انتهى ما سبق من عرض إلى أن الدولة العميقة حقيقة قائمة مؤثرة لها دور محورى فى صياغة مستقبل مصر، لأنها ببساطة تمتلك أغلب مفاتيح القرار وسبل تنفيذه وكثيراً من مصادر الثروة الاقتصادية المطلوبة لتمويله وهى الآلية التى تستطيع أن تُسرِع وتدعم وتيرة الإصلاح أو أن تجهضها إذا قررت الوقوف ضدها وإعاقتها.
وتئن الدولة العريقة المصرية حالياً من صفتين ذاتى طابع سرطانى متغلغلتين فى جسدها، وهما التدنى الشديد فى الكفاءة التشغيلية «Ineptocracy» والفساد البيّن المؤسسى «Systemic Corruption»، مما يُحَجِّم قدرتها على الفعل والإنجاز، ويضع قرارها تحت سطوة المنافع الشخصية لا المصلحة العامة.
توجد ثلاثة بدائل للتعامل مع هذا الوضع شديد الخطورة وهى المواءمة، أى الاستمرار على الوضع القائم دون تدخل، و المعالجة وهى الإصلاح الجزئى المتدرج، وأخيراً المواجهة، وهى الإصلاح الشامل السريع لرفع الكفاءة، وكسر ظهر الفساد.
ونستطيع أن نحذف فوراً البديل الأول، فاتباع المواءمة أو نظرية النعامة هو اختيار العجزة والفاسدين والمنتفعين الذى يمثل عملياً كناية عن استمرار الدمار والخراب الشامل لمصر، إلا أننا يجب أن نكون حذرين لأن هذا الخيار كان ومازال يمثل الوضع القائم لعقود طويلة، وتدعمه القوى المحافظة والفاسدة التى تهيمن على الدولة العميقة، وتسعى دائماً إلى فرضه، مستغلة عدم جنوح الشعب المصرى بالفطرة إلى هز المراكب بقوة.
ونستطيع أن نجزم أن خيار المواجهة الشاملة هو الخيار الشعبى المفضل، لأن المواطنين فاض بهم الكيل، وضاقوا ذرعاً بقصور حكومتهم وفسادها، إلا أنه خيار- رغم جاذبيته العاطفية- فهو صعب المنال والتنفيذ، لأن فتح جبهات متعددة للمواجهة ضد بؤر مستشرية ومتجذرة على أعلى المستويات قد يؤدى إلى خسارة الحرب الإصلاحية، رغم حسن النوايا ونبل الأهداف. ولا يوجد لهذا الخيار مثال تاريخى أفضل من مذبحة المماليك، فى عام 1811، التى قام بها محمد على باشا ليتخلص من نموذج شديد الفساد منعدم الكفاءة للدولة العميقة فى شكل أمراء المماليك المتنازعين وحاشيتهم، والذى جثم على صدر مصر لأربعة قرون، معتمداً على نظام الأبعاديات الظالم، واستغلال الشعب ونهب ثرواته وعدم الاستثمار فى التعليم أو الصحة أو البنية التحتية أو التطوير الاقتصادى، ولولا هذه المذبحة لما استطاع محمد على باشا، رغم عبقريته وجبروته، أن يحقق نهضة مصر الحديثة فى وجود دولة عميقة تعاديه وتقف بالمرصاد ضد طموحاته التنموية.
إلا أن الزمان تغير وحجم الدولة العميقة استفحل، فصار هذا البديل غير قابل للتنفيذ عملياً، وهى حقيقة مُرة يجب أن نواجهها بعقلانية ونسلك الحلول العملية التى تملك فرصاً أحسن للنجاح وإنجاز الإصلاح المنشود، لذلك أرى أن الحل الأكثر احتمالاً للنجاح هو الإصلاح المتدرج الذى يجب أن يقوم على أهداف مرحلية واضحة فى توقيتات محددة تتمتع بالدعم السياسى الكامل على أعلى مستوى من الرئيس والوزارة والسلطة التشريعية، وأن تتم محاسبة أى مقصر فى تنفيذه بشكل جدى وصارم، كما أرى فى هذا المجال أن نقطة البداية يجب أن تكون كسر ظهر منظومة الفساد، مهما تكلف ذلك من جهد وعناء وتضحيات، لأن مصر لن- وأكرر لن- تقوم لها قائمة طالما استمر الفساد المؤسّسى على معدلاته الحالية، على أن يواكب ذلك مشروع إصلاحى لرفع كفاءة الدولة العميقة يشمل إعادة تحديد تكليفاتها ومسؤوليات أجهزتها وتنظيم شكلها الإدارى وقواعد اختيار وترقية وإنهاء خدمة قادتها والعاملين بها، مع زيادة منافعهم المادية على أساس من الكفاءة والإنجاز لا الأقدمية والمحسوبية.
وللحديث بقية عن إصلاح الفساد فى الدولة العميقة..