كيف يمكنك أن تتجنب وصف مذبحة بأنها مذبحة؟
يمكنك أن تنشغل بمهاجمة الإخوان وقيادتهم الغبية الفاشلة، تتذكر تصريحات صفوت حجازي المجنونة أو التحريض الطائفي من عاصم عبد الماجد أو خطب مرسي الهزلية أو هرتلة خيرت المتظاهرة بالأهمية أو بلاوي منصة رابعة أو تعدد فرص الحل السياسي التي أضاعها غرور وأنانية القيادة الربانية قبل وبعد 30 يونيو.
يمكنك أيضاً أن توجه الاهتمام والتعاطف الإنساني إلى اتجاه آخر، مثلاً الحزن على الكنائس المحروقة والمدمرة، البكاء على ضحايا مذبحة قسم كرداسة أو ضحايا مذبحة سيناء الأولى والثانية.
كل هذا- وهو حق بالطبع- كي تتهرب من التفكير في أنك كنت تعيش بهذه البلد، بينما وقعت بها المذبحة.
لكن الكلمة تأتي من حيث تريد إبعادها. أنت نفسك قلت مذبحة قسم كرداسة، ومذبحة سيناء، فلماذا تقاوم أن تقول مذبحة رابعة؟
(2)
«أخطر حوادث القتل الجماعي غير المشروع في التاريخ المصري الحديث»
من تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش عن مذبحة رابعة.
(3)
من قال إن الأرقام ماتفرقش؟
لأ، تفرق!
بالتأكيد قتل 1000 إنسان أكثر دموية وإجراماً من قتل 10، ولهذا السبب بالضبط توجد بالقوانين الدولية مصطلحات مثل «جريمة حرب» و «قتل جماعي» و «عقاب جماعي» و«إبادة عرقية».
وزارة الصحة أعلنت يوم الفض عن حصيلة مبدئية 288 قتيلا، على أساس أنها ستوالي إصدار البيانات كالعادة، لكنها صمتت تماماً بعدها. تواردت أنباء غير مؤكدة عن تعليمات شفوية بنقل مسؤولية إعلان إحصاء أي ضحايا إلى مجلس الوزراء.
بالنسبة لي إحصاءات موقع ويكي ثورة موثوقة للغاية، خاصة أنهم فوق التشكيك- أو تحته!- من الطرفين، لقيامهم بتوثيق جرائم الطرفين بلا تمييز، وسبق أن وثقوا جرائم عهد مرسي، من قتل وتعذيب واعتقال، على يد الداخلية أو الإخوان، بنفس طريقتهم المهنية الحالية في توثيق مذبحة رابعة: جداول تفصيلية بها أسماء الضحايا والمعلومات المتاحة عنهم ومصدرها، بالاعتماد على شبكة المنظمات الحقوقية المصرية التي كونت جبهة الدفاع عن متظاهري مصر منذ 2008.
سقط خلال أسبوع واحد منذ يوم فض رابعة في 14 أغسطس 1666 قتيلا مصريًا. يشمل هذا الحصر كل الضحايا من كل الأطراف «مؤيدو مرسي- معارضو مرسي- شرطة وجيش- أقباط- أهالي - مارة بالصدفة».
يوم الفض وحده شهد سقوط 1311 قتيلا، منهم 869 في فض رابعة وحده.
هل هناك من يدرك مدى ضخامة هذه الأعداد وما تشير إليه؟
كل أرقام أحداث الثورة وما تلاها، محمد محمود، مجلس الوزراء، العباسية، ليست موضع مقارنة هنا أصلاً.
يمكن هنا المقارنة بأحداث من نوع مذبحة صابرا وشاتيلا بجلالة قدرها، والتي استمر القتل بها يومين متواصلين- وكتب عنها مريد البرغوثي القصيدة التي بدأت المقال بها- ولا تتجاوز بعض تقديراتها هذا الرقم! «تقدير بي بي سي 800 قتيل، تقدير الكاتبة بيان الحوت في كتابها عن المجزرة 1300 قتيل».
بلاش دي .. حرب لبنان 2006 التي استخدم فيها الجيش الإسرائيلي أقصى قوته البرية والبحرية والجوية، سقط فيها بعد 32 يوماً من الغارات والقصف والقتال 1200 شهيد لبناني فقط، منهم حوالي 500 مقاتل من حزب الله.
حرب غزة الرهيبة في 2009، سقط بها خلال 22 يومًا 1285 شهيدًا، منهم 260 من كتائب القسام وأجهزة حماس الأمنية.
كل هذه الأرقام أقل ممن سقطوا في مصر في يوم واحد فقط!
كيف يمكن أن تسمي المذبحة بأي اسم إلا بأنها مذبحة؟
(4)
«ده كان اعتصام مسلح مش سلمي . شفت كام ظابط ماتو هناك؟»
هذا هو رد كل من يريدون منح الشرعية للمذبحة والراحة لضمائرهم، بدءًا من مصطفى حجازي حتى أبسط راكب بجوارك في المترو.
بعيدًا عن مبالغات الملائكية أو الشيطنة من الطرفين، الإحصاء الموثق بالاسم والرتبة والمكان يقول إن عدد قتلى الشرطة يوم فض رابعة 42 قتيلا على مستوى الجمهورية- نفس الرقم الذي أعلنته الداخلية- منهم 7 فقط لا غير سقطوا في رابعة.
وحسب كلام وزير الداخلية في مؤتمره الصحفي، فإن الأسلحة المضبوطة في رابعة هي 10 بنادق آلية و29 بندقية خرطوش.
لا أستخدم أرقام الوزير من باب أنه مصدر ثقة مطلقة، لكني أعتمد أرقامه في هذا الموضوع تحديدًا من باب أنه لا يمكن لأحد أن يكون ملكياً أكثر من الملك.
أولاً: أين ترسانة السلاح الثقيل، والأسلحة الكيميائية، والصواريخ التي تحدثت عنها الداخلية والإعلام- لا مؤاخذة- والخبراء الإستراتيجيون؟
وثانياً:هل تنظيم الإخوان الرهيب وحلفاؤهم المرعبون من حماس حين يقررون تسليح الاعتصام سيكون معهم 40 قطعة سلاح خفيف فقط، يقتلون بها 7 من أعدائهم فقط؟ ده آخرهم في الأكشن يعني؟
القرار التنظيمي بالتسلح كان سيعني وجود آلاف المسلحين بآلاف قطع السلاح الخفيف والثقيل، وليس هذا العدد المتواضع. هناك مشاجرات شعبية عادية في إمبابة، حيث كنت أعمل، يظهر بها سلاح أكثر!
التوصيف الصحيح، الذي أجمعت عليه الشهادات والتقارير الدولية، هو وجود أشخاص وسط المعتصمين، أتو بأسلحتهم بشكل فردي.
هل وجود هؤلاء، وأيضاً حدوث حالات فردية من الاعتداء على مواطنين أو صحفيين يبرر المذبحة؟ قطعاً لا!
كل القوانين المحلية والدولية تقول إن على القوات، حتى في حالات الحروب في الأماكن المدنية الأجنبية، التعامل بالسلاح الناري المميت فقط مع الأشخاص الذين يشكلون بسلاحهم خطورة على حياة القوات، وليس أي شخص آخر أعزل يكفي لردعه وسائل أقل عنفاً.
المسلحون هنا هم على الأكثر 40 شخصًا كانو يحملون 40 قطعة سلاح، وبافتراض أنهم قتلوا جميعاً، فماذا عن أكثر من 800 هم باقي الضحايا؟
نسبة المسلحين إلى السلميين في القتلى بافتراض صحة هذه الأرقام هي 1 : 21 .. هذه أكبر بكثير من نسبة المسلحين إلى السلميين في قتلى حروب إسرائيل على غزة ولبنان، والتي أدانت بها المنظمات الدولية جرائم الحرب الإسرائيلية ضد المدنيين!
الفيديوهات والشهادات والتقارير الدولية كلها تؤكد وقوع أعداد كبيرة من القتلى العزل تماماً. هناك من ظهر بوضوح يتم قتله برصاص قناص مباشر في رأسه، بينما يصور أو يختبئ، أو حتى يحمل جثة شهيد آخر.
كيف يمكن أن تسمي المذبحة بأي اسم إلا بأنها مذبحة؟
(5)
إن قرار استخدام الذخيرة الحية على نطاق واسع منذ بداية فض الاعتصام يعكس فشلاً في مراعاة المعايير الشرطية الدولية الأساسية المتعلقة باستخدام القوة المميتة، ولا يمكن تبريره بالاضطرابات الناجمة عن المظاهرات، ولا حيازة عدد محدود من المعتصمين للسلاح.
كما أن إخفاق السلطات في توفير مخرج آمن من الاعتصام، بما في ذلك للمصابين بجراح جراء الطلقات الحية، يمثل مخالفة جسيمة للمعايير الدولية.
من تقرير هيومان رايتس ووتش.
(6)
ما الفارق بين المهللين للمذبحة الآن وبين أنصار مرسي حين كانوا يهللون لقيام الداخلية أو حتى الإخوان بأنفسهم بقمع مظاهرات المعارضة بحجة اندساس من يلقون الطوب والمولوتوف فيها؟
وقتها كان ردهم على أي كلام مننا عن المعتقلين أو التعذيب أو القتل هو«ِشفت اللي رمو مولوتوف على القصر؟ شفت البلاك بلوك بيرمو طوب؟ شفت اللي هاجموا مكتب الإرشاد؟». اليوم يتكرر نفس المنطق المنحاز والمجتزئ للحقائق، والمتجرد من الإنسانية، مع اختلاف الأشخاص واختلاف فداحة الوقائع!
الدنيا التي دارت على الإخوان، يمكن أن تدور عليكم في مرة أخرى، لتثبت لكل الأطراف من جديد أنها دوارة.
(7)
مات محمد عدس، زميلي في طب الأزهر بأسيوط، الطيب جدًا الودود جدًا، الذي كان لا يتأخر عن خدمة أحد أبدًا.
ومات صديقي عبد الرحمن جودة، الذي كان يتمنى في أول الثورة أن يكف كل أطراف الوسط السياسي عن الخلافات النخبوية، ويركزوا على الفقراء ومطالب الناس المباشرة.
وماتت أسماء البلتاجي، الجميلة الصغيرة الهادئة، ذات الصورة المبتسمة، بينما يغطي وجهها آثار الغاز في محمد محمود.
كالعادة: «أجملنا الراحلون ...»
(
كومة من جثث
كومة من قلوب
كومة من ركام
كومة من حنين
كومة من تراب
كومة من طموح
كومة من حطب
نسوةٌ، صبيةٌ، وشيوخٌ حطب..
(9)
بينما أتصفح قوائم «ويكي ثورة» تؤرقني فكرة البساطة المذهلة التي يتم قتل الناس بها. مئات القتلى سقطوا في أماكن لم يسمع عنها أحد شيئاً.
حتى قتلى الشرطة لم نسمع منهم إلا عن قتلى كرداسة والعريش.
هل سمع أحد عن فرج علي عزيز، أحد قتلى فض الشرطة لاعتصام ميدان الثقافة بسوهاج؟ هل سمع أحد عن المجند مصطفى عادل عبد الستار الذي قتل في الواقعة نفسها؟
هل سمع أحد أن مؤيدي مرسي كانو يقيمون اعتصاماً في سوهاج أساساً؟
كم شخص اهتم بمعرفة تفاصيل الخبر المذكور في سطر عابر «أعمال عنف في المنيا»؟ من عرف أن اشتباكات المنيا في مراكز العدوة وملوي ومطاي وسمالوط ومغاغة وأبو قرقاص وبني مزار وديرمواس سقط بها 68 قتيلا، منهم 57 مدنيًا و11 من رجال الشرطة؟
كم شخص يعرف أساساً أن هناك مدينة في مصر اسمها «مطاي»؟
تؤلمني دائماً فكرة أن القتيل يمثل كل شيء لأقاربه وأصدقائه ولا يمثل للآخرين أي شيء.
اغمض عينيك وتخيل نفسك ترى جثة أخيك أو أبيك أو صديقك. لن يمثل للآخرين إلا مجرد رقم، وربما لن يسمعوا عن الرقم أصلاً.
كيف يتعامل البعض مع المذبحة بهذه السهولة؟
(10)
إدانة المذبحة لا تعني اتفاقاً مع الموقف السياسي لضحاياها..
إدانة المذبحة تعني أنك إنسان.
(11)
«المصريون لم يكونوا موحدين بقدر ما هم الآن»
هكذا تحدث مصطفى حجازي، معبرًا عن خلاصة الأزمة الفكرية عند الفريقين المتنازعين في مصر.
حجازي يعبر عن رؤية الفريق الحاكم الحالي، الذي يرفض تماماً أي وصف لما يحدث بأنها أزمة سياسية أو انقسام شعبي، بل هناك دولة وشعب يحاربون كياناً غريباً عنهم اسمه «الإرهاب»، تمتد صفته لملايين الإسلاميين أو مؤيدي مرسي.
في المقابل، سمعت العبارة نفسها تقريباً من أحمد عارف، المتحدث باسم الإخوان، الذي كان يتحدث بثقة عجيبة لا تقل عن ثقة حجازي «الآن الشعب أدرك حقيقة الانقلاب، وسيقف موحدًا ضد الانقلابيين، الذين لا مكان لهم في مصر الجديدة!»
لا أفهم كيف يتعامى أصحاب كلا النظرتين عن حقيقة ببساطة أن الشعب منقسم.
الملايين في الشارع منذ شهرين من كلا الفريقين، وبغض النظر عن أيهما أكثرية وأغلبية، فلن يبيد الملايين الملايين أبدًا.
الحل الإقصائي جربه اللبنانيون في الحرب الأهلية التي استمرت 16 عامًا، وجربه الجزائريون في «الحرب على الإرهاب» لعقد من الزمان، كما جربه غيرهم في جنوب أفريقيا وأيرلندا، وانتهو إلى حل سياسي، تتنازل فيه كل الأطراف، ويرتكز على صندوق انتخاب بشروط يقبلها للجميع، وقدر من العدالة- أو عدم العدالة!- الانتقالية بشروط متساوية للجميع، فلماذا يصمم البعض على إعادة اختراع العجلة؟
وبالمثل كلا الفريقين لا يرى إلا أن فريقه طاهر بريء ملائكي، والآخر هو الشيطان الدموي السفاح الذي يجب أن يحاكم وحده.
لا فارق بين قتيل على يد أنصار الإخوان في الاتحادية أو بجوار كنيسة أو من أهالي بين السرايات، وبين قتيل من أنصار الإخوان في «رابعة» أو «النهضة» أو غيرها.
لا فارق بين ضحية تعذيب في الاتحادية أو مسجد القائد إبراهيم وبين ضحية تعذيب في قسم شرطة أو سجن حربي.
لا فارق بين قاتل يرتدي بذلة رسمية وقاتل يرتدي ملابس مدنية.
لا فارق بين قاتل ملتحٍ وقاتل حليق.
حرق الكنائس جريمة، وقتل جنود سيناء جريمة، وبالتأكيد المذبحة أيضاً جريمة.
الدم كله سواء، وقتلة الأبرياء كلهم سواء.
حدثت مئات من وقائع العنف بين كل الأطراف، وكل حالة لها قصتها الخاصة ووضعها الخاص، تحتاج تحقيقاً مستقلاً وموثوقاً لتحديد الجاني والمجني عليه، وتحديد الفارق بين عنف «الاعتداء» وعنف «الدفاع عن النفس»، بلا تعميم مسبق.
إذا كنا سنحاكم المجرمين من أنصار مرسي، فيجب أيضاً محاكمة المجرمين من الفريق الآخر. ولا أتصور عدالة لا تشمل المتورطين في المذبحة من رجال الشرطة.
المسؤولية السياسية تقع على مرسي وبديع وخيرت فيما جرى بعهد مرسي البائس وما بعده، هذا حقيقي جدًا.. لكنها تقع بنفس القدر على الببلاوي والرئيس منصور والفريق السيسي في أحداث عهدهم، وعلى رأسها المذبحة، ومن قبل تقع على طنطاوي وعنان في أحداث عهدهم.
الدعوة لمهرجان المحاكمات للجميع «أو للأسف الشديد العفو للجميع كما حدث في تجارب دولية» ما زالت قائمة.
(11)
كومة من دفاتر محروقة
كومة من دروس الحساب
كومة من لعب
كومة من تعب
كومة من غضب
كومة من مواعيد
والموت يهبط مثل غطاء من البفت أبيض
ذي بقعٍ من... هدوء
روابط ذات صلة
نص تقرير هيومان رايتس ووتش عن فض رابعة
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]