المسودة التي جري تسريبها أخيرا لعدد من بنود الدستور الجديد
, توحي بوجود توافق بين القوي السياسية حول مجموعة من المواد الرئيسية, لكن ردود الفعل عليها والديباجة التي نشرها الأستاذ فاروق جويدة يوم الجمعة الماضي بالأهرام, تؤكد العكس وترسل اشارات مضادة. فالردود جاءت في معظمها سلبية, وجويدة بدا وكأنه يرمي بكرة لهب للتنصل مما سيخرج رسميا عن الجمعية التأسيسية.
خروج المسودة في هذا التوقيت, جاء متزامنا مع جدل حاد بخصوص بعض المواد الخلافية المتعلقة بالحريات والمرأة والقضاء وصلاحيات الرئيس, وهي النقاط التي احتلت حيزا متقدما في ديباجة جويدة, الذي ألمح إلي أن أي انحراف عنها سيعد من قبيل المساس بدستور الثورة. كما توافق نشرها مبكرا مع تصاعد الانقسام بين جماعة الإخوان المسلمين وعدد من القوي السياسية, والتي كان مضمون الدستور الجديد, وفي مقدمته مدنية الدولة أحد أهم تجلياتها. الأمر الذي انحازت إليه الديباجة, التي أراد كاتبها أن يقطع الطريق علي من يريدون الابتعاد عن هذا الثابت, الذي أجمعت عليه قوي وأحزاب. لكن بعض الحوارات والمناقشات التي دارت في كواليس الجمعية التأسيسية مشت في اتجاه مغاير. وهو ما سمعته صراحة من أحد أعضائها, الذي توقع أن تؤدي الخلافات الحالية بشأن الخطوط والثوابت المبدئية إلي نسف أعمال التأسيسية, لأن الهوة لا تزال واسعة بين ممثلي التيار المدني وأشقائهم في التيار الديني. وأكد لي العضو المحترم أن اتساع نطاق التنسيق بين الإخوان والسلفيين أصبح مخيفا للمسيحيين, لأنه يعني خروج مواد الدستور بما يلبي تطلعات كليهما علي حساب مدنية الدولة.
في هذا السياق, يمكن فهم سر الحجر الذي ألقاه جويدة فوق رءوسنا, علي أنه تبرئة ذمة وأشياء أخري. أهمها, إحراج التيار الإسلامي ووضعه أمام مسئولية تاريخية نادرة, علي أمل أن يبادر بادخال تعديلات متوازنة قبل الانتهاء من الصياغة النهائية للدستور, بما يتماشي مع طموحات وأمنيات الجماعة الوطنية التي لا يزال عدد من رموزها يعترض علي أعمال الجمعية, خاصة أن احتمال حلها من المحكمة الإدارية سينطوي علي تكلفة سياسية وزمنية باهظة للجميع, ويعيدنا إلي تراشقات المربع رقم واحد, من حيث إعادة التشكيل والجهة السياسية المخولة للقيام بهذه المهمة ونسبة التمثيل. كما أن خيار نسفها من الداخل, عن طريق الانسحابات أو تعطيل الأعمال بحجج مختلفة, سيزيد من خطورة الاستقطاب, الذي ظهرت مؤشراته بقوة خلال مظاهرات جمعة كشف الحساب والموقف من المحكمة الدستورية في التأسيسية.
الواضح أن مضمون المسودة جري نشره أصلا لجس نبض الرأي العام, قبل مشاركته في مناقشة مشروع الدستور ثم الاستفتاء عليه. في حين يمكن أن تؤدي رسالة جويدة, عضو الجمعية والمكلف بكتابة الديباجة, إلي ضرب عصفورين بحجر واحد. أولا, حض القوي السياسية الفاعلة لتكثيف الضغط علي المتحكمين في دفة الجمعية التأسيسية, من أجل الاستجابة لتغيير مواقفهم من بعض القضايا التي تسير فيها المناقشات بصورة تحيد عن المعني الحرفي لمدنية الدولة والحفاظ علي مكتسباتها في الدستور الجديد. وثانيا, الاستعانة بسلطة رئيس الجمهورية لضبط عناصر التوازن المفقودة في بعض أعمال الجمعية, ودفع الرئيس للإسراع بضم شخصيات وطنية جديدة تخفف من هواجس الجهات الرافضة لـ والمتحفظة علي ما وصلت إليه الجمعية من نتائج, فشلت في طمأنة بعض القوي المدنية. وربما تكون الأجواء الراهنة مناسبة تماما لهذا التدخل, الذي سيؤكد أن الدكتور مرسي سيكون رئيسا لكل المصريين وحكما نزيها بينهم. وسيتمكن من خلاله أيضا من إزالة مخاوف دارت في أذهان البعض بسبب أزمة النائب العام.
المشكلة أن هناك حالة من التربص والتخبط بدأت تتزايد في خطاب الحكومة والمعارضة. ظهرت معالمها في مواقف متعددة. سوف يؤدي استمرارها علي المنوال الذي رأيناه في المظاهرات والمناقشات وحوار الفضائيات إلي تعطيل أي خطوات جادة للاصلاح. وبدلا من أن يكون نشر ديباجة جويدة حافزا للمراجعة والتغيير والتعديل والتوفيق, تتحول إلي صلاة جنازة علي الدستور المقبل