسون الإرهاب منهم، أما الذين لا يفعلون ذلك فتنطبق عليهم المادة 22 من قانون الأحزاب السياسية التى تعاقب بالسجن كل من أنشأ أو أسس أو نظم أو أدار أو موّل على أى صورة تنظيماً حزبياً غير مشروع، ولو كان مستتراً تحت أى ستار دينى أو فى وصف جمعية أو هيئة أو منظمة أو جماعة أيا كانت التسمية أو الوصف الذى يطلق عليه، وترتفع العقوبة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة إذا كان التنظيم الحزبى غير المشروع معادياً لنظام المجتمع أو ذا طابع عسكرى أو شبه عسكرى أو اتخذ طابع التدريبات العنيفة التى تهدف إلى الإعداد القتالى، أو إذا ارتكبت الجريمة بناء على تخابر مع دولة معادية.
أليس تطبيق هذه المادة كافياً لكى ينبه أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ممن لا يشاركون فى موجة العنف والفوضى والإرهاب التى تحرضهم عليها قيادة الجماعة، إلى أنهم يتحملون المسؤولية عما لم يرتكبوه ولم يرضوا عنه، وأن الأوان قد آن لكى يغسلوا أيديهم من الدماء التى تسيل فى معركة سوف يخسرون فيها دنياهم وآخرتهم.
أليس ذلك أفضل من إصرار حكومة «محلب» بنشرها اللغو القانونى الذى سمته قرار اعتبار الإخوان جماعة إرهابية، فى الجريدة الرسمية، على النزول فى «محطة الببلاوى» بدلاً من النزول فى «محطة المحظورة»!