لا أوحش الله منك يا شهر الصيام.. لا أوحش الله منك يا شهر القيام.. لا أوحش الله منك يا شهر رمضان.. كلمات رائعة صدح بها صوت المسحراتى فى الشارع الذى أسكن فيه ديروط بلدتى الحبيبة.. كنت وقتها فى السنة الثانية بكلية الطب.
كان المسحراتى يصدح كل عام بهذه الكلمات الرائعة فى آخر رمضان.. ولكنى لم أنتبه لمعنى هذه الكلمات إلا فى هذه الليلة منذ أكثر من 35 عاماً.. بكيت يومها لفراق هذا الشهر العظيم لدنيانا.. من يومها وأنا أتأمل لحظات فراق هذا الحبيب بمزيد من الأسى والحزن والأمل المتجدد فى لقاء قريب فى العام القادم.
فى كل عام يأبى هذا الكريم أن يفارقنا قبل أن يسعد الجميع بلا استثناء.. دخل قلوب وبيوت كل التجار باختلاف أنواعهم فأسعدهم بعد تعاسة وكساد وديون، منهم تجار الملابس والأحذية والمواد الغذائية ومنتجات الألبان.. الجميع واصلوا الليل بالنهار يبيعون ويشترون بعد أن أصاب سلعهم البوار.. وأدخل السعادة أيضاً على العاملين فى شركات السياحة التى وجدت فى المعتمرين عوضاً عن خسائر السياحة التى امتدت لسنوات.. ونشر الفرحة والبسمة على وجوه الفقراء واليتامى والأرامل الذين استطاع معظمهم أن يأكلوا اللحوم فيه كل يوم.
لقد وزعت جمعية مصر الخير وحدها فى شهر رمضان مليون وجبة.. والأورمان وبنك الطعام والجمعية الشرعية ما يقارب هذا العدد.. فضلاً عن ملايين المساجد وموائد الرحمن التى انتشرت فى كل مكان.. وتسابقت فى تقديم أشهى الأطعمة.. وقد تعفف القائمون عليها من ذكر أسمائهم لتكون خالصة لوجه الله.. هى فقط «مائدة الرحمن لضيوف الرحمن» دون منٍّ ولا أذى ولا غرض.
أبى الشهر الكريم إلا أن يسعد الناس جميعاً قبل أن يمضى ويرحل.. ملايين المعتمرين أمضوا أروع أيام حياتهم فى ظلال الحرمين الشريفين الوارفة.. تناسوا هناك ألوانهم وأجناسهم وأفكارهم وأحزابهم وقومياتهم وخلافاتهم وخلعوا كل ذلك وهم يرتدون ملابس الإحرام.
أبت الملائكة أيضاً فى آخر الشهر وفى ليلة القدر إلا أن تنزل إلى السماء الدنيا لتشهد البشر فى ليلة «سَلَامٌ هِىَ» حينما يترفعون عن الدنايا وتسمو نفوسهم ويرتفعون من حضيض الشهوات وتتعلق أرواحهم وقلوبهم بالسماء.. ولا يريد سيدنا جبريل عليه السلام «روح القدس» أن يترك هذا المشهد العظيم دون أن يشهده.. إنهم يسعدون لطاعة الطائعين ويغضبون لعصيان العاصين وبغى الظالمين وفساد المفسدين.
ما أرحمك يا رب بعبادك.. من نحن فى ملكوت الله العظيم حتى ينزل ملائكته الأطهار ليشهدوا يوماً من أيام طاعتنا رغم تقصيرنا طوال العام كله.. إنه الرب الشكور الحليم العفو الكريم.
رسالة شهر رمضان هى «رسالة الإسعاد للجميع».. فهل نتعلم منه هذه الرسالة لنسعد أسرنا وأهلنا وأحباءنا وأصدقاءنا ومجتمعاتنا وأوطاننا وأمتنا.. ولكن رمضان مضى ساخطاً على طائفتين انتهكوا حرمته ولوثوا ثوبه الأبيض وهما الجيش الإسرائيلى والتكفيريون المصريون.
فالجيش الإسرائيلى قتل وجرح آلاف المدنيين الغزاويين وهدم بيوتهم ودمر مساجدهم وانتهك حرماتهم وهم صائمون لا حول ولا قوة ولا نصير لهم ولا سند.. فقد تخلى عنهم الجميع.. ورغم ذلك صبروا وصمدوا وضحوا وبذلوا.
أما التكفيريون فقد انتهكوا حرمة الشهر مرتين.. مرة فى مذبحة رفح الأولى أيام حكم د/.مرسى وأخرى فى مذبحة الفرافرة الثانية.. وفى كلتا المذبحتين أجهزوا على الجرحى الصائمين ودمروا الموقع عن آخره.. ولم يرحموا أحداً من بنى وطنهم.. وكأن الطريق إلى بيت المقدس يمر حتماً عبر جثث جنود الجيش المصرى.. رغم أنه الجيش الوحيد المتماسك حتى الآن فى المنطقة والوحيد وقدم آلاف الضباط شهداء وجرحى.. والآلاف من شهدائه مازالوا مدفونين حتى اليوم فى رمال سيناء.