يضـرب التيار السلفى على اختلاف مدارسه وتوجهاته بجذور عميقة فى تربة التصور الإسلامى وتاريخ المسلمين على السواء، ولذا لا يمكن الإلمام بخرائط وجوده وانتشاره، ولا بطبيعة أطروحاته وأفكاره، ولا بشبكة علاقاته ومدركاته ونظرته للآخرين، سواء داخل فضاء الدعوة والحركة الإسلامية أو خارجه، من دون العودة إلى الأسس التى انطلق منها، والتى لا يزال يُعيد إنتاجها فى الزمن الراهن من دون تغيير أو تعديل جوهرى، ظناً منه أن هذا هو «الطريق المستقيم» بالمعنى الدينى أو الاعتقادى، وأيسـر السبل إلى الخير والإنجاز بالمعنى الاجتماعى والسياسـى والاقتصادى، وذلك اتكاءً على ما نُسب إلى الرسول الكريم من قوله: «خير الناس قرنى ثم الذين يَلونهم ثم الذين يلونهم...»،1 وكذلك وفق تصور يعتقد فى أن من رأوا النبى وصحابته هم الأكثر قدرة على الوصول إلى الجوهر العميق للإسلام وتطبيق فرائضه وتعاليمه، وأن ما كانوا عليه يجب أن يكون عليه كل المسلمين مهما تقدم الزمن وتغيرت الظروف.
وعلى مدار القرون التى خلت، والتيار السلفى يمر بأوقات ازدهار وانحسار، صعود وهبوط، لكن وجوده لم ينقض، وأطروحته لم تنته، بل انكمشت حين وجدت صدوداً من السلطة أو المجتمع، ولاسيما طليعته الفكرية وصفوته الاقتصادية، ثم تمددت حين أقبلت عليه، ويعود هذا بالأساس إلى أمرين:
الأول: هو أن السلفية ليست تنظيماً محكماً له رأس وأتباع، بل هى تيار تنتقل أفكاره من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل، حتى ولو بأجنحة مهيضة، وتجد دوماً مَن يعتقد فى أنها تمثل الدين فى صفائه أو أصله الأول، ولذا يتمسك أولئك بها ويدافعون عنها دفاعاً مستميتاً، فكثير من التنظيمات المعسكرة والمسيسة أبيدت عن آخرها، وصارت أثراً بعد عين، بل إن بعض ما كانت تؤمن به من تصورات ذاب معها وصار نسياً منسياً، بينما بقيت السلفية على قيد الحياة، يتم استدعاؤها من قبل البعض على أنها «الحل السحرى» كلما تأزم المسلمون، وتملَّكهم حنين جارف إلى أيام مجدهم الغابر، فظنوا أن بوسعهم أن يستعيدوا التاريخ بحذافيره، بشخوصه وسياقاته ومقولاته، فى ماضوية تتجدد كلما تجددت الهزائم والانكسارات.
أما الثانى، فهو أن السلطات السياسية المتعاقبة على مدار تاريخ المسلمين وجدت فى «السلفية الوديعة المستأنسة» نصيراً مضموناً لمواجهة التنظيمات المناوئة للحكم، والتى ارتدَت ثوباً دينياً أو وظَّفت خطاباً دينياً فى تعبئة الناس حولها، وتبرير مسلكها، وإذا كان هناك شيوخ كبار قد ناطحوا السلاطين فى بعض المواقف، مثل الإمامين أحمد بن حنبل وأحمد بن تيمية، فإن الغالبية منهم إما صبروا على جُورهم أو تساوقوا معهم وجاروهم.
وتُلقى هذه السلسلة من المقالات نظرة تحليلية عامة على التيار السلفى؛ فتتناول فى القسم الأول الأسس المعرفية والفقهية التى ينبنى عليها التيار السلفى، والتى اتبعت خطاً فى تاريخ المسلمين تعافى على يد الإمام أحمد بن حنبل، وتراخى ليتجدد مع ابن تيمية، ثم ضعف ليأخذ دفعة جديدة على يد محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه أو المتأثرين به والمتبعين خطاه.
وتتبع المقالات فى القسم الثانى خريطة التيار السلفى فى الفترة الحالية، والتى تبين أن السلفيين ليسوا فريقاً واحداً منسجماً إنما بينهم تباينات؛ سواء فى أسباب النشوء والانطلاق، أو فى الرؤى والمرجعيات، أو فى المصالح والمنافع، أو فى علاقتهم بالآخر وتصورهم عن الذات والعالم. وهنا أيضاً يظهر مدى تسـرب النزعة السلفية إلى التنظيمات الحركية التى تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، سواء بادعاء النقاء والأصالة، أو بالسليقة، أو بتطويع التسلف لخدمة التوجهات السياسية، كما يظهر المشـروع السياسـى المستتر، والمشـروع الجهادى الكامن لدى السلفية الدعوية، سواء بنزعتها إلى تشكيل أحزاب تعمل تحت مظلة الشـرعية السياسية والمشـروعية القانونية أو بمناصـرة السلطة القائمة فى وجه معارضيها حتى من بين الجماعات والتنظيمات المسيسة التى تتخذ من الإسلام أيديولوجية لها، أو بانزلاقها إلى دائرة العنف تحت راية «الجهاد المسلح» بعد التحول إلى «سلفية جهادية».
أما القسم الثالث فيستقرئ مستقبل السلفيين فى ظل التغيرات التى يشهدها العالم العربى فى اللحظة الراهنة، وفى ظل التحديات التى تواجه التيار السلفى، حيث الخطاب الماضوى، والبنية المعرفية التى تسير فى اتجاه مخالف لتقدم التاريخ وتعزز المدنية، ومنظومة المعارف والسلوكيات التى تخاصم «العصرنة» إلى حد بعيد.
وتسعى هذه المقالات أيضا إلى تبديد، ولو جزئيا، بعض الأمور المتعلقة بالنظر إلى أتباع التيار الدينى على اعتبار أنهم شىء واحد، وكل متراص ومتجانس ومتحاب ومتعاون، فهذا محض وهم سيطر على أذهان كثير من المتعجلين والمنافسين والمغرضين، ممن ظنوا أن الحركة الإسلامية، دعوية كانت أم مسيسة، هى نسيج واحد، أو كتلة واحدة صماء، لا فرق بين أجزائها ولا أشتاتها، ويزداد هذا التصور وضوحا وقوة وقت الاستقطاب السياسى الحاد، حين يرى الناس أتباع هذه الحركة مصطفين فى طابور واحد، فيعتقد الناظر إليهم أنهم بنيان مرصوص، وما هم كذلك، لأنهم فى النهاية بشر تتضاربهم الأهواء والمصالح شأنهم شأن غيرهم، لاسيما مع هذا الفصام الكبير بين ما يقال وما يتم فعله.
وفى ظل الشد والجذب يزداد عند عتاة المختلفين فى الرأى والاتجاه مع ما اصطلح على تسميته «الإسلام السياسى» حين يعتبرون أنهم فصيل واحد، وأن ما بينهم من اختلاف أو خلاف ظاهر هو محض توزيع أدوار، أو تعدد زائف فى إطار التوحد والتجانس والتماسك الصارم، الذى يجمع بينهم فى الغاية وكثير من الوسائل وجوانب جلية فى الخطاب. ويروق أحيانا للأجهزة الأمنية أن تضعهم فى «سلة واحدة» وإن كانت تقسمهم لديها فى ملفات داخلية حتى يسهل لها التعامل معهم، بالشدة أو اللين. وهناك من يحيل إلى المنبع أو المصدر الذى ينهل منه الجميع والذى يتماهى ويرتشح ويتمدد فى خطابهم وخطبهم وتخريجاتهم وفتاواهم وآرائهم ومواقفهم ويقول: إنهم واحد وإن ظهروا أو تظاهروا بغير ذلك. وداخل هذا النسيج العريض المتراوح بين «الصوفى الانكفائى» و«السلفى الجهادى» ظلت هناك دوما درجات متفاوتة من التفاعل البينى، أو ذلك الذى يربط كل هؤلاء بغيرهم من الحركات والتيارات والاتجاهات السياسية والفكرية، أو بعوام المجتمع العريض والواسع، الذى يشكل سياقا حاضنا لكل هذه التفاعلات، الذاهبة والآيبة بين ظهور وخفوت، بلا هوادة ولا انقطاع.
وهناك ملاحظة أود ذكرها ابتداء ألا وهى: كل ما سيرد فى هذه السلسلة من المقالات هو دراسة استندت إلى مراجع ومصادر عديدة، تم حذفها لضرورة النشر الصحفى، لكنها سترد بدقة وأمانة وصرامة حين يتم نشر البحث فى كتاب فيما بعد.
وفى الأسبوع المقبل، إن شاء الله تعالى، سأكمل، عزيزى القارئ، على هذا الدرب لأتناول فى البداية: الأسس المعرفية للسلفية، والتى تعتمد على الرواية وليس الدراية، وعلى النقل دون العقل، وعلى العيش فى الماضى دون الالتفات إلى متطلبات الحاضر والاستجابة لها.