مما تردد وشاع على ألسن كثيرين، وخاصة فى الفترة الحالية، توجيه سهام نقد حادة على هاؤلاء الذين يربطون بين الدين والسياسة، وفقا لمقولة كبير منهم بأن الدين شأن " مقدس"، والسياسة شأن " مدنس"، وبالتالى فلا ينبغى أن يختلط المقدس بالمدنس، حتى لا يصيبه رذاذه.ويكرر هؤلاء أيضا أن الدين يقوم على اليقين بينما السياسة تقوم على الاحتمال، فضلا عن أن المخالف يمكن أن يوصف بالكفر والإيمان لا لشئ إلا لاختلاف الرأى .ويكرر هؤلاء ويشددون على أنهم لا يقصدون النيل من الدين وإنما من توظيفه فى السياسة، وكذلك لا يقصدون تجريح المتدينين ، وإنما على هؤلاء الذين يخلطون بين الدين والسياسة. ولست هنا معنيا بمناقشة هذه المقولة، ومدى صحتها أو العكس، لكننى أستند إليها، ما دامت هى أحد مرتكزات الوضع القائم، وذلك للاستناد إلى " المنطق" الذى تقوم عليه فى العلاقة بين العسكر والسياسة، ومن ثم فلنا أن نؤكد بداية أننا لا نقصد أبدا، وبأى حال من الأحوال المساس بالمؤسسة العسكرية، لأنها ملك لكل المصريين، هى فى قلوبهم وفى عقولهم، وأفرادها يحملون أرواحهم على أكفهم إذا لزم الأمر للتضحية فى سبيل الوطن. لكن، عندما تنغمس المؤسسة العسكرية فى الشأن السياسى، فنحن نقول هنا " العسكر"، قاصدين بهذه الكلمة، هذا القطاع من القادة العسكريين الذين ينشغلون بالسياسة، لأن معلوماتنا المتواضعة تعرف أن المؤسسة العسكرية جزء من الجهاز التنفيذذى للدولة، تأتمر بقيادتها العليا، فإذا حدث " تماه " بين المؤسسة العسكرية والسلطة العليا لإدارة البلاد، شعرنا أننا أمام " عسكر"، يجوز الحديث عنهم – بل يجب- مثلما يجب أن نتحدث عن القيادة العليا للبلاد. والاشتغال بالشأن السياسى يفرض على المشتغلين به أن تسرى عليهم القاعدة الشهيرة، أن كل الأمور قابلة للتفاوض، بمعنى قابلة للمناقشة، والأخذ والرد، والموافقة والرفض، والتأييد والمعارضة. وإذا كان من بديهيات السياسة أن لا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وبالتالى فلا أحد معصوم من الخطأ، وأن من حقى كمواطن أن أعترض على تصرف هذا المشتغل بالسياسة أو ذاك، فمن المنطقى أن يمتد هذا الحق بالضرورة إلى العسكر المشتغلين بالسياسة. وكما يقولون أن الذى يعارض حامل لواء الدعوة الدينية، لا ينبغى أن يُطعن بالكفر إذا خالف السلطة المتماهية مع هذه الفئة، فالمنطق نفسه يسرى على العسكر المشتغل بالسياسة إذا عارضه أحد، لا ينبغى أن يسارع البعض باتهامه بالخيانة وتجريده من الوطنية، وتلويث سمعته وتلبيسه ما لا يخطر على باله من اتهامات وجرائم! إننا فى عالم السياسة " نتواجه "- كما هو المفروض – بالكلمة والفكرة والرأى، شعارنا هو تلك المقولة الشهيرة :" رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب"، وهو المنطق الذى يصعب تبنيه بالنسبة للعسكر إزاء الطرف المعادى أو المقابل، حيث يكون النهج: إما أن أقضى عليه، أو يقضى هو علىّ!! ويثور تساؤل مشروع: كيف لى أن أتحاور مع طرف يمسك بزمام دبابة ومصفحة ومجنزرات، ويملك طائرات وغواصات وقنابل بكل أنواعها وبمختلف قوتها وشدتها؟ بل إن هذا الذى أكتبه اليوم يشغلنى منذ شهور، وترددت طويلا فى الكتابة عنه، حتى لا تنهال الاتهامات فوق رأسى،وأنا لا أملك إلا قلمى وفكرى وعقلى، ولا أمسك حتى بعصا أو حجر، فضلا عن الحقيقية العُمرية التى تؤكد أننى قد وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا؟! لولا حتى هذه الآية القرآنية التى كثيرا ما هزت عقلى وفكرى وقلبى، والتى تحمل الإنذار الإلهى لكل من يكتم " الشهادة " بأنه " آثم قلبه "؟ فكيف يكون حالك إذا كنت مهددا بأن يحكم خالقك بأنك آثم القلب؟ ومصداقا لما نراه من ضرورة تجنب العسكر للاشتغال بالشأن السياسى، فلننظر إلى أمرين فقط دلالة أن الأمور تسير فى اتجاه بعينه... فلم أعرف فى أى زمان، ولا أى مكان، قاعدة تجعل من وزير الدفاع أقوى من رئيس وزرائه، بل ومن رئيس الجمهورية، وأن كلا منهما لا يستطيع أن يعينه أو يعزله؟! كذلك أمر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، الذى يكون مفهوما فى بعض الأمور، ولا يكون مفهوما تعميميه، بدرجة أننى لو تشاجرت مع عامل فى محطة بنزين تابعة للقوات المسلحة، أخضع لمحاكمة عسكرية؟ إن كل فئات الوطن لا تتصف بالمصرية الحقيقية إلا بتفانيها فى خدمة الوطن، دون احتكار للوطنية وخدمة الوطن... فإذا كان البعض يستند إلى مهام جسيمة يتحملها العسكريون مما يتطلب تمييزا فى بعض الأمور، فإن أشير إلى فئات أخرى: فالأطباء على سبيل المثال، لا فى زمن حرب قد لا تأتى، وخاصة وقد مرت أربعون سنة دون أن نتهدد بها، يمسكون بحياة آلاف من المصريين يوميا، حيث يكونون مسئولين عن آلاف يترددون على المستشفيات والعيادات يوميا...أفلا ينطبق عليهم المنطق نفسه؟ بل ماذا تقول فيما يقرب من مليونى معلم، هم مسئولون عن بناء ملايين من الأبناء، قطاع كبير منهم يذهب للالتحاق بالكليات والمعاهد العسكرية، ومن ثم فوفقا لمدى سلامة التنشئة الأولى أو العكس لا قدر الله، يكون حاله..ألا يمكن أن ينطبق عليهم الأمر نفسه؟ وماذا تقول عن مئات الألوف من الفلاحين الذين يفلحون لنا الأرض فتخرج لنا الزرع مما نأكل منه ولانستطيع أن نحيا إلا به، كل يوم، على مدى الحياة كلها؟.... وأخطر من كل هؤلاء وهؤلاء: كل أم، بكل ما هى مندوبة إلى القيام به من حملنا فى بطونهن،والسهر علينا وإرضاعنا، إلى الدرجة المعروفة من المكانة السامية، التى جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع بأن الجنة جعلت عند أقدامهن؟!! وهكذا تستطيع أن تقول عن كثيرين...كل فئة تشارك فى تحمل الخطر، وتشارك فى تحمل الأعباء الجسيمة، وينعكس أداء واجبها على مصير الوطن،وحياته ومستقبل... فماذا لو نادى المعلمون بأحقية أن يختاروا هم وزير التربية؟ ونادى أساتذة الجامعات بأحقيتهم فى اختيار وزير التعليم العالى؟...وهمل جرا! لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض صحابته، عندما سألوه عن وقت قيام الساعة، فقال : إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله !!