* عبدالناصر قام بعملية "تأديب" للأهالى فى الستينات اعتقل خلالها المئات من أبنائها بينهم نساء * الأهالى: بريئون من تهمة "الإرهاب".. والحملة على البلدة للانتقام من الداعمين للرئيس المعزول لم تكن حملة "التأديب" التي تعرضت لها كرداسة، هي الأولى من نوعها في تاريخ تلك البلدة، الواقعة في غرب محافظة الجيزة، حيث سبق لها أن تعرضت قبل نحو نصف قرن خلال ما عرف بـ "الصدام الثاني" بين الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وجماعة الإخوان المسلمين في مصر.. ففي إطار الحملة التي جرت عام 1965، داهمت قوة عسكرية بزي مدني منزل أحد أعضاء الإخوان وعندما لم يجدوه أصروا على اقتياد عروسه التي لم يمض على زواجها سوى أسبوع لإجباره على تسليم نفسه، فاستنجدت بالأهالي الذين ظنوا أن قوات الأمن 'عصابة' أتت تختطف العروس ومنعوهم من اصطحابها وانهالوا عليهم بالضرب.. ولم تمر هذه الواقعة دون عقاب لأهالي البلدة، حيث هاجمت قوات مشتركة من الجيش والداخلية كرداسة في نفس الليلة وحاصرتها، وقامت باعتقال المئات من أبنائها بينهم نساء، وفتح مراكز احتجاز في مدرسة البلدة وأماكن أخرى، وقامت بـ "تعذيب" المعتقلين أمام ذويهم، وبينهم كبار العائلات وعمدة البلدة.. لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لجارتها ناهيا، التي دفعت لسنوات طويلة فاتورة غضب السلطة تجاه الإسلاميين، والتي يعتقد الأهالي فيها أن السلطات تتعمد منعهم من الالتحاق بالكليات العسكرية وكلية الشرطة. ويرجع هذا الاعتقاد إلى الانتماء الإسلامي للعديد من أبنائها، إذ تعود جذور عبود الزمر، القيادي البارز بـ "الجماعة الإسلامية"، وابن عمه طارق الزمر رئيس حزب "البناء والتنمية"، والدكتور عصام العريان نائب رئيس حزب "الحرية والعدالة" إلى هذه القرية التي تشتهر بالزراعة.. وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود كان الكثير من أبنائها هدفًا للاعتقالات والزج بهم في السجون، بسبب أنشطتهم، وقد ظنوا كما غيرهم في ربوع مصر أنهم سينعمون بأجواء الحرية، إلا أنه سرعان ما تبدد حلمهم، مع إطلالة صبيحة يوم الخميس 19 سبتمبر 2013 عندما تعرضت وجارتها كرداسة لحملة موسعة شنتها قوات الجيش والشرطة، للقبض على المتهمين في أحداث الهجوم على مركز شرطة كرداسة في 14 أغسطس، إلا أن الأهالي يعتقدون أن ذلك هو نوع من "التأديب" لهم ردًا على موقفهم من عزل الرئيس محمد مرسي. "مشاجرة" فى حضرة الآمن ! على بعد بضعة أمتار من قسم كرداسة، الذى تحول محيطه إلى ثكنة عسكرية تضم ما يزيد على 20 سيارة أمن مركزى وعناصر من العمليات الخاصة، وتسيطر قواته حتى على أسطح الأبنية المحيطة لكشف المنطقة بأكملها، وقف سائقو السيارات الأجرة (الميكروباص) ليعلنوا عن تحديهم لكل ذلك، غير مبالين به، ولسان حالهم يقول " من النهاردة مفيش حكومة أنا الحكومة" إذ لم تمنع كل تلك القوى هؤلاء السائقون من التشاجر فيما بينهم مستخدمين الأسياخ الحديدية بعد اختلافهم حول "ركن" السيارات، بل وتجدد الاشتباكات عدة مرات بعد محاولات آخرين للفصل بينهم. وبالرغم من ذلك لم تتحرك أى من عناصر الأمن المتواجدة بمحيط المكان بفض الاشتباك أو القيام بالدور المنوط بها القيام به فى مثل تلك الظروف بل وقفوا كمشاهدين مثل غيرهم، ليطرح ذلك التساؤل وعلامات التعجب حول الدور الذى نزلت ن أجله كل تلك القوات وما إذا كانت عملية تأديب واستعادة هيبة أم لتحقيق الأمن واستجابة لاستغاثات الأهالى !!! مجمع طبى كرداسة.. مرشدك الأول والشاهد على الاشتباكات هنا تتوقف سيارة الأجرة على بعد خطوات منه، ليخبرك السائق "آخر الخط يا بهوات"، تهم بالنزول ليقابلك ذلك المبنى الطبى الذى يحمل على جدرانه آثار التخريب والحريق، ليغنيك عن سؤال أى شخص من أبناء القرية عن أحداث العنف التى شهدتها على مدى أسبوع مضى، فيكفى أن ترى تلك الجدران المتهدمة للمجمع الطبى بكرداسة لتعرف إلى أى مدى وصلت تلك الحملات الأمنية من مستوى واسع للعنف والمداهمات. لا تحتاج أن تركز كثيرًا لتلحظ ذلك الانتشار الأمنى الكثيف المتواجد فى محيط المجمع. عشرات من سيارات الشرطة ومدرعات الجيش يحيط بها سيل من قوات الأمن المتمركزة أمام أبوابه لا يسمحون بدخول أى من المواطنين، أو التصوير من الداخل.لا تعرف أكان السبب فى ذلك الاهتمام لكونه ملاصق لمركز شرطة كرداسة "صاحب الواقعة الشهيرة"، أم لأنه اسُتخدم فى العميلة الأمنية من خلال اعتلاء الشرطة لأدواره ورصدها العناصر المطلوبة. مبنى لا تتعدى أدواره على الثلاثة، لا يتبقى منها سوا جدران تحمل آثار حريق، لتؤكد لأى شخص أن ذلك المبنى بات والعدم سواء. لا يمكنك أن تتفحص شكله إلا ووصلك يقين بأنه أول الخسائر التى سقطت على خلفية العملية الأمنية، لا تعرف من الذى حرقه ولماذا ولكن تدرك أنه احد تلك الخسائر التى حسبت على القرية. حركة.. مواطنون .. باعة جائلون .. أمام قسم الشرطة تترك المبنى الطبى لتأخذك قدميك إلى مقر قسم شرطة كرداسة المتهدم، حريق وأطلال تحكى قصة اقتحام القسم وسحل ضباطه. بالمقابل من ذلك القسم تعود الحياة لحالها كما وأن لا شىء وقع منذ بضع أيام. يقبعون على " أكل عيشهم" ينادون عليه ويستجدون الزبائن. لا يعبئون بذلك المشهد المخيف لمبنى القسم، أو بتلك الأعداد الكبيرة من عربات الشرطة ومدرعات الجيش المتركزة أمامه. لا يهتمون هناك إلا ببيع بضاعتهم وإنهاء يوم عملهم مسرعًا. فهذه سيدة أوشكت على إتمام الستين تجلس بالمقابل لقسم الشرطة لبيع بلحها، تقول إنها لا تخاف قوات الأمن ،" لو كانوا هيضرونى ماكنوش سمحولى أقعد من الأول. تتابع كلامها، بأنها بدأت فى النزول للبيع أمام القسم بعد الحملة الأمنية بثلاثة أيام، متابعة: " الأمن ممنعناش نقعد بس حذرنا من الاقتراب من القسم". تتماسك السيدة فى كلامها بالتناقض مع سنها الكبيرة حتى تصل لذكر المجزرة التى شهدها القسم وراح على أثرها 13 ضابطًا، لتقول :" أنا لما جيت وشفت القسم والجثث عيطت من المنظر". على بعد خطوات من بائعة البلح يقف أحمد محمد، صاحب عربة فول، منتظرًا زبون بين الحين والأخر، يتحدث عم محمد على استحياء ليؤكد أنه لا يشعر بتضرر من الكثافة الأمنية المتواجدة قرب القسم، متابعا:" هم بيحموا المبنى وملهمش دعوة بالناس".يسترسل فى حديثه لتلحظ فيه شىء من الخوف للإفصاح عن تفاصيل الأحداث، يكتفى فقط بقول إن الأمن لم يحاول مضايقته وأنه لم ير الأحداث التى شهدتها القرية. عم محمد واحد ضمن كثيرين من المواطنين فى كرداسة يخشون نقل ما وقع بالفعل حتى لو كان واقع على مرأى ومسمع منهم. البحث عن "رشيدة" بكرداسة" كـ"القاعدة" فى أفغانستان !! كرر اسمها الكثير من أهالى كرداسة فى محيط القسم المحترق، حتى على لسان "الأطفال" الذين لجأت إليهم "المصريون" خلال رصدها للوضع فى كرداسة، جميعهم اتفقوا على أنها "الأخطر" والمتهم الرئيسى فى حرق قسم الشرطة والاستيلاء على أسلحته. واتجهنا إلى الطريق الذى يؤدى إلى ذلك اللغز إلا أننا كلما اقتربنا منه أكثر زادت درجة غموضه. "أين عائلة رشيدة" سؤال طرحناه على كثيرين ممن التقينا بهم فى طريقنا سواء من مترجلين أو بائعين فى محال تجارية أو عمال فى ورش، فتلقينا إجابة واحدة بأعذار مختلفة، جميعهم تسيطر على أعينهم نظرة الخوف والارتباك قائلين "منعرفش"، ليعلل أحدهم "أصل أنا مش من هنا" وآخر " اسألوا حد غيري" وثالث " أنا لسه جديد فى المنطقة"، إلا أن بائعة فى الخمسينيات من عمرها زادتنا " تلك العائلة بنسمع عنها أنهم بلطجية بس منعرفش بيتهم فين". وعند مدخل أحد الشوارع الضيقة، والذى دلتنا بعض الشواهد على أنه قد يكون المقصود، كررنا نفس السؤال على شاب فى الثلاثين من عمره، لتتغير ملامح وجهه ولكن بالغضب تلك المرة، قائلاً فى لهجة حادة " وأنتم مالكم بعيلة رشيد ؟؟" وبعد توضيح ماهيتنا الصحفية وما سمعناه عن تلك العائلة، أضاف "هو محمد رشيدة ربنا يسامحه بس اللى مسوأ سمعة العيلة لكن الباقى كلهم محترمين وملهمش دعوة بحاجة"، وتابع " أنا أحد أفراد تلك العائلة والتى داهمت قوات الآمن منازلها عدة مرات بحثاً عن محمد وبعض الشخصيات الجهادية التى تنتمى للعائلة"، مشيراً إلى أنهم لم ينجحوا حتى الآن فى القبض على أى منهم حيث إنهم هربوا قبل هجوم قوات الأمن على كرداسة. وأكدت مُعلمة، رفضت ذكر أسمها، لـ"المصريون" وهى إحدى ساكنى محيط منزل عائلة رشيدة أن تلك العائلة استولت على أسلحة القسم بعد حرقه وأنها رأتهم بنفسها يخبئون الأسلحة داخل جلباب أبيض وأبلغت قوات الأمن بذلك، بل وأنها رأت محمد رشيدة خلال حرق القسم، مشيرة إلى أنهم فى البداية كانوا يعملون لصالح الداخلية إلا أنهم انقلبوا عليها وشاركوا فى حرق القسم والحصول على الأسلحة به. بعد بحث استمر لأكثر من نصف الساعة وصلنا إلى منزل عائلة "رشيد" والذى لم يختلف فى مظهره عن المنازل المحيطة ولا توجد أى إشارات توحى بأن ساكنيه هم من يسبب حالة الذعر للأهالى والإرهاق للداخلية، حتى أن الأهالى أمام المنزل رفضوا التأكيد على أنه منزل عائلة رشيدة إلا عبر إشارات بالأعين التى تملكت عليها مشاعر الخوف والذعر، وقد تكون من طابقين فقط ويحتوى على أربع شقق وباب حديدى أخضر منغلق على أسرار فى داخله. "سامية شنن".. بائعة الخضار التى اتهموها بسحل جثث الضباط تردد أسمها كثيرًا فى الأيام الأخيرة، باتت أحد رموز الإجرام التى يحملها الإعلام مسئولية سحل وقتل ضباط الشرطة فى قسم كرداسة. هى سامية شنن التى يروج لها النظام كما وأنها المدبرة الرئيسية لحادث اقتحام القسم. قابل فريق "المصريون" أخت سامية التى رفضت التصوير أو حتى الإعلان عن أسمها خوفًا من الأمن. بدأت تلك السيدة كلامها أثناء المقابلة التى أجريت فى منزلها الريفى البسيط، بجملة حاسمة "أختى بريئة ملهاش دعوة بحاجة"، أخذت ترددها ثلاث مرات وفى كل مرة كانت تشعر فى صوتها بنبرة أسى وقلق مما ينشره الإعلام عن أختها من تعرضها لتعذيب ومن رفضها للاعتراف، متسائلة " تعترف بأيه هى عملت حاجة؟؟!!" تتابع أختها بأن سامية- 51 سنة- لديها ثلاثة أولاد هما طارق المقبوض عليه معها وحسن ومحمد، وتعمل بائعة للخضار فى ناهيا، مشيرة إلى أن سبب القبض على سامية هو أنها شاركت فى مسيرة نسائية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين و كانت تشجع السيدات على الهتاف. "هى مكنتش تعرف أن فى ولاد حرام هيبلغوا عنها"، جملة قالتها فى إشارة إلى تلك العناصر المخابرتية التى تنتشر فى المدينة من الأهالى وتتعاون مع الأمن فى الوشاية بها للقبض عليها.، وحكت عن الليلة التى وقعت فيها أحداث قسم كرداسة ويقال إنها تورطت فيها " سامية كانت موجودة قريب من القسم بالصدفة ساعة اقتحامه وصوروها على أنها سحلت اللواء". وفى حزب عميق بدأت تحكى لنا عن بيت سامية الذى تركه أهله خشية لتتبع الأمن، وعن والديها اللذان لا يهدأن خوفا على بنتهم التى تتحدث صورها عن تعذيب تعرضت له. وشددت أخت سامية بأنهم مستمرون حتى إخراج سامية ومحاسبة أى طرف شارك فى إهانتها بالتعذيب "وليد سعد" التهمة: لجان شعبية.. والعقاب: إبادة منزل وتشريد أطفال فى الوقت الذى اختلف فيه أهالى كرداسة على كل شىء تقريباً بين (السيسى و مرسي) ( الآمن صح وخطأ) إلا أنهم باختلاف توجهاتهم السياسية اتفقوا عليه، لترتسم على وجوهم جميعاً نظرة "أسى" لما أصابه مصاحبها كلمات " ده غلبان معملش حاجة.. مش إخوان.. ده كان لجان شعبية و بيجيب الأنابيب للناس فى الأزمات بـ8 جنيهات بدل 20 ". إنه وليد سعد محمد, شاب فى الأربعة والثلاثين من عمره، بدأت مأساته، التى لم تنته بعد، عندما وجد نفسه ضمن المطلوبين للقبض عليهم فى حادث حرق قسم كرداسة، ليفر هاربًا من منزله، تاركا خلفه ثلاثة أطفال أكبرهم بسملة 11 عامًا وبراءة 9سنوات وسعد عامين وزوجة لجأت إلى بيت والديها خوفا من عملية مداهمة الأمن. وترك المنزل فى حماية والده الذى يقطن معه فى الدور الأول من المنزل ذاته. وفى صباح يوم مداهمة الجيش والشرطة لكرداسة توجهت قوة إلى منزل وليد للقبض عليه، وعندما لم تجده قبضت على والده، وألقت قنبلة على المنزل لتخلفه رماد، وروى أقارب "وليد" ما حدث لـ"المصريون" قائلين: لقد ألقت قوات الأمن قنبلة من مادة سريعة الاشتعال لا تطفئ بالماء، حيث ظللنا فى عملية الإطفاء ما يزيد على الساعتين، وخلالها عادت قوات الآمن لمنع الناس من الإطفاء. داخل المنزل المحترق، والذى اصطحبنا إليه أهالى وليد"، وجدنا منزل احترق عن كامله، تهشمت حوائطه حتى يخيل إليك أنها ستقع على رأسك فى أى لحظة، وسقف حل السواد محل دهانه، وأرض لم يتضح ما إذا كانت "سيراميك" أو " بلاط" فقد أخفى ملامحها تمامًا الرماد الناتج عن الحريق، والزجاج المتهشم على الأرض، وبقايا ملابس محترقة ولعبة طفل، وأجهزة تليفزيونية لم يتبق منها إلا هيكل أشبه بهيكل سيارة ملاكى دهست تحت عجلات سيارة نقل، وثلاجة لم يختلف وضعها عن باقى الأجهزة. بدأت إحدى السيدات تشرح معالم الشقة لتقول "هنا كانت غرفة النوم" وهنا الأطفال، وهنا المطبخ، لتتذكر عندها الشقة قبل تلك الإبادة فتغالب فى عينيها البكاء وتقول بصوت حزين " أنتم مشفتوش الشقة دى كانت عاملة ازاى قبل ما تتحرق؟؟؟" وهنا لم يستطع أن يغالب الشيخ ذو السبعين عاما ورفض الإفصاح عن صلة قرابته بوليد عينيه وأجهش بالبكاء قائلا " حسبى الله ونعم الوكيل". إسلام الذندحى .. ضحية رابعة الذى اقتحموا بيته واعتقلوا والده هناك على أحد مداخل القرية تجد بيت محطم بوابته وزجاج نوافذه، يكفيك أن تقف لحظات أمامه حتى تصلك من المارة كلمات تتحدث عن إسلام وعن اعتقال والده واختفاء أسرته من القرية منذ بدء العملية الأمنية. الجميع يعرف ذلك الشاب الثلاثينى الذى سقط فى أحداث فض اعتصام رابعة العدوية. هو إسلام أشرف الذندحى الذى دخل إلى قريته منذ شهرين فقط محملا إلى تربته، ليأتى بعد وفاته الأمن لمداهمة منزله واعتقال والده، لا تعرف سببا للاعتقال إلا أن ذلك الوالد كان لشاب ينتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين ولو فكريًا. يشهد جميع أهل القرية لإسلام بحسن السير متسائلين عن الذنب الذى ارتكبته أسرته لتضطر لترك بيتها دون ابنها ووالده. عندما تضطر إلى تسليم ابن عمك لإطلاق سراح أخيك! "آلو يا بابا أنت جي امتى" كلمات تكررها في اليوم ما يزيد عن 100 مرة، ممسكة بهاتفها الجوال" اللعبة" على أمل أن يوصلها بوالدها الذي لم تره منذ يوم الجمعة الذي أعقب عملية داهمة كرداسة، وبالرغم من أن العامين والنصف اللذين تبلغهما "فرحة" أقل بكثير من أن تدرك ما حل بأبيها إلا أنها لا تفطر عن ترديد تلك الكلمات التي لا تكاد تفهم من حروفها غير المكتملة بعد. وبجوارها أخوها أنس ذو الأربع سنوات يرفض الحديث مطلقًا فقط تتحدث ملامح وجهة بالألم والحزن الذي يعانيه رغم صغر سنه. والشقيق الثالث الذي لا يزال جزءًا من أمه الحامل في الشهر السادس ربما لم يختلف وضعه عن شقيقيه فكم الحزن الذي سيطر على الزوجة بالتأكيد وصل إليه ولو جزء. منزل ريفي بسيط كل مكوناته حصير ومساند وجهاز تليفزيون و"طبلية" لتناول الطعام الذي كان عبارة عن خبز وجبن أثناء توجهنا إلى منزل "مجدي" بناهيا أحد المعتقلين على خلفية اقتحام الأمن لكرداسة وناهيا. بدا والد مجدي وأشقاؤه في رواية ما حدث لـ"المصريون"، رافضين أن يتم تصويرهم خوفًا من بطش الأمن، قائلين إن أحد أقاربهم ويدعى وليد والذي يعد بالنسبة لهم في منزلة والد العم، حيث أن والد مجدي ووالد وليد أبناء العم، ضمن المطلوب القبض عليهم في أحداث قسم كرداسة إلا أنه هرب من منزله قبل المداهمة، وعندها ألقت قوات الأمن على طه، شقيق مجدي، وقالت أحضروا مجدي نترك طه، وبعدها بساعات ألقت القبض على مجدي من أمام المسجد عقب صلاة الجمعة، فتركت طه وطلبت منا تسليم وليد لكي تترك مجدي. وأضاف شقيق مجدي، شاب في العشرينات من عمره، بصوت انخفضت حدته ونظرة انكسرت إلى الأرض، وهنا اضطررنا نسلم ابن عمنا بأيدينا"، موضحًا أنهم بحثوا عنه ووجدوه وقصوا له ما حدث لمجدي فقبل وليد تسليم نفسه حتى لا يتسبب في ظلم ابن عمه. تابع: "وبعدما سلم وليد نفسه طلبنا الإفراج عن مجدي فقال لنا الضابط العربية اللي كان فيها لسه ماشية اجروا وراها"، واستطرد وبالفعل حاولنا اللحاق بها دون جدوى ومن وقتها لم نعلم أي شيء عنه ولا حتى مكان احتجازه، وكلما ذهبنا إلى قسم أو مركز ينكر الأمن وجوده عندهم. وعند مغادرتنا المنزل باهتتنا زوجته بتساؤل "طب انتم متعرفوش أي حاجة عن اللي بيخدوهم ولا هيفرجوا عنهم امتى؟؟؟. احذر غضب المرشد أن تختلف مع جيرانك حول شيء ما أمر طبيعي ويحدث حتى في أرقى المناطق السكنية، إلا أن خلافًا من ذلك النوع بكرداسة قد يكلفك أكثر مما تتخيل، قد تذهب معه أجمل سنوات عمرك خلف أسوار السجن، أو يحرق بيتك أو على أقل تقدير تسرق بعض محتوياته, وكل ذلك نتيجة وشاية أحد أهالي كرداسة من "مرشدي" الأمن التي أكدت مصادر أمنية من المشاركة في العملية والأهالي على كثرتهم. فقد روى الأهالي لـ"المصريون" أن قوات الآمن تداهم بصورة مستمرة المنازل، مشيرين إلى أنهم لا يداهمونها بعشوائية بل يكونون قاصدين منازل بعينها بناء على معلومات ينقلها إليهم المرشدون التابعون للأمن من أهالي المنطقة والذين تقدر أعدادهم بالمئات، وأضافوا "فنحن نعاني من الخوف المستمر من أن تتم مداهمة منازلنا في أي لحظة سواء بناءً على وشاية ظالمة أو عن طريق الخطأ". وأضافوا "لقد تم مداهمة أحد المنازل بكرداسة عن طريق الخطأ وبالرغم من أن قوات الأمن تأكدت من أن المنزل الذي دخلته ليس منزل من جاءت للقبض عليه إلا أنها لم تخرج منه إلا بعد تكسير محتوياته وسرقة مبالغ مالية به". وقال أحد أفراد الأمن من محيط قسم كرداسة لـ"المصريون" إنهم يقومون بعمليات مداهمات مستمرة في إطار بحثهم عن السلاح وأنهم يحصلون على المعلومات من بعض أهالي المدينة، ولكنه أشار إلى أن معظم من يتوجهون للقبض عليه لا يجدونه. أطفال كرداسة.. الشارع مأوى بعد تأجيل الدراسة دقائق تسيرها في شوارع كرداسة لتجد الوجود الملحوظ للأطفال، فهنا صخب وهنا ألعاب وشجار، أطفال يأخذون من الشارع مكانًا لقضاء وقتهم بعد قرار وزارة التعليم بتأجيل الدراسة في القرية على خلفية الأوضاع الأمنية. ما إن يستشعرون أنك غريب عن القرية فيتجمعون حولك مهللين أو محاولين إيذاءك،عندما تسألهم عن الدراسة يتصايحون بأنهم لم يذهبوا للدراسة بعد وقد لا يذهبون لها إلا بعد أن يرحل الجيش عن القرية. عند الحديث مع الأهالي عن قرار تأجيل الدراسة اتفقوا على شيء واحد بأنهم لن يذهبوا بأولادهم إلى المدارس إلا بعد أن ينسحب الأمن تمامًا من القرية، مشيرًا إلى أنهم يخشون طوال وجود الأمن أن تتجدد المواجهات أو تحدث أي أعمال شغب بالقرب من المدارس. الأوضاع الأمنية للقرية طغت أيضًا على حديث الأطفال فمنهم من تسمعه يردد "يسقط يسقط حكم العسكر"، وآخر يتحدث عن دبابة كانت تمر من هنا، وثالث يردد كلام سمعه بأن الأمن يقتحم البيوت ويخربها.. أحاديث لا تناسب أعمارهم ولكنهم يكررون ما يتلى عليهم من الكبار. كرداسة وناهيا.. تتبادلان الاتهام بالإرهاب يكفيك فقط ساعة زمن تتجول خلالها في كرداسة لتسمع من أهلها الروايات المختلفة حول العمليات الأمنية التي تقوم بها الشرطة، تتحرك في القرية فتسأل وتسمع روايات تختلف في أجزاء وتتفق في أجزاء أخرى، على بعد ربع ساعة من هذه القرية تقرر أن تنتقل إلى قرية مجاورة "ناهيا" التي تنفذ فيها العمليات الأمنية هي الأخرى، ولكنك هنا تفاجأ بانقلاب الروايات واختلاف الحقائق. فهذه ناهيا التي ينفي أبناؤها تهم الإرهاب عنهم ويلصقون مسئولية اقتحام القسم إلى كرداسة، فيما هناك في كرداسة يقول الأهالي إن من قاموا بعمليات الاقتحام أفراد معروفون بداخل ناهيا. بين القريتين تتبادل الروايات وتختلف الحقائق لا يجمعهما سواء أنهما يحولون إنكار التهم عنهما، ونفي الصورة التي يرسخها الإعلام بأنهما معقل للإرهاب. "شفت دبابة".. كلمة السر للقبض على المطلوبين أمنيًا ما إن تسير في شوارع ناهيا لتلحظ من وقت لآخر تحرك دبابات الجيش، وفور أن تلحظ هذه التحركات تجد المارة يتبادلون الكلام عن أن هذه إشارة إلى أن الجنود في طريقهم لتنفيذ عملية مداهمة لبيت جديد للقبض على أحد أعضائه. مشهد الدبابات في الشارع بات طبيعيًا واعتياديًا للأهالي، ولكن المختلف عندما تقرر الدبابة التحرك، وهنا يبدأ الأهالي ترقب حركتها فإما أنها تسير باتجاه داخل القرية وهذا يعني أنها في مهمة للقبض على أحد الأهالي أو تسير باتجاه أطراف القرية ليدركوا أنها في طريقها إلى الانسحاب من مواقعها لتعود إليها مجددًا في اليوم التالي. رسالة متحركة "يسقط حكم العسكر" لم يكتفوا بجدران المدينة التي لا تكاد تمر على أحدهم إلا وتجدها قد اكتست بعبارات رفض الحكم العسكري والهجوم على الداخلية ورفض التعامل الأمني والتأكيد أن الدكتور محمد مرسي رئيسهم الشرعي الذي يعترفون به، وإشارات رابعة، فقرر أحد أهالي كرداسة أن ينقل رسالتهم إلى خارجها فاستخدم قلمًا أسود وترك رسالة بخط يده على أحد كراسي الميكروباص الذي يتوجه من كرداسة إلى الجيزة والعكس عبارة عن ثلاث كلمات فقط "يسقط حكم العسكر". الانقسام يخيم على سماء القرية إن أردت أن تستطلع آراء أهالي القرية باعتبار أنهم الشهود على الأحداث الواقع هناك منذ أسبوع لتخرج بالحقيقة، فهذا أمر ليس باليسير وقد يكون غير ممكن، فعليك أن تسأل أحد الأهالي سؤالًا لتكرر نفس السؤال على آخر ليجيبك بإجابة ووقائع تختلف تمامًا وقد تتناقض مع إجابة الأول. يمكنك أن تخرج من كرداسة بأن الانقسام بات هو السمة المتفق عليها داخل القرية. فبين ما إذا كان اقتحام الأمن للقرية بسبب الوجود الإخواني القوي بها أو بأن الإخوان لا يمثلون قوة بين الأهالي انقسم الأهالي، فمنهم من يؤكد بأن الإخوان مسيطرون على القرية بنسبة 80% وفقًا لما قالته لنا إحدى المدرسات في القرية، ومنهم من يرون أن القرية ليس لها علاقة بالسياسة وليس لها طابع سياسي من الأساس. كما أن الانقسام امتد إلى الجهة المتحملة لمسئولية حالة الرعب التي تمر بها القرية، فبين أشخاص يؤكدون لك بأن الامن جاء ليرحم القرية من تهديدات كان الإخوان يمارسونها عليهم، وبين آخرين يؤكدون أن الأمن هو من يروع الأهالي ويصر على اقتحام المنازل وحرقها واعتقال المواطنين، فيما امتد الاختلاف إلى مدى نجاح تلك العمليات الأمنية أو فشلها، وأشار بعض الأهالي إلى أن العملية الأمنية نجحت بأن تقضي على إخوان القرية وتقبض على العناصر المطلوبة أو على الأقل إجبارهم على ترك منازلهم، في حين أن آخرين اعتبروا أن هروب العناصر المطلوبة من القرية في حد ذاته فشل للعميلة الأمنية. وقال الأهالي إن الأمن مستمر في وجوده في كرداسة من باب استعراض في حين أن المطلوبين لم يتم العصور على نصفهم حتى الآن. ورغم اختلاف وجهات النظر حتى بين أهالي القرية واختلاف روايتهم فإن الشيء الوحيد الذي خرجنا به من تلك القرية أن كرداسة لم تعد مستقرة كما كانت، علاوة على حالة الذعر التي يمر بها الأهالي واضطرتهم إلى عدم الإفصاح عن الحقائق كاملًا، وسواء كان هذا الذعر من الأفراد المطلوبين أمنيًا أو من قوات الأمن إلا أن هذا الجو المضطرب يؤكد أن كرداسة ليست بخير.