ما هكذا يكون الرد على أردوجان.. أن نقول عن سباب هذا الرجل إنه «يخالف الأعراف»، فهذا توصيف وليس رداً.. فلماذا لم نقل له بصوت مرتفع: سجلك فى حقوق الإنسان حالك السواد.. اعتقلت مئات الصحفيين وسجنتهم بلا محاكمات.. قمعت الأكراد والأرمن ومارست كل صنوف التنكيل بهم.. فتحت بلادك لتجارة الرقيق، وجعلت بيوت الدعارة إلى جوار المساجد.. تآمرت على الأمة العربية وشاركت فى قتل المسلمين فى ليبيا والعراق وسوريا وغيرها.. نكّلت بمعارضيك وسحقت المحتجين فى بلادك.. لماذا لم نرد عليه بما يستحق، هل ما زلنا نراه الباب العالى؟ الإخوان فى مثل هذا الموقف كانوا أقوى، فحين سقط نظام مبارك كانت جماعة الإخوان تباهى بتجربة حزب «العدالة والتنمية» التركى، ومنه استمدت اسم حزبها «الحرية والعدالة»، لكنها حين شعرت بأنها امتلكت الأرض ومن عليها بفوزها فى برلمان 2012، اعتبرت كلام رجب طيب أردوجان عن «شكل الدولة» ومفهوم العلمانية وعلاقة العلمانية بالدين «تدخلا سافراً» فى الشأن الداخلى المصرى. محمود غزلان «متحدث الجماعة» اتهم الرجل، وقتها، بتهمة لا تستخدم، دبلوماسياً، إلا فى حالة الغضب الشديد من تصريحات معادية.
أردوجان حين زار مصر قال: «الآن فى هذه الفترة الانتقالية فى مصر وما بعدها.. أنا مؤمن بأن المصريين سيقيمون موضوع الديمقراطية بشكل جيد، وسوف يرون أن الدولة العلمانية لا تعنى (اللادينية)، وإنما تعنى احترام كل الأديان وإعطاء كل فرد الحرية فى ممارسة دينه.. وأن 99% من السكان فى تركيا مسلمون، وهناك مسيحيون ويهود وأقليات، لكن الدولة فى تعاملها معهم تقف عند نفس النقطة، وهذا ما يقره الإسلام ويؤكده التاريخ الإسلامى»، وتابع: «لذا على المصريين ألا يقلقوا من هذا الأمر، وعلى المناط بهم كتابة الدستور فى مصر توضيح أن الدولة تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، وتكفل لكل فرد ممارسة دينه.. والعلمانية لا تعنى أن يكون الأشخاص علمانيين، فأنا مثلا لست علمانياً، لكننى رئيس وزراء دولة علمانية». كان أردوجان يعلم أن كلمة «علمانية» تثير «عواصف» من الغضب فى الشارع المصرى المتمسك بشكل الإسلام لا جوهره، فلماذا قالها؟ كان الرجل يأمل فى أن تراه أوروبا «سيداً» فى الشرق، وأنه يدعو لـ«العلمانية» فى قلب العالم الإسلامى. كان يريد أن يظهر أمام أوروبا بمظهر الملهم والمبعوث لهداية الشرق.
كان كلام أردوجان وقتها كمن أشعل شمعة وسط غرفة مليئة بالقش والظلام، لا الظلام تبدد ولا القش بقى على حاله. كان يسعى لأن تبقى مصر أسيرة للصراع ورهينة التخلف، كى تعود تركيا العظمى، ويعود مشروعها الاستعمارى الذى لن ينجح إلا بتمزيق مصر. فشل كل ذلك وسقطت «الجماعة»، التى راهن عليها أردوجان رغم أنها كانت قد طردته، تقريباً، مع أول زيارة له لمصر، لكن أردوجان لم يغضب فقد وجد ضالته فى جماعة الإخوان. تبدل الحال وتغيرت اللهجة وارتعب أردوجان، فقد أسقطت مصر مشروعه العثمانى، ومست موقعه داخل دولته، وذكّرته بعقدة حياته حين ظهر جيش وطنى قادر على صد مؤامرات حيكت فى ليل.
سقطت «الخلافة العثمانية الجديدة»، التى كانت تسعى لأن تحولنا إلى مجرد تابعين للباب الأردوجانى مثلما كنا عبيداً للباب العالى، ولا بأس إن تم ذلك باسم الإسلام وتحت رايته، فقد سُمى الاستعباد العثمانى «خلافة إسلامية»، وسُميت الجباية خراجاً وزكاة، وأصبحت العبودية طاعة لأولى الأمر.
تركيا واحدة من أسوأ دول العالم فى ملف حقوق الإنسان تعذيباً واعتقالاً وتمييزاً بين الأعراق المختلفة، ويكفى أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أدانت تركيا فيما يقرب من ألفى حكم عن انتهاكات لحقوق الإنسان خلال السنوات العشر الأخيرة، فمن أين تستمد قوتها؟ قوة تركيا تأتى من كون حكومتها «كلب أوروبا» لحراسة البوابة الروسية، ودب أمريكا الجاثم على قلب الشرق. أى أن الموقع الجغرافى و«الدجل الأردوجانى» تماهيا مع مصالح أوروبا وأمريكا ضد «روسيا» العدو التقليدى.
أردوجان، الذى لا يعرف دستور بلاده كلمة إسلام مع أن 99% من الشعب يدينون بالإسلام، يتحدث باسم جماعة ترى نفسها حاملة للرسالة.
أردوجان، الذى تضاعفت فى عهده تجارة «الدعارة» عشرات المرات، يتحدث باسم الإسلام. أردوجان الذى يعد سجل بلاده فى حرية التعبير هو الأسوأ عالمياً يتحدث عن الحرية. أردوجان الذى يمارس شتى صنوف التمييز ضد الأكراد والأرمن يتحدث عن حقوق الأقليات.
أردوجان يهاجم إسرائيل ويضاعف من حجم التبادل التجارى بين الدولتين كل شهر.
أنا لا ألوم أردوجان على شىء، فالرجل مخلص لمشروعه، ولا ألوم من صدّقوه وقلّدوه، فالجهل مرض، لكننى ألوم القائمين على أمر الدولة المصرية الآن، الذين لم يفعلوا مع أردوجان كما فعل الإخوان. ألوم الدولة المصرية على عدم تدخلها مباشرة فى الشأن الداخلى التركى عن طريق دعم حقوق الأرمن وتقديم قضيتهم دولياً، وكذلك طرح الجرائم التى تُرتكب فى حق الأكراد، وانتهاك تركيا حرية الرأى بحبس مئات الصحفيين ومعظمهم دون تهم.
هذا أمر إنسانى وأخلاقى وليس فيه ضرب تحت الحزام كما تفعل تركيا، فدولة أردوجان تمارس شتى صنوف الجرائم ولا تجد سوى الصمت العالمى.. فضح تركيا، ودعم الأقليات فى تركيا مطلب وطنى، ورد عملى على حروب أردوجان ضد مصر.