الحملة التى تقودها الدولة، هذه الأيام، من أجل إزالة الأبراج المخالفة، فى المنطقة الواقعة خلف المحكمة الدستورية على شاطئ النيل، تثير من الشفقة على مسؤولينا أكثر مما تثير من الإعجاب بالمبدأ الذى ترفعه الحملة، وهو: تطبيق القانون!
لاحظ من فضلك، أولاً، أنهم يتكلمون عن 22 برجاً فى منطقة واحدة، وبالتالى، فإن لك أن تتصور عدد الأبراج المخالفة، وحجمها فى سائر المناطق بامتداد الجمهورية على مدى ألف كيلومتر من الإسكندرية إلى أسوان!
ثم لاحظ، ثانياً، أننا نتكلم هنا عن برج، وليس عن عمارة عادية ولا عن فيلا، أو بيت، أو حتى عشة.. وإنما هو برج يتطاول فى الهواء حتى يكاد يلامس السماء، ومن المؤكد أنه قام فى عام، أو عامين، أو ثلاثة، ولا يمكن عقلاً أن ينشأ برج فى أثناء الليل، أو أن يقوم فى شهر أو شهرين.. ولذلك، فالسؤال هو: أين كان هؤلاء الذين انتفضوا الآن وقت أن كان البرج يعلو طابقاً وراء طابق؟!
ومع ذلك.. فليست هذه هى المشكلة، لأنك حتى عندما قررت أن تطبق القانون، طبقته، بكل أسف، على غير المخطئ، أو بمعنى أدق تركت المتسبب، وتعاملت مع ما عداه!
إن الأجدى بأن تتم إزالته من الدنيا هو الشخص الذى منح رخصة لإقامة البرج، ولا ذنب لصاحب البرج، لأنه عندما ذهب يطلب ترخيصاً، حصل عليه، أياً كانت الطريقة التى حصل عليه بها!
وسوف نفترض أنها أبراج مخالفة، أى أنها بلا ترخيص، لنصل عندئذ إلى نقطة البدء، وهى: أين كان مسؤول الحى، الذى تتبعه هذه المنطقة، طوال الفترة التى قامت فيها هذه الأبراج، بهذا العدد وبهذا الارتفاع؟!
نحن إذن نهرج فى موضع الجد، ونعالج الظاهرة، ولا نعالج أسبابها، تماماً كما يحدث عندما يتم ضبط شخص يقود سيارة رغم أنه غير مؤهل للقيادة، ونكتشف أن معه رخصة، فنعاقبه فى حين أنه، والحال هكذا، ليس هو المسؤول الحقيقى عن أى جريمة يرتكبها بسيارته، وإنما المسؤول الأول والأخير هو الشخص منعدم الضمير الذى قرر أن يمنحه رخصة رغم أنه لا يعرف مبادئ القيادة!
ويجوز جداً أن يكون بيننا كثيرون بلا ضمير، ولكن من غير الجائز أن يكون القانون غير قادر على التمييز بين جسم الجريمة ذاتها، أو أدائها، وبين الذى كان سبباً فيها، منذ لحظة البداية! ولذلك، فإن إزالة الأبراج، بالطريقة التى تتم حالياً، لن تقضى على الظاهرة، ولن توقفها، لأنك تعاملت معها كظاهرة ولم تتعامل مع سببها!
هاتوا رئيس حى واحد، وعاقبوه بما يجب أن نعاقبه به على الملأ، وأمام الناس، وبشكل رادع، وعندها لن تجد مخالفة واحدة، لأن غيره سوف يرتدع، وسوف يخشى أن يلقى مصيره.. هاتوا المتسبب فى المخالفات، سواء كانت أبراجاً أو سيارات مخالفة على الطرق، وعاقبوه بصورة عادلة، ورادعة، ووقتها سوف لا يجرؤ أحد سواه على أن يخالف.
طبقوا القانون كما يجب وعلى مخالفيه حقاً وهاتوهم من رقابهم وأقفيتهم، ولا تطبقوه، كما يحدث فى أبراج النيل، بالمقلوب!