85 فى المئة من المصريين اليوم ولدوا فى الفترة بعد عام 1965، وبالتالى لم يعيشوا عصر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر الذى كانت له شخصية قوية مميزة أخذت بعدها العالمى بعد أن أعلن تأميم قناة السويس فى يوليو 56، واشتهر بمحاربة الاستعمار ومواقفه الوطنية وإيمانه بالقومية العربية ومحاباة الطبقة الفقيرة، وهو ما جعله زعيماً تنظر الأجيال اللاحقة إلى إمكان تكراره، وهو أمر ليس صعباً بل مستحيل.
ذلك أن جمال عبدالناصر لم يبلغ ما وصل إليه بفضل ميزاته الشخصية، وإنما أيضاً بسبب الظروف التى ظهر فيها وأحسن استثمارها، سواء بالنسبة لمصر أو المنطقة العربية أو العالم الذى بدأ ومارس دوره فيه. فرغم ما قيل عن الفساد الذى من أجله قامت ثورة يوليو 52 (كانت أول سطور البيان الذى قدمت به حركة يوليو نفسها للمواطنين صباح 23 يوليو: اجتازت مصر فترة عصيبة فى تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، وتسبب المرتشون فى هزيمتنا فى حرب فلسطين)، إلا أن مصر فى ذلك الوقت لم تكن تعانى عجزا فى الميزانية، وكانت بريطانيا مدينة لمصر نتيجة ما قدمته مصر لجيشها خلال فترة الحرب العالمية الثانية من 39 إلى 45. وكانت مصر رغم الاحتلال الإنجليزى أغنى دولة عربية، مما جعلها تساعد الدول العربية التى بدأت تعرف خدمات التعليم والصحة وتمدها بالمدرسين والأطباء الذين تدفع مصر لهم رواتبهم من ميزانيتها. كان الجنيه الإسترلينى يعادل 97.5 قرش، والدولار 34 قرشا، والسائح المصرى أشهر السياح فى أوروبا.
فى ذلك الوقت كانت القاهرة تعتبر عاصمة قارة أفريقيا. وكانت تتصف بنظافة شوارعها التى تغسل يوميا، وأحيائها السكنية التى تتميز بالهدوء، ومحالها التجارية فى أماكن محددة وملاهيها فى شارع أو شارعين. مدينة لا يخلو شارع فيها من لافتة «للإيجار» تجدها على مئات العمارات، وتتنوع مواصلاتها من الترام إلى التاكسى إلى الأتوبيسات التى كان يتولاها القطاع الخاص، بينما كانت محطة السكة الحديد من أرقى وأنظف السكك الحديدية فى العالم. باختصار كانت مصر سنداً قوياً لمن يحكمها لأنها تعطى ولا تأخذ.
وإقليمياً، كانت دول القارة الأفريقية وقت ظهور عبدالناصر تعانى الاستعمار الذى يستنزف خيرها، وكانت الدول العربية فى ذلك الوقت، قبل ظهور البترول بالكثرة التى أصبح عليها، تعانى قلة الموارد والاحتلال فى الوقت الذى كانت فيه دول الخليج العربى يحكمها الاستعمار البريطانى. وفى محاولة هذه الدول تحقيق استقلالها، وفى مقدمتها الجزائر، لعب عبدالناصر دوراً مؤثراً فى مساعدتها على تحررها واستقلالها من منطلق إيمانه بالقومية العربية.
وعالميا، ففى الوقت الذى ظهر فيه عبدالناصر كانت تتربع على قمة العالم القوتان العظميان اللتان أفرزتهما الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة على رأس المعسكر الغربى الرأسمالى، والاتحاد السوفيتى على رأس المعسكر الشرقى الاشتراكى. وقد سمح الصراع البارد بينهما لتمكن زعامات القوى الوطنية من البروز والتعاون، حيث كانت كل قوة تحاول كسب نفوذها لدى هذه الدول الصغيرة التى كانت معظمها محتلة وتسعى إلى التحرر، مما ساعد على بروز زعامات هذه الدول عالمياً وتكوينها «مجموعة دول عدم الانحياز» إلى الشرق أو الغرب، وإن كان تشجيع الاتحاد السوفيتى لها قد جعلها تميل ناحيته.
ونتيجة الظروف التى جعلت حرب التحرر الوطنى هى قضية كفاح كل دولة محتلة لنيل استقلالها وتحررها، شهد العالم فى وقت واحد بروز عدد كبير من الزعامات الوطنية التى اشتهرت فى الخمسينيات من القرن الماضى. جمال عبدالناصر فى مصر، وجواهر لال نهرو فى الهند، وجوزيب بروز تيتو فى يوغوسلافيا، وماوتسى تونج فى الصين، وأحمد سوكارنو فى إندونيسيا، وكوامى نكروما فى غانا، وأحمد بن بيلا فى الجزائر، وشى جيفارا وفيديل كاسترو فى كوبا.
وإذا كان هذا حال مصر والعرب والعالم وقت ظهور عبدالناصر فأين هذا كله اليوم؟ فمصر لم تعد الأغنى، والدول العربية فاض عليها البترول بثرواته وأصبحت الأغنى، ونفس الشىء بالنسبة للقارة الأفريقية التى تحررت دولها، والعالم أصبحت الولايات المتحدة إلى حد كبير تنفرد بتأثيرها الأكبر فيه، ولم يعد متاحاً مساحة المناورة التى كانت تمتلكها دولة مثل مصر وغيرها على المناورة بين القطبين أثناء وجود الاتحاد السوفيتى الذى سجل شهادة نهايته قبل بدية القرن 21.
ولهذا فالذين يتصورون أن يكون عبدالفتاح السيسى جمال عبدالناصر آخر يحلمون لأن سند «ظروف الزمان» الذى عاشه عبدالناصر ليصبح زعيما لم يعد موجودا اليوم. ولمن لا يصدق، عليه النظر إلى خريطة دول العالم، ويشير إلى زعيم واحد له شهرة وقامة الزعامات قبل 50 سنة. فأسلحة الزمان، وأوضاع الدول تغيرت فى ظل سباق التقدم الذى يجرى، مما جعل العالم لا يبحث عن زعامات، بل عن قيادات من نوع آخر نريد أن يكونها الرئيس عبدالفتاح السيسى عندما ينتخبه الشعب.