عامٌ مضى على ذكرى تحرير كرداسة، حظيت بشرف تغطية الساعات الأولى من العملية، برفقة زملائي من الصحفيين والمصورين، ما اعتبرتها من أهم تجاربي في فترة عملي بمهنة المتاعب والحقائق.
يومها نجونا من الموت المحقق بأعجوبة، حال تواجدنا في الكمين الأخطر، والذي فصل ظهير ناهيا عن كرداسة، الذي شهد أصعب معركة ثانوية في عملية الاقتحام، معركة المدرسة.
قبل الاقتحام بساعات،هاتفني أحدهم: «اجهز»، هاتفت آخر لأتأكد من المعلومة: «إيه الدنيا»، فيرد: «اتغدّى كويس، لا نوم هذه الليلة»!
مشاعر متضاربة، ما بين قلق وتوتر وفرحة، على المستوى المهني، كنت أعلم أن الأحداث جسيمة، دعوت الله أن يوفقني في تأدية عملي، كانت هناك فرحة أخرى على المستوى الشخصي بعملية التحرير، لما عهدته على الإخوان وأربابهم، ولما فعلوه في ضباط وأفراد القسم غدراً، بطبيعة عملي لممت بكثيرا من جرائمهم في تلك الأوقات العصيبة.
أبلغت رؤسائي بمعلومة اقتراب ساعة الصفر، وتكتمنا الأمر قدر الإمكان، لنطلب مصورا صحفيا، فوقع الاختيار على زميلي علاء!
يترك نادي القضاء مسرعا، لتحل محله زميلة أخرى، ينتظرني بالقرب من كوبري الجامعة، وندخل سريعا إلى المقر الأمني، حيث هناك خططت الدولة للعملية الأصعب، حيث حول الضباط والأفراد المقر إلى منزلهم، انقطعت إجازاتهم، وركزوا جهودهم لتنفيذ العملية، بأقل خسائر في الأرواح من الجانبين، وثأرا لزملائهم، ثأرا بضبط المتهمين وليس بقتلهم، هكذا كانت التعليمات.
وضح أنه لا أحد في المقر الأمني، يعلم بساعة الصفر، إلا من رحم ربي، بالطبع كان الإفصاح عن توقيت العملية نتائجه كارثية، على سلامة المشاركين في الاقتحام، كما أن الإفصاح عن التوقيت يسمح للمطلوبين بالاحتياط أو الهروب.
«يا افندم إنت وعدتني إني أول واحد هكون هناك»، فيقسم: «مفيش حاجة النهاردة»، أباغته بنظرات الدهشة فيستطرد قائلاً مازحا: «هوا النهاردة إيه»!
عاد لي الترقب من جديد، عرفت أن أجهزة الأمن سجلت ساعة الصفر، قبل منتصف الليل بدقائق، أيقنت أنه لا نوم هذه الليلة.
تسلم قطاع الأمن المركزي تأمين المقر الأمني، في الوقت الذي ترجل كل ضابط وفرد لنيل شرف المشاركة في عملية التحرير، وفاء لدم زملائهم وتقديرا لواجبهم، وإعادة الهيبة لعملهم.
كانت هناك تعليمات مشددة، بعدم اصطحاب أي إعلاميين في الساعات الأولى من العملية، عملية التحرير التي جهزت لها وزارة الداخلية بالتنسيق مع الجيش قرابة شهر، منذ فض اعتصامي الإخوان.
بالتنسيق مع مصدري، صعدت أنا وعلاء موكب ضم قائد المنطقة المركزية العسكرية، وقيادات أمنية من مختلف الإدارات، وانطلق الموكب إلى مقر إدارة العملية بأكتوبر، لم أعرف أن قياديا بالوزارة، في ذلك الوقت، اكتشف تواجدي في الموكب، أوقف الركب فجأة بميدان الرماية وطلب مني النزول من السيارة، حرصا على السلامة، وبداعي عدم تلقيه تعليمات من الوزراة باصطحاب الإعلاميين، وقدرت مطلبه.
الدبابات تحيط بميدان الرماية من جميع الاتجاهات، تقترب الساعة من الثانية صباحا، حظر التجول بدأ سريانه، ماذا نفعل! كان قرارا خاطئا اتخذته أنا والزميل المصور لندخل كرداسة بمفردنا قبل الفجر، مع سائق تاكسي، وضح أنه فاقد للأهلية، ليوافق على توصيلنا.
على طريق كفر غطاطي المظلم، تساءلنا: كيف لنا أن نلقي بأنفسنا في تلك المنطقة قبل دخول الأمن، إن اقتحم الأمن وقابلته العناصر المسلحة، فقد وقعنا في المنتصف، لن يستطيع أحد أن ينجدنا، وبالطبع لن نستطيع أن نسلم كتاباتنا وصورنا.
عدنا إلى أول الطريق، ما إن انتظرنا بضع لحظات لنرسل صورا للموقع، إلا وظهرت أول مدرعة، سريعا، طلبنا سائق تاكسي آخر: «خلليك ورا المدرعات»، اعتقد أنه ندم على اللحظة التي وافق فيها على ركوبنا، بدا مرعوبا مصابا بالضحك هستيرياً، لا يملك قرار الرجوع.
دوي إطلاق النيران لم يفارق مسامعنا، إلى أن انتهى بنا الركب في كمين أمني، في ظهر منطقة ناهيا، كانت معركة المدرسة، إطلاق نيران قرابة الساعة والنصف، لا غطاء لنا، سوى مدرعة قوات مسلحة، تحمل نصف مدفع، وسيارتي قنوات فضائية، احتمينا بها يائسين من طلقات النيران، ما انتظرنا شيئا سوى الموت أو المعجزة.
مع بداية طلقات النيران، انبطحنا أرضا، لم نلحظ شيئا من الممكن أن نختبئ فيه، على بعد أمتار، تعالى صراخ أحد المجندين، «اللوا وقع»، صرخ المجند بالقرب من ضابط مصاب، جره زميلنا في قناة المحور، عرفنا فيما بعد أنه اللواء نبيل فراج، كان آخر ما شاهدته لهذا الرجل، وهو يحذر سيدة تطل من نافذة منزلها: «ادخلي يا ست جوا وبعد ما نخلص اطلعي، احنا خايفين عليكم».
وضح أننا وقعنا في الفخ، 3 مسلحين أو أكثر، أمطرونا بوابل من الرصاص، من أعلى لأسفل، لم نستطع أن نتحرك للوراء، في ظل عدم وجود تغطية، أما الدخول إلى البلد في تلك اللحظة فكان أشبه بالمغامرة غير المحسومة، قررنا الاحتماء ببعضنا.
6 ساعات بعد الفجر، لم يتوقف فيها إطلاق النيران، لم تتوقف فيها أعمدة الدخان المتصاعدة من داخل القرية، بدا أن الوقت يسرقنا، حان وقت الرحيل، للعودة إلى الجريدة للكتابة، ليحل محلنا زملاء آخرون.
دخلت كرداسة، أكثر من مرة، قبل عملية التحرير وبعدها، أولاها كانت في ثاني أيام جريمة قتل الضباط، رأيت الخراب وصورنا قدر الإمكان، دماء الضباط لم تكن جفت بعد، دخلتها برفقة سمير صادق في مهمة محفوفة بالمخاطر، ودخلتها مرة أخرى برفقة محمد طارق، ونجحنا في تحرير تحقيق صحفي «كرداسة خارج سيطرة الدولة».
مر عام على جريمة لم يعتدها المصريون. ثار خوارج الإخوان على الدولة وشعبها، عقب عزل زعيمهم. دعوا للانفصال وأغلقوا منافذ القرية، وأحرقوا قسم الشرطة، وقتلوا ومثلوا بجثث من فيه، وعطلوا الحياة داخل البلدة، ورفعوا السلاح في وجه الدولة، فعلوا ما لم يفعله غيرهم، فعلوا ما لم يفعله ولن يفعله إلا من تربوا على الدماء والغدر.
لم تقتل الشرطة مسلحا واحدا في كرداسة، بالرغم من حدة المعركة واسعة النطاق، وبالرغم مما فعلوه في 13 ضابطا وفردا بالقسم، أعلم أن 7 من بينهم ضباط تم تحويلهم إلى التحقيق، بسبب تعاملهم البطيء مع مسلح، إلى أن باغتهم بقنبلة يدوية أصابتهم جميعا.
كان اللواء نبيل فراج هو المتوفى الوحيد في العملية، من الجانبين، وكفى بها شهادة، وبحسب التحقيقات فإن «ويكا» الترزي، هو قاتل اللواء، وما زال هاربا حتى اللحظة، قنصه بطبنجة من داخل توك توك وفر هاربا، كما أفادت التحقيقات، فيما حصل 12 متهما في واقعة قتل اللواء على أحكام بالإعدام، وأخلت المحكمة سبيل 98 في الأحداث، عادوا إلى منازلهم وفي ذات الليلة تظاهروا بالملابس البيضاء، فيما استمرت محاكمة 188 آخرين.
عادت كرداسة، ودبت فيها الحياة من جديد، اللهم سوى مسيرات صبيانية لأرباب التنظيم بين الحين والآخر، لن تقدم أو تؤخر في شيء، عادت كرداسة، وتنفس شرفاؤها الصعداء، أذكر أنهم كانوا يتوجعون لتعميم الإعلام، وذكره للبلدة كأنها حفرة في جهنم، أذكر خوفهم ويأسهم وترقبهم، وعجزهم عن مغادرة البلدة، وتعطل معايشهم، عادت كرداسة، ونجانا الله مما نخاف.