يقسم العسكريون المعارك إلى أربعة أقسام وهى: الهجومية والدفاعية والتصادمية والانسحاب.. وكلها معروفة من قديم الزمان.. ومعظم الناس يعرفون كثيراً عن الثلاث الأولى.. أما معركة الانسحاب فلا يهتم بها أحد.. ناسين أن بعض القادة العظام بدأوا نجاحهم العسكرى من معارك انسحاب رائعة.
أما الفاشلون فلم يستطيعوا إنقاذ قواتهم من المهالك الكبرى قبل فوات الأوان.
وهذا رمز العسكرية الإسلامية والعربية الخالد خالد بن الوليد تولى القيادة فى مؤتة بعد استشهاد ثلاثة من القادة فأدار خطة محكمة لسحب قواته من المعركة بسلام.. فقام ليلاً بوضع الميمنة مكان الميسرة والمقدمة مكان المؤخرة وغير الوجوه كلها فظن الروم صباحاً أن مدداً قد جاء للمسلمين فخافوا من الاشتباك فقام خالد بن الوليد بأعظم انسحاب آمن.. فقابله أطفال المدينة: يا فرار يا فرار.. فرد عليهم رسول الله صاحب العبقرية العسكرية والسياسية بقوله: بل هم الكرار إن شاء الله ولقب خالد يومها أعظم وسام عسكرى فى التاريخ «سيف الله المسلول».
لقد قرأ رسول الله عبقرية «خالد» العسكرية مبكراً من خلال معركة انسحاب رائعة ومنظمة.. ولإدراكه أن هذه المعركة بالذات تحتاج إلى الشجاعة الأدبية الفائقة مع العبقرية العسكرية.. إنها شجاعة القرار مع عبقرية الحرب.
ولذا لم يكن غريباً أن يعطى الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الوسام العظيم لخالد بن الوليد بعد معركة انسحاب.. إنها معركة الحفاظ على الموجود واستبقاء الجنود وحقن دمائهم حتى لا تراق فى غير ميدان ودون جدوى.
لقد نال تشرشل مكانته العسكرية أساساً باستطاعته سحب قرابة ثلث مليون جندى بريطانى عبر البحر قبل أن يدمرهم جيش هتلر وهؤلاء الجنود هم الذين حققوا النصر عليه بعد ذلك.
إن هناك مشكلة كبيرة فى الحركة الإسلامية المصرية وهى أنها تظل تحارب معاركها حتى يفنى آخر جندى لديها.. إنها لا تفكر أنها هزمت فى معاركها حتى يدخل آخر فرد فيها إلى الزنزانة.
إنها عادة ما تقرأ الواقع متأخراً.. وتقرأ المستقبل بطريقة تخلط الأمانى والأحلام بالواقع ومعطياته ولا تدقق فى مصالحه ومفاسده.
تخسر المعركة مرات ومرات ولكنها لاتزال تدفع بجنودها من الشباب الطيب الطاهر إلى المحرقة تلو المحرقة والمهلكة تلو المهلكة.. وقد تخسر المئات من شبابها فى معارك رمزية مثل رمزية الدخول إلى التحرير وكأن التحرير هى القدس..
أين العقلاء الذين يحفظون ما تبقى منها قبل أن تدمر وتهلك؟
هل عدمنا مثل فكر خالد بن الوليد يوم مؤتة.. ألم يقرأ أحدنا ما فعله تشرشل.. كل يوم تراق دماء الشباب الطاهر ومعها دماء أبناء الوطن من الجيش والشرطة من أبنائنا دون أن تعود الشرعية أو تحقن الدماء أو يتصالح الفرقاء أو تتوقف السجون عن ابتلاع الإسلاميين.. أو يتوقف إنهاك الوطن واستنزاف اقتصاده.
أفلا يفكر الفريقان فى العودة إلى الخلف عدة خطوات.. والانسحاب إلى خط خلفى مرة واحدة ليتفكر الفريقان فى وقف حرب مصر مع مصر.. والمسلم مع المسلم.. والمصرى مع المصرى.. بدلاً من أن نفيق كل صباح على مصرنا وهى موزعة بين قابيل وهابيل.. وعويل النساء ويتم الأطفال.