لم اشعر بالارتياح أبدا للتصريحات التي أعلنها بعض محامي الرئيس المعزول محمد مرسي بعد زيارته الأولى في سجنه بأن مرسي مستعد للتنازل عن الشرعية بشرط محاكمة الفريق السيسي أو عزله ، والحقيقة أني لا أستطيع أن أؤكد دقة ما نقلوه عن مرسي ، لكن سياق الأحداث والتصريحات والغضب الذي يتمدد في مصر خلال الشهور الأخيرة يؤيد هذا التوجه نحو "شخصنة" قضية مصر وأزمتها الآن ، واختزالها في شخص الفريق عبد الفتاح السيسي ، وهذا خطير جدا من أكثر من جانب ، في أولها هو سوء تقدير موقف المؤسسة العسكرية وأجهزتها وطبيعة اتخاذ القرار فيها ، حيث لا يملك شخص واحد بمفرده أيا كان منصبه اتخاذ قرارات مصيرية كعزل رئيس أو تعطيل دستور البلاد أو حل برلمان ، فضلا عن قرارات بمواجهة دموية يمكن أن تسفر عن مقتل آلاف المواطنين ، وبالتالي فتحميل الفريق السيسي مسؤولية كل ما جرى حماقة تؤدي إلى ضياع الحقوق وسهولة التلاعب بالوطن كله ، الجانب الآخر أن قضية مصر أكبر من كل أشخاصها ومن كل أطرافها ، سواء كان الرئيس المعزول مرسي نفسه أو الفريق السيسي ، المشكلة أعقد من الأشخاص ، واختزالها في الأشخاص يعرض الثورة المصرية كلها للضياع ، كما يعرض دماء الشهداء جميعا للهدر ، فالذين خرجوا في الثورة المصرية والذين استشهدوا فيها لم تكن قضيتهم شخص ، وإنما أفكار ومبادئ يحلمون بتحقيقها لبلادهم ويضحون من أجلها ، الحرية والعدالة والديمقراطية والكرامة الإنسانية والتداول السلمي للسلطة والحكم المدني الذي يكون الشعب فيه صاحب القرار والفصل بين السلطات واستقلال القضاء والعدالة الاجتماعية ، هذه هي جوهر مطالب الشعب ، كل الشعب ، وليست مطالبه أن يأتي مرسي أو يذهب السيسي أو مبارك أو أي شخص ، والحقيقة أن اختزال كل هذه التضحيات والجهود الثورية منذ يناير 2011 وحتى الآن في إزاحة شخص هو مخاطرة أو مقامرة يمكن أن تكون ثمراتها كارثية ، لأنه ما أسهل أن تزيل الشخص ، لكن ما أصعب أن تبني الهياكل والمؤسسات وتنتصر المبادئ وتعلو قيم الحق والعدل والكرامة ، وإذا كان هناك من يشعر بالمرارة من الفريق السيسي ، باعتباره رأس المؤسسة العسكرية التي تصدرت مشهد ما بعد 30 يونيو ، فلعلهم لا يدركون أنه ربما كان البديل للسيسي هو أخطر منه عشرات المرات على الحريات العامة والعدالة وحرمة الدماء ، كما أن اختزال كل الخطايا والأخطاء في شخص الفريق السيسي يمكن أن تغري آخرين بإنهاء كل شيء بلعبة واحدة ، تتمثل في إبعاد شخص السيسي بأي وسيلة كانت ، فينتهي كل غضب وتباع كل قضية وتؤسس مرحلة جديدة أسوأ كثيرا مما سبقها ، دون أن تملك أي منطق للاحتجاج أو النضال السياسي بعدها ، لأن مطلبك أو جميع مطالبك تحققت ، بإبعاد السيسي . على العكس ، ربما كان المنطق أن نضحي بثاراتنا مع الأشخاص فداء لتحقيق المبادئ والحقوق السياسية للوطن ، كل الوطن ، فالأشخاص سيرحلون حتما ، اليوم أو غدا أو بعد غد ، وسيكونون ذكرى وتاريخا ، لكن المؤسسات والهياكل والضمانات العملية للحريات العامة واحترام إرادة الشعب ، هي المكاسب الحقيقية التي تبقى وتنعم بها الشعوب في حاضرها ومستقبلها ، لذلك أتمنى أن تكون أي أفكار لمقايضات سياسية متصلة بالمعاني والمباني وليس بالأشخاص ، النضال الثوري يتنزه عن الثأر الشخصي ، النضال الثوري أنبل من أن يهبط لأحقاد شخصية مهما كان محركها عادلا ، علينا أن نستلهم التجربة الثورية الإنسانية الرائعة لمثل الزعيم الفذ "نيلسون مانديلا" وجوهرها هو : يمكن أن نتسامح مع الأشخاص ، يمكن أن نغفر لمن أخطأ أو أجرم في حقنا كأشخاص ، لكن لا يمكن أن نتسامح مع إهدار المبادئ والحرية وحق الشعب في أن يحكم نفسه ويختار حكامه وممثليه ، ولا يمكن أن نغفر خيانة قيم الثورة وأشواقها وأهدافها التي عمل لها وضحى من أجلها الملايين .