أغلب الظن أن الانتخابات الرئاسية لن تجرى إلا فى منتصف مايو المقبل، وأن الرئيس القادم لن يتسلم سلطته الدستورية، ليتواكب ذلك مع العيد الأول لثورة 30 يونيو، ومع مرور عام على عزل الرئيس السابق «محمد مرسى».
ما يرجح هذا الاحتمال هو التوقيتات التى تتطلبها الخطوات التمهيدية لإجراء هذه الانتخابات، وهى تشمل انتهاء مجلس الدولة من مراجعة مسودة التعديلات التى أدخلت على قانون الانتخابات الرئاسية، وأحيلت إليه، يوم الأربعاء الماضى، خلال أسبوعين ينتهيان فى 6 مارس القادم.. ليصدره رئيس الجمهورية خلال الأسبوع الثالث من الشهر القادم، وتعقب ذلك فترة زمنية تتراوح بين أسبوع قد يمتد إلى عشرة أيام أو أسبوعين، لجمع التوكيلات التى تعطى الراغبين فى الترشح الحق فى خوض المنافسة، والتى يصل عددها إلى 20 ألف توكيل من 15 محافظة، يفتح - بعدها- لمدة أسبوع باب تقديم أوراق الترشيح، ثم تعلن اللجنة العليا للانتخابات، بعد فترة تتولى خلالها فحص هذه الأوراق، أسماء المرشحين، وتفتح الباب - لمدة أ سبوع - أمام المستبعدين منهم، للطعن على قرار الاستبعاد، تعلن بعده الأسماء النهائية للمرشحين.. لتبدأ حملة الدعاية الانتخابية التى يتوقع أن تستغرق ثلاثة أسابيع.
فإذا وضعنا فى الاعتبار أن بعض هذه الخطوات قد يتطلب مدة أطول من المقدر له فإن إجراء الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لن يتم قبل منتصف مايو المقبل، فإذا أسفرت نتيجتها عن ضرورة إجراء جولة أخرى للإعادة بين المرشحين الحاصلين على أعلى الأصوات، فسوف يتطلب هذا أسبوعين آخرين، وهو ما يرجح الاستنتاج القائل بأن الرئيس القادم لن يبدأ فى ممارسة سلطته الدستورية إلا فى 30 يونيو القادم.
ولا يوجد تناقض بين ذلك، وبين النص الانتقالى الوارد فى المادة 230 من الدستور، التى تنظم إجراءات الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التى تعقب إعلان نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، لأن هذه المادة تقضى بأن تبدأ إجراءات الانتخابات الأولى منها - وهى الرئاسية - بعد 90 يوماً من تاريخ العمل بالدستور، أى قبل يوم 16 إبريل القادم، وأن تبدأ إجراءات الثانية منها - وهى الانتخابات البرلمانية - خلال ستة أشهر من تاريخ العمل به، أى قبل 16 يوليو القادم، وهو ما يعنى أن فتح باب الترشح للانتخابات البرلمانية سوف يبدأ بعد ستة عشر يوماً من التاريخ الذى يرجح أن يتولى فيه رئيس الجمهورية الجديد سلطته الدستورية، وهو 30 يونيو.
ومع أن أغلبية المصريين تميل إلى اختصار هذه التوقيتات إلى الحد الأدنى، إلا أن ذلك لم يمنعهم من الانشغال بالانتخابات الرئاسية منذ الآن، انطلاقاً من تقدير صحيح بأن حسمها - هذه المرة - فى اتجاه الرؤى التى بلورتها ثورة 30 يونيو، سوف يكون البداية الصحيحة لإعادة بناء الدولة الديمقراطية المدنية، وتحقيق أهداف ثورة يناير، بعد التجارب المريرة التى مرت بهم، خلال السنوات الثلاث السابقة، وعانوا خلالها من تشوش الرؤى وتفرق السبل وافتقاد الأمن ونقص القوت، وسرقة الأحلام واختطاف الثورات!
وفى هذا السياق حسم الجدل حول ضرورة أن تكون الانتخابات الرئاسية تنافسية، على الرغم من وجود اتجاه رئيسى غالب بين الناخبين يحتشد حول ترشيح المشير عبدالفتاح السيسى، وأعلن عدد من المرشحين بالفعل عن نيتهم خوض السباق الرئاسى معه، وتصاعدت المطالبات - والدلائل - على أن هذه الانتخابات سوف تجرى طبقاً للمعايير الدولية، وتكفل لها كل ضمانات التكافؤ والنزاهة والشفافية.
ولأن الشىء لزوم الشىء، فإن البرامج هى الشىء الذى يلزم كل مرشح يخوض أى انتخابات سواء كان يرشح نفسه لعمودية قرية أو لعضوية مجلس إدارة جمعية زراعية أو نقابة عمالية أو مهنية أو كان يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية.
ومشكلة البرامج فى الانتخابات المصرية، على مختلف مستوياتها، تكمن فى أن الذين يضعونها، سواء كان المرشح نفسه، أو فريقاً من مناصريه، ينتمون إلى مدرسة «الكلام ما علهش جمرك» الشائعة فى التراث الشعبى المصرى، وهى مدرسة يؤمن أصحابها بأن الكلام هو بضاعة معفاة من الرسوم الجمركية، وبالتالى فإن قائله لا يتحمل أى مسؤولية أو يدفع أى رسم ثمناً له، وبما أن برنامج المرشح لأى انتخابات هو مجرد كلام يقوله فى خطبه ومنشوراته ولافتاته التى يوزعها هو وأنصاره على الناخبين، فمن حقه أن يقول فى هذا البرنامج «أى كلام» يتصور أنه قادر على جذب أصواتهم لصالحه، وكل ما هو مطلوب منه هو أن يقوم بتجميع المشاكل التى يعانى منها أهل الدائرة وأن يعدهم - فى برنامجه الانتخابى - بحلها فور حصوله على أصواتهم، وفوزه بتمثيلهم، بأن يجد لكل أسرة مسكناً ولكل عاطل عملاً، ولكل عانس زوجاً، ولكل مريض سريراً فى مستشفى، ولكل مسافر مقعداً فى قطار أو أتوبيس... إلخ.
ولأن البرنامج الانتخابى - كالكلام - ليس عليه جمرك، فإن المرشح يعتبر نفسه ليس مطالباً بتنفيذ الوعود التى قطعها على نفسه أمام الناخبين، لأسباب معقدة، من بينها أنه لم يعن بالبحث عن العقبات التى حالت بين أسلافه الذين فازوا فى الانتخابات السابقة بالموقع نفسه، وبين تنفيذ هذه الوعود نفسها، ولم يدرس التكلفة المالية لتنفيذها، ويتأكد من إتاحة الموارد اللازمة لذلك فى الموعد الذى حدده، ولم يستعن فى إعداد برنامجه الانتخابى بمتخصصين على مستوى رفيع فى كل المجالات، يساعدونه فى جدولة المشاكل الحقيقية والملحة التى يعانى منها الناخبون، وفى تحديد الأولويات التى ينبغى أن يبدأ بها، وفى دراسة الإمكانيات المتاحة لحلها.
ولأن بعض المرشحين يؤمنون بأن الشىء لزوم الشىء، وأن البرنامج لزوم الترشح، فقد أصبحوا يلجأون إلى سرقة البنود المتميزة فى برامج منافسيهم ليضيفوها إلى برنامجهم، بحيث يبدو متضمناً أهم ما فى بنود غيرهم من وعود.
وعلى عكس ما يقوله المثل الشعبى، وما يظنه بعض المرشحين.. فإن المرشح قد يجبر أحياناً على دفع الرسوم الجمركية عن الكلام الذى قاله فى برنامجه.. وكان ذلك ما حدث فى حملة الانتخابات الرئاسية السابقة حين أعلن الرئيس السابق محمد مرسى أنه يخوض هذه الانتخابات استناداً إلى مشروع كامل للنهضة المصرية الشاملة فى كل المجالات، أعده مئات من الخبراء الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين، واستغرق إعداده خمس سنوات، ثم اتضح أنه لا يوجد مشروع من هذا النوع، بل مجرد أفكار أولية لإعداده، وأن ما قاله مرشح الإخوان هو كلام ليس عليه جمرك، وبرنامج لا وجود له، فاضطر منظمو حملته الانتخابية إلى سرقة فكرة كان منافسه د. أحمد شفيق قد طرحها بشكل عابر، وأعلنوا تعهده بأن يحل - فى حالة فوزه فى الانتخابات - عدداً من المشاكل التى تواجهها البلاد منها مشاكل الأمن والمرور والنظافة خلال مائة يوم فقط من إعلان نتيجة الانتخابات.
وما كادت الأيام المائة الأولى من رئاسته تمر، حتى فوجئ «مرسى» بمعارضيه يدعون إلى مليونية كشف الحساب، ليعلنوا عجزه عن الوفاء بوعده، ويطالبوه بدفع الجمرك عن الكلام المرسل الذى قاله فى برنامجه الانتخابى!
تلك تجربة لابد أن يتذكرها كل من يفكر فى ترشيح نفسه للرئاسة، ليأخذ مسألة البرنامج مأخذ الجد، ويتنبه إلى أن مصر - بعد ثورتى يناير ويونيو - قد تغيرت.. صحيح أن الشىء فيها لايزال لزوم الشىء.. إلا أن الكلام فيها أصبح عليه جمرك!