ثلاث دقائق فقط هي المدة التي سأقضيها لعمل توكيل لمرشحي للرئاسة، لم أشغل نفسي بتكرار سؤال أردده كلما أردت توثيق مستند، لماذا لا يوجد شهر عقاري ووحدة تراخيص في القاهرة الجديدة؟! الطريق لمدينة الشروق أكثر توترا، سأذهب للشهر العقاري الموجود بالمعادي، وبذا سيستغرق الطريق ما بين ساعة وساعة ونصف ذهابا وعودة.
اقتربت الساعة من الواحدة ظهرا وأنا أدخل مكتب التوثيق، لم تصدق عيناي تكدس الناس بطول وعرض غرفتين كبيرتين، وصوت شجار صاخب يصدر من العمق، منحت نفسي أملا بأن توكيلات الرئاسة أكيد لها نافذة أو مكتب معين.. سألت.. فأشاروا لي في اتجاه الطوفان البشري الذي يملأ الغرفتين.
تقدمت في تردد.. هل إخوتي على حق بأنه لا داعي لعمل توكيل للمرشح، فحصوله على الخمسة وعشرين ألف توكيل شرط الترشح أمر مضمون؟! هل أعود وأكتفي بالتصويت له يوم الانتخاب؟!
كدت أميل لهذا الرأي، لكن سيدة خرجت وسط الزحام تسب وتتوعد الموظف والمكتب؛ ما دفعني للولوج وسط البشر..الغرفة بها جهازا توثيق أحدهما يقولون إن به عطلا.
تقدمت لأسمع واحدة تشتكي أنها موجودة من الحادية عشرة صباحا، والموظف يرفض تسلم الهويات ويفتعل الشجار ليتوقف عن العمل كل ربع ساعة، مما جعل البعض يتهمه علنا بأنه إخوان ويعمل على عرقلة العمل ليضيق الناس من الانتظار وينصرفوا.
وأخرى تعمل بالجوار تعود كل ساعة على أمل أن تجد مكانا لتنجز توكيلها، غالبية الموجودات من بسطاء النساء.. أخذن يشجعن بعضهن على الانتظار كي لا يتمكن الموظف من هدفه، وجدتني مشدوهة مما أراه.
وقعت عيني على سيدة عجوز أخذ الزمن منها الأسنان ومنحها شعرا أبيض يظهر من تحت غطاء الرأس كانت تحاول امتصاص غضب الموظف، وتردد «إخوان ولا غيره ربنا يولي من يصلح» وتدعو له بالهداية والصلاح، وعندما جاء دورها سألها: من ستوكل؟ فأجابت سيدة في نهاية العقد الثالث: «السيسي طبعا».. فانفعل الموظف من جديد وبدأ محاضرة طويلة.
وعندما أعاد السؤال على العجوز نظرت في عينيه وقالت: «هو احنا لينا غيره.. ربنا يحميه وينصره على كل اللي يكره.. السيسي طبعا» وأشارت لمن تقف بجوارها وأضافت «اللي ردت دي مش غريبة.. دي بنتي.. وأنا جبتها علشان تعمل توكيل للسيسي.. سايبة ولادها الصغيرين في البيت من ساعتين ونص.. بس مصر والسيسي يستاهلوا أكتر.. ما هو إحنا واقفين كله ده علشان مستقبل الصغيرين دول».
طلب منها أن توقع فاعتذرت بأنها لا تقرأ ولا تكتب وأنها ستبصم، وقالت له: سأحضر لك مشروبا باردا لتهدأ قليلا، وبعد دقائق عادت المرأة تحمل المشروب ووضعته أمام الموظف الذي رفض لمسه وزجرها، فتركت البارد على المكتب وقالت «دي حلاوة فوز السيسي وانتصاره وانتصار مصر على كل الإخوان».
تجولت بعيني فإذا بالموظف الآخر وتحت تأثير وإلحاح فتاة في منتصف العشرينيات قرابة نصف ساعة أخذ هويتها وعمل التوكيل، وبعد أن تسلمته أشارت بعينها لرجال ونساء آخرين بأن الجهاز يعمل فاتجهوا صوبه ولم يستطع إلا استئناف العمل.
على بعد غرفتين يمين الموظف تقع غرفة مديرة مكتب التوثيق التي حار الشاكون بينها وبين الموظف، والمديرة تردهم إليه مرة ومرات دون أن تكلف نفسها عناء الحضور لمتابعة الوضع.
ساعتان قضيتهما في انتظار دوري بعد استئناف العمل بالجهازين، ومتابعة جلد وإصرار الناس على المشاركة، ثم رفضهم إعطاء التوكيلات لأي من الموجودين أمام الشهر العقاري خوفا من إتلافها، لتبدأ رحلتهم للبحث عن أقرب مقر لحملة المشير عبدالفتاح السيسي.. ورحلة مصر معهم بشعب نفض السلبية وقرر المشاركة قابلا دفع الثمن.. عظيمة يا مصر.. وعظيمة يا ثورة مصر.