في حفل تسليم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر السلطة للرئيس محمد مرسي, استوقفني العرض الذي قدمته القوات المسلحة لما قامت به -خاصة بعد تنحي مبارك- لحماية مصر ومؤسساتها وأهلها. وللحقيقة أقول إنني واحدة من كثيرين كنا قد نسينا تلك التفاصيل في غمرة انشغالنا بما هو أهم, وهو مآل الثورة.
فقد كنا بصراحة مهتمين بألا يستولي العسكر على الحكم مباشرة عبر المجلس العسكري, أو بطريقة غير مباشرة حين وجدنا العسكري المتقاعد ورجل النظام السابق أحمد شفيق يخوض الانتخابات، موظفا نفوذا وأموالا غير مشروعة أورثها إياه النظام المخلوع.. وزادت مخاوفنا على ثورة مصر حين أمكن لشفيق أن يخوض الجولة الثانية في منافسة مع مرشح الإخوان. وفي ظل ثبوت محاولة الإخوان الوصول إلى الحكم بأي ثمن, وكونهم في هذا المسار طرحوا وعودا وعهودا كثيرة لم يلبثوا أن نقضوها, وغازلوا الكثيرين بمن فيهم العسكر, تضاعفت مخاوف سابقة من أن حكم الإخوان لن يكون أفضل من حكم العسكر.
"
مهما بلغت أخطاء وخطايا الإخوان, فإنهم لن يزيدوا على كونهم حزبا واحدا يخوض لأول مرة امتحاناته العملية في دول الربيع العربي, وبمجمله لا يبدو أنه يحصل على علامات جيدة
"
ولكن الإخوان يظلون حزبا واحدا تمترس خلف فساد أنظمة قمعية عدة بالتحالف معها أو بأداء دور الضحية الأولى، وبالتالي البديل الأوحد لتلك الأنظمة حال سقوطها. ومهما بلغت أخطاء وخطايا الإخوان, فإنهم لن يزيدوا على كونهم حزبا واحدا يخوض لأول مرة امتحاناته العملية في دول الربيع العربي, وبمجمله لا يبدو أنه يحصل على علامات جيدة لأن مملكة السماء لم ولن تتجسد على الأرض.. والناس -وتحديدا في عصر المعرفة هذا- باتوا حتما "أدرى بشؤون دنياهم".
ولكن المؤسف أن ما يقال عن حزب واحد لا يضير انتهاؤه أي بلد بشيء, بات يقال أكثر منه عن المؤسسة العسكرية. وبدل تذكر دور تلك المؤسسة في حماية الوطن ومؤسساته, نقلق من سقوط السلطة بيده ونستعد لتسليمها لأي كان دونه, كي لا تتكرر تجارب عربية عديدة مريرة.
ففي مصر تحديدا يأتي حكم مبارك امتدادا أسوأ لحكم السادات, وكلاهما أساء للمؤسسة العسكرية حين سلم البلاد ومقدراتها وحتى انتصاراتها لأعدائها التاريخيين, وتولى العباد بالقهر الذي عمق الكراهية العامة في العالم العربي لحكم العسكر. وبدا كأن عبد الناصر هو الاستثناء وليس القاعدة, وهو للأسف ما يقال عن كل سياسي وطني وكل صاحب يد نظيفة في عالمنا العربي.. كلهم باتوا استثناءات, بحيث نسينا القاعدة.
ولتوظيف هؤلاء الفاسدين القمعيين للقوة العسكرية, بل والتفنن في اشتقاق أشكال عسكرية تتخصص في قمع الشعوب, نسينا أن وظيفة القوات المسلحة هي حماية الأوطان ومؤسساتها وأبنائها, وأنه في العالم المتحضر ينزل الجيش إلى الشارع في الكوارث الطبيعية حين لا تعود قوى الأمن الأخرى تكفي.. ولكن نزول الجيوش إلى الشارع عندنا, يكون في الأغلب بداية الكارثة.
لم يسجل التاريخ العربي الحديث حكما عسكريا قام وظل مشرفا وشبه مجمع عليه بما يوازي الحكم المنتخب, سوى حكم عبد الناصر. فلو أتيح إجراء انتخابات رئاسية حينها, في مصر وفي العالم العربي بكامله, لفاز عبد الناصر كزعيم للعرب.. وهو ذات تصنيف العالم الغربي له المبني على دراسات إستراتيجية وعلى مصادر استخباراتية. وخطيئة عبد الناصر الوحيدة أنه لم يجر تلك الانتخابات, ولو فعل لما كان الجيش المصري موضع شك وتخوف شعبي الآن، بحيث نام مصريون تحت عجلات دباباته لمنع تحركها بداية الثورة, في انقلاب عسكري.
فهنالك فارق بين حالتي الثورة والانقلاب, سنتوقف عنده لأن جزءا كبيرا من حديثنا هنا هو عن تاريخ ما زال يعمل كمكون للمشهد الحالي وليس فقط كخلفية له. الفارق يتمثل في أمرين هامين: توفر الجذور "الشعبية" للثورة, بمعنى تجذر تطلعات الشعب إلى الحرية في فترة بعينها بما يؤهل للتغيير, و/أو الجذور "التاريخية", بمعنى حتمية تغيير تاريخي على نطاق أوسع كثيرا من أي شعب بذاته.
والثانية يمكن استقراؤها حتى قبل استشعار الشعوب لها. وما قيل عن مفكري الثورات وفلاسفتها ليس كله عن دور قام به هؤلاء لترسيخ الوعي بضرورات التغيير, بل إن الجزء الأكبر منه هو استقراء لما تجذر منها في الوعي الجمعي, وبالتالي لما هو آت حتما. ويدعم هذا القول حقيقة أنه في عصور الثورات الكبرى السابقة في التاريخ, كان جل الناس أميين جهالا لا صلة لهم بما يقوله المفكرون والفلاسفة. ولكن في وجدان كل المضطهدين، كان ينمو ويتجذر إيمان بضرورة التغيير حينها وعلى هذه الأرض وفيما تبقى من العمر, وليس انتظار عدالة مؤجلة إلى الآخرة.
وتتعمق هذه الجذور بخاصة, حين يصبح "الكهنوت" أدوات للحكم أو مزاحمين على السلطة, يراوحون بين الدعوة إلى طاعة الحكام, والعمل على الحلول محلهم إن أمكن.. وهو تحديدا حال العالم العربي اليوم، حيث لكل سلطان مفتوه الذين يسبقون طلائع جيشه.
الجذور الشعبية كانت متوفرة عام 1952 لما سمي بـ"حركة الضباط الأحرار", مما أدى إلى نجاحها بدرجة فاجأت قوى كانت تعتبر نفسها موجودة بفعل الديمقراطية (كحزب الوفد مثلا), إذ لم تتنبه تلك القوى إلى كونها غدت نخبوية وتوفيقية أكثر منها توافقية, وبالتالي مغتربة عن عامة شعبها ولا تقع إلا ضمن الخيارات الأقل سوءا.
"
تجربتا مصر والسودان تختصران أبرز مكونات حكاية الحكم والثورات والانقلابات في العالم العربي، وصولا إلى لحظة تغيّر تاريخية جذرية أدخلتنا عصرا يمكن تسميته عصر الربيع العربي
"
وسبق أن قلنا إن سقوط الملكية في مصر تحتم "ليلة قصر عابدين", ولكنه تأخر إلى حين تقدمت أول مجموعة لهز الشجرة فوقعت تفاحة نيوتن الساقطة لا محالة في يد الضباط الأحرار قبل أن تقع في في أيدٍ خاطئة, أو تتناثر في فوضى كما جرى ويجري في أكثر من قطر عربي مؤخرا. وحزب الوفد الذي سارع رئيسه إلى العودة إلى مصر واتصل بالضباط الأحرار, لم يكن وريثا ممكنا، "فالوفد" أصبح جزءا من ذلك السقوط في تلك الليلة حين أذعن -مثل الملك- لإرادة خارجية كانت تعيد موضعة أدواتها في مصر لا أكثر. وهو شبيه لما يجري الآن من تدخلات خارجية لصالح قوى بعينها يراد لها أن تلتقط تفاحات الربيع العربي قبل ظهور ناصر جديد.
ومع أن الضباط الأحرار أسموا ما قاموا به "حركة" تحاشيا لكلمة "انقلاب" التي أرادوا نفي تراثها عن أنفسهم, فإن تلاحم الشعب معهم ألزم بأن يسمى ذلك الحدث "ثورة يوليو". فالثورة حالة يصنعها الشعب, بينما "الانقلاب" لا يشكل ثورة حتى لو خلصت نوايا القائمين عليه بصورة مثالية في زهدها (كما في الانقلاب الذي قاده سوار الذهب في السودان) إن كانت مقومات الثورة لم تكتمل بتجذرها شعبيا.
ولهذا أمكن لثورة عبد الناصر أن تنجح في مصر, بينما أمكن لانقلاب ثان أن ينهي فترة حكم الصادق المهدي الذي قام بالانتخاب, ولكن الجذور الشعبية لذلك الانتخاب كانت ما تزال بعيدة عن "الديمقراطية"، فتلك الجذور كانت منغمسة في "إرث" يمزج النفوذ العشائري بنفوذ "غيبي" لعائلة المهدي.
ورغم الفارق النوعي بين حكم الصادق المهدي وما سبقه وما تلاه من حكام عسكريين للسودان, أمكن أن تحل قوى تتسلح بذات النفوذ "الثيوقراطي" المطوّر هذه المرة, في مواقع السلطة بانقلاب آخر على الصادق المهدي, وما لبث الحكم أن تحول ثانية بانقلابات بينية بين الثيوقراط الحاكم, إلى حكم فرد.
تجربتا مصر والسودان تختصران فيما بينهما أبرز مكونات حكاية الحكم والثورات والانقلابات في العالم العربي، وصولا إلى لحظة تغيّر تاريخية جذرية أدخلتنا عصرا يمكن تسميته "عصر الربيع العربي".
فبعدما كنا -كالعالم كله- نعيد تاريخ الثورات الحديثة للثورة الفرنسية وسلسلة الثورات الماركسية التي امتدت من روسيا إلى آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية, وأثرت في ثورات التحرر العربي من الاستعمار الغربي أواسط القرن العشرين.. فجأة بعد هذا التاريخ الذي كان جلّه انعكاسا لحال العالم علينا, أصبحت ثورة ربيعنا العربي تشكل مرجعية معترفا بها لإرهاصات ثورية بدأت تعلن استرشادها بثوراتنا, وتعترف قوى الاستعمار الغربي القديم بأبوتنا وأمومتنا للعصر الثوري الجديد, ولهذا تجهد لابتكار وسائل الالتفاف عليه بتخبط ملحوظ.. ومع ذلك لا تكون الغلبة فيه في النهاية إلا للشعوب العربية, وبمقدار تجذر القناعات الثورية في نفوس تلك الشعوب.
والشك في هذا وطغيان نظرية المؤامرة على تفكير أو هواجس البعض, جزء من مخلفات تاريخ التحاقنا بالغرب, هواجس تسببت في أكثر من صيغة ردّة في مكوننا المحلي نتيجة مثل هذا الاغتراب الطويل. ومن هنا يأتي الظن بأننا لسنا أكثر من رهائن تراوح بين حكم العسكر والحكم الثيوقراطي اللذين طوى صفحتيهما العالم الديمقراطي.. في حين أننا حقيقة, نقود العالم نحو ربيع ثوري بدأ عربيا خالصا باعتراف هذا العالم.
للجيوش دور في الثورات يفوق حتى دورها في الحروب الخارجية, ولكن دورها ليس الانقضاض على الحكم ولا على جزء منه. دورها الحقيقي هو حماية الوطن ومواطنيه ومؤسساته، وتلك الحماية تُلزم ليس فقط بألا يصبح الجيش أداة لقمع الشعب, بل بمسؤولية حماية الشعب حين يجري تطاول سلطوي ممنهج على أمنه وكرامته, بكف يد كل من يفعل ذلك.. وبعدها يترك أمر الفصل في ما جرى لجهتين: القضاء الذي يجب أن يظل مدنيا باعتباره سلطة مستقلة تشكل مرجعية توازن الحقوق وليس القوى.. وصناديق الانتخاب التي يتوجب على الجيش حمايتها لكونها تحقق مبدأ "السيادة" التي هي للشعب, ويحققها بانتخاب سلطاته التشريعية والتنفيذية.
وفي القوانين الدولية, تعود السيادة إلى الشعب في حال وقوع البلد تحت الاحتلال، أي أن شرعية الثورة الشعبية تنشأ أصلا من السيادة الوطنية.. ومن يلغي إرادة الشعب ليتحكم بمقدرات الوطن أو يفرط فيها, يعتبر في حكم المحتل الذي يتوجب على الجيوش الوطنية محاربته إلى حين إعادة السيادة إلى الشعب.. عندها ينسحب الجيش إلى ثكناته.
"
الربيع العربي ثورة قائمة ومستمرة في مصر وغيرها, وفي بعض الأقطار العربية مثل سوريا, باتت الجيوش في قلب الصراع وأداته الرئيسية
"
وهذا لا يلغي دور العسكر السياسي, فبإمكان المتقاعدين العسكريين المنافسة على كل مواقع الحكم, وتاريخهم العسكري في حماية الوطن ومؤسساته ومواطنيه, يعطيهم قصب السبق.. وبعض خيرة من حكموا الغرب الديمقراطي كانوا جنرالات جيش, من مثل ديغول وإيزنهاور.
بقي لاكتمال الصورة وتصحيح مسار الجيوش العربية, أن تجري تقييمات محايدة تكمل ما قدمه العسكر في حفل تسليم صلاحيات المجلس العسكري المصري للرئيس المنتخب. فالربيع العربي ثورة قائمة ومستمرة في مصر وغيرها. وفي بعض الأقطار العربية مثل سوريا, باتت الجيوش في قلب الصراع وأداته الرئيسية.
ولا ينبغي أن نقطع الإيمان أو الأمل بقدرة وقدر الجيوش أن تكون في الخندق الشعبي.. أو هي تفتح الباب لتدخلات خارجية، وأول ما ستفعله خبرناه في العراق, وهو حل الجيش ومن ثم مطاردة وتصفية خيرة قياداته, وتشتيت أفراده بما يجعلهم أقل من لاجئين في أوطانهم.