هناك أمران أود طرحهما في هذه القضية :
أولا : سرعة تعاقب الأحداث في أوكرانيا و القرم فاجأني صراحة، وأضن أن بوتين شعر بالإهانة و أنه طعن في الظهر فبعد أن كان منشغلا و كل روسيا معه بالأعاب الشتوية بسوتشي بعد أن وصلته معلومات بوجود تهديد أمني على الألعاب ما جعل كل تا‘هنمام منصب على الألعاب وحماية الوفود و المنشئات، كان الغرب يطبخ عملية انقلاب في أوكرانيا ضد حليفه هناك ما ادي إلى إسقاطه و فراره مرغما، و هذا ما جعل بوتين في نظري ينتقم بضمه شبه جزيرو القرم بكاملها لجكهورية روسيا الفديرالية، نعم العمل يحمل الكثير من المخاطر لكن الدول العظمى تجيد اللعب في هذه الظروف لما تمتلكه من إمكانيات عسكرية و مادية و سياسية.
ثانيا : و هو ما يخيفنا فعلا، مدى تأثير هذا التحرك الروسي على ما يحدث في سوريا فقد بدأت تظهر أخبار و تلميحات من أن أمريكا قد تنتقم من روسيا بضربها في سوريا سواء بتدخل عسكري وإن كان محدود و إما بتصعيد الاوضاع العسكرية في الميدان والجميع يعرف كيف يتم ذلك... وهذا ما ليس فس صالح سوريا ولا الدول العربية المحيطة بها و لا المنطقة ككل و قد يؤدي لما لا يحمد عقباه و ما لا أتمناه.
كان سقوط الحكومة الاوكرانية ، واستبدالها بحكومة اخري لها تواجهات ناحية الغرب ، هزيمة كبري للاتحاد الروسي ، فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، كان علي روسيا ان تتقبل الوافع الجديد المتمثل في ان دول اوروبا الشرقية والتي كانت تابعه لها ونالت استقلالها سيتم استيعابها في النظم الاقتصادية والسياسية الغربية ، وقالت موسكو ان هذه الجمهوريات ستصبح منطقة عازلة محايدة ولن تسعي لاستيعابها ، وربما كان من الممكن ان يكون ذلك وعدا متبادلا بين موسكو من ناحية وواشنطن وبقية عواصم دول حلف الناتو من ناحية اخري ، ولكن اصبح ذلك كله بلا معني علي الاطلاق ، عندما تم قبول دول البلطيق كأعضاء في حلف شمال الاطلنطي " ناتو " والاتحاد الاوروبي ، فكانت النتيجة النهائية ان الناتو الذي كان يبعد قبل هذا الانضمام 1000 ميل اي 1600 كم من " سان بطرسبرج " المدينة الروسية المهمة ، اصبح الان يبعد فقط اقل من 160 كم عنها .
ومع ذلك ظلت بيلاروسيا واوكرانيا حواجز بين اوروبا والاتحاد الروسي ، فمن اقرب النقاط في اوكرانيا سنكون بعيدين عن موسكو بمسافة حوالي 480 كم ، ومع ذلك فأن مدينة سمولينسك التي كانت قديما احدي مدن العمق في الاتحاد السوفيتي قد تصبح الان مدينة حدودية ، كل ذلك يتعارض مع الاستراتيجية الروسية التاريخية والتي بنتها روسيا علي مر السنين بأن تملك عمقا كبيرا ، فأنتقلت بقدر مايمكنها الي الغرب ، وهذا العمق الكبير كان فعليا رادعا للعديد من المغامرين علي مر التاريخ مثل نابليون وهتلر ، وكان احد اسباب فشل غزواتهم ، وبفقدان اوكرانيا كحاجز فأن روسيا ستفقد جزء كبيرا من هذه الاستراتيجية والتي اثبتت نجاحها كما اوضحنا علي مر الايام .
بينما في الناحية الاخري وبالمقابل في الدول الغربية فأن الحديث يدور حول رفض المخاوف الروسية ويعتبرونها قديمة بالية ، لا احد الان يرغب في غزو روسيا ، بل لا احد يمكنه ان يغزو روسيا ، هذه الاراء التي يبدو انها اراء متطوره ومتماشية مع الواقع فعليا مصابه ايضا بعيب انها اراء تبسط الامور ، فتقييم التهديدات يمكن ان يتغير ، يتغير وبشكل سريع ، بل وسريع جدا ، ويمكننا هنا ان نضرب المثالين التاليين : " الاداء والموقف الامريكي في الحرب العالمية الاولي ، الوضع بالمانيا في الثلاثينيات " هذين المثالين يظهران مدي سرعة التغيير في القدرات والتهديدات ، ففي المثال الاول نري انه في العام 1916 كان الرئيس الامريكي وقتها " وودرو ويلسون " يقود حملة مناهضة لاي تدخل امريكي في الحرب العالمية الاولي فالبلد كان لايملك مؤهلات كافية وقتها ، ولكن في العام التالي مباشرة 1917 كان الرحل نفسه لديه اكثر من مليون جندي يقاتلون في اوروبا ، بينما في المثال الثاني نري المانيا في العام 1932 في حالة فوضي عسكرية واقتصادية ، ولم يحل العام 1938 حتي أصبحت القوة العسكرية الاكبر والاقوي والاكثر رعبا في اوروبا ، ، وفي العام 1941 كانت الجيوش الالمانية تقف علي ابواب موسكو .
وبالتالي فأن وجهة النظر الروسية وان كانت متشائمة ، فهذا التشاؤم معقول الي حد ما ، فانها ان خسرت اوكرانيا او بيلاروسيا فستخسر عمقها الاستراتيجي ، هذا العمق الذي يمثل جزء كبيرا من قدرة روسيا عن الدفاع عن قلبها ، واذا كانت مقاصد الغرب غير معادية كما يقولون فلما كل هذا التلهف لرؤية نظام جديد في اوكرانيا ؟ ، هل قد يكون ذلك بسبب الحب الغربي العميق للديموقراطية الليبرالية ؟ ، ولكن وجهه النظر الروسية ان علي موسكو ان تفترض دوافع اكثر خبثا تحرك الغرب .
وبصرف النظر تماما عن مسألة الغزو ، والتي تبدو بشكل واضح انها بعيدة جدا عن ارض الواقع ، فأن هناك قلق روسي ينصب الي تحول اوكرانيا الي المعسكر الغربي ، والذي قد يصبح وباء ينتشر وتصيب العدوي اجزاء من الاتحاد الروسي نفسه ، وهذا ليس ببعيد فلقد ظهرت خلال عقد التسعينات من القرن الماضي العديد من الحركات الانفصالية داخل روسيا ، والشيشان وماحدث فيها مثال بارز ، والعالم كله يعرف بقية قصة محاولة الانفصال في الشيشان عن الاتحاد الروسي ، ولم تكن الشيشان بمفردها فكان هناك حديث انفصالي اخر ظهر في كاريليا شمال غرب روسيا ، وفي مناطق المحيط الهادي .
كل ذلك ان كان من الممكن تصوره في عهد " بوريس يلتسين " فلايمكن تصوره ابدا في عهد " فلاديمير بوتين " ، ذلك الرجل الذي بني استراتيجية بناء قوة روسيا من جديد بطريقة معتدلة ولكنها منتظمة ، وبهذه الطريقة يمكنه وان حقق تقدما متواضعا ببلاده ، فأنه سيظهر امام العالم بأنه قد حقق تقدما كبيرا ، فمن وجهه نظره روسيا لاتستطيع ان تبقي في موقف دفاعي ، ومن يحيطون بها في قمة القوة ، فأستخدم صادرات الطاقة لتعزيز قوة بلاده ، وقرر ان يستغل ضعف اوروبا الحالي وانشغال الولايات المتحدة بالشرق الاوسط ، وخلق بالفعل شعور في العالم بأسره بقوة روسيا المتزايدة ، وبالداخل فقد انهي بنجاح اي اصوات داخل روسيا قد تطالب بالانفصال ، وعمل علي خلق انظمة حكم في كل من بيلاروسيا واوكرانيا تعمل في اطار السياسة الخارجية الروسية ، وذهب الي ابعد من ذلك فوضع قدما قوية في الشرق الاوسط وتحديدا في الازمة السورية حيث اجبر الولايات المتحدة علي التراجع وعدم تنفيذ ضربة عسكرية ضد سوريا .
وليس من الواضح ماحصل مؤخرا في كييف ، فلقد كان هناك العديد من المنظمات التي تمول من اوروبا وامريكا وانفقت من اجل عزل الحكومة المؤيده لروسيا هناك ، والحقيقة انه ليس مهما اذا كان مايقوله الروس حول ان هذه المنظمات هي التي خططت لاثارة الانتفاضة ضد نظام الرئيس السابق " فيكتور يانوكوفيتش " ، او ان هذه الانتفاضة كانت نتيجة لتحرك سكان اوكرانيا ضد النظام بدوافع داخلية ، فما يهم بشكل اكبر هو حقيقة ان الرئيس يانوكوفيتش كان رافضا للتوقيع علي اتفاقية تقرب بشكل كبير بين اوكرانيا والاتحاد الاوروبي ، قبل ان تندلع المظاهرات ضده وتحدث اعمال عنف ، وعزلت الحكومة المؤيدة لروسيا وجاء بدلا منها الحكومة الموالية علنا للغرب ، هذا التحول فعليا هو مايهم .
وموقف كهذا لايمكن ان يتركه الروس يمر ببساطة ، ليس فقط من اجل ان هذا خلق وضع جيوسياسي جديد شرحنا مخاطره بالاعلي ، بل لان موقف مثل هذا سيجعل بوتين علي المدي الطويل سيظهر داخل روسيا بمظهر الضعيف ويفتح ابواب عدم الاستقرار داخل روسيا وربما يصل الامر الي حد انفصال بعض المناطق يوما ما ، لذا كان علي الروس الرد ولكن السؤال الذي كان يدور في اروقة صنع القرار في موسكو هو " كيف يمكننا الرد ؟ " .
الردود الروسية المحتملة :
الخطوة الاولي كانت اضفاء الصفة الرسمية علي ماكان سابقا " حقيقة واقعة " ، فكانت من ضمن الحقائق الواقعة في تلك المنطقة من العالم ان شبة جزيرة القرم تقع ضمن دائرة النفوذ الروسي ، وان القوة الروسية العسكرية المتمركزه في القرم بموجب المعاهدات يمكن لروسيا من خلالها ان تسيطر علي شبة الجزيرة متي رغبت في ذلك ، ولم يكن المفتاح الرئيسي للعملية هو الحفاظ علي ميناء " سيفاستوبول " وهو القاعدة البحرية العسكرية الروسية الاهم في مسرح عمليات البحر الاسود والبحر المتوسط ، بل كان ان هذا تدخل منخفض التكاليف ومنخفض المخاطر ، ومن شأنه ان يوقف اي نزيف لسلطة روسيا في هذه البقعة المهمة ، بل بالعكس لقد ظهر الروس بمظهر الفتوة المنتصر ، وكانت تلك بالضبط هي الصورة التي يريد بوتين ان يظهر بها بلاده في هذه اللحظة .
عدة خيارات متاحة حاليا لروسيا :
اولا : ان بامكانها ان تفعل شئ اضافي ، فالحكومة الحالية في كييف منقسمة الي حد كبير ، ومن الممكن ان يعمل النفوذ الروسي المتبقي في العديد من الاماكن هناك مع المال والانشطة السرية لاعادة الحالة في اوكرانيا كما كانت من قبل ، اي الي وضعية " الحياد " ، هذه السياسة اثبتت نجاعتها مع الروس من قبل حيث استخدموها عقب اندلاع " الثورة البرتقالية " في العام 2004 ، ولكن يعيب هذه الطريقة انها ستحتاج الي وقت كبير ، وروسيا تحتاج حاليا ان تثبت لمواطنيها وللعالم اجمع قوتها ، وعلاوة علي ذلك فأنه اذا سارت الامور في مجراها الحالي واستقلت القرم عن اوكرانيا ، فأن الكتلة السياسية المؤيدة لروسيا في اوكرانيا ستضعف ، وستفقد الكتلة المؤيدة لروسيا نسبة كبيرة من الكتلة التصويتية التي كانت لها في جميع الانتخابات التي كانت تجري في اوكرانيا ، ولكي نقرب الامر أكثر فلنا ان نضرب مثالا بانتخابات 2010 والتي فاز فيها حليف روسيا المعزول يانوكوفيتش علي منافسه " يوليا تيموشينكو " وسنجد ان فارق الاصوات كان اقل من مليون صوت .
ثانيا : غزو اوكرانيا ، ولكن هذا الحل يعيبه ثلاثة امور رئيسية ، الامر الاول ان اوكرانيا دولة ذات مساحة شاسعة ، وسيحصل الجيش الروسي علي مقاومة للغزو ، وبالتأكيد فأن روسيا لن تكون سعيدة بضم اوكرانيا وصارت حدودا لها ولكن الاضطرابات ومحاولات الانفصال لن تتوقف خصوصا في الغرب حيث تتركز الجماعات الموالية للغرب ، الامر الثاني ان غزو اوكرانيا من الناحية " الجيوسياسية " سيشكل تغييرات رهيبة ، فأننا نتحدث في هذه الحالة عن استيلاء روسي علي الاراضي الاوكرانية الي الشرق من نهر " دنيبر " ، وذلك سيجعل القوات الروسية تقف علي حدود مباشرة مع دول حلف الناتو ودول اعضاء في الاتحاد الاوروبي ، الامر الثالث انه باستقلال القرم وخفض نسبة المؤيدين لروسيا في قوة الناخبين الاوكرانية فأن ذلك سيخلق حكومة فعالة مضادة لروسيا في اوكرانيا .
ثالثا : انها من الممكن ان تبرز قوتها ، ولنا مثال سابق في العام 2008 عندما قامت بغزو جورجيا ، لقد كانت عملية ناجحة فعليا لروسيا حيث تغييرت الحسابات في كييف وعواصم اخري في هذه المنطقة ، حينما ذكرهم الروس بحقيقتين ، الحقيقة الاولي ان القوة الروسية موجوده ، الحقيقة الثانية ان الاوروبين لايملكون قوة بتاتا هنا والامريكيين بعيدين ، وخلقت تلك الحرب ضغط روسي علي بلدان القوقاز والبلطيق ومولودوفا ، ويمكن ايضا في هذا الحل ان تقوم روسيا باستخدام الاقليات الروسية داخل دول حلف شمال الاطلنطي هناك لخلق اضطرابات تنقل ملعب الاضطرابات لتجري مبارياته علي تلك الاراضي .
رابعا : تقديم حوافز ومغريات لدول اوروبا الشرقية ووسط اوروبا ، فدول شرق ووسط اوروبا من بولندا الي بلغاريا يدركون جيدا ان عليهم اجراء تغييرات علي رهانهم علي دول اوروبا ، فالدول الاوروبية الان تعاني من الازمة الاقتصادية ، ولقد أثرت هذه الازمة علي العلاقات السياسية والعسكرية بين الطرفين ، فهناك حاليا تخفيضات هائلة في الانفاق العسكري الاوروبي ، وبالتالي ازالة خيارات عسكرية كانت مطروحة يوما ما ، ودول الوسط الاوروبي تحديدا الان تعاني من عدم الارتياح ، خاصة ان الازمة الاوروبية الاقتصادية جعلت تركيز اكبر القوي السياسية في الاتحاد الاوروبي علي مشاكل " منطقة اليورو " ، والعديد من هذه الدول ليست اعضاء في منطقة اليورو وبالتالي لاتحظي بغالبية الاهتمام الاوروبي ، والروس فعليا بدأو في تنفيذ حركة " امبريالية تجارية " ولاسيما في جنوب بولندا ودخلت في تعاملات تجارية زادت من نفوذها هناك وحلت بعض المشاكل الاقتصادية هناك ، وبشكل عام يمكن ان تستغل روسيا احتياطياتها المالية الكبري لتحييد دول اوروبا الوسطي .
خامسا : واخيرا يمكن لروسيا ممارسة ضغط علي الولايات المتحدة من خلال خلق مشاكل في المناطق الحرجة ، ويمكن ان نعتبر ايران من اكثر هذه المناطق الحرجة وضوحا ، وفي الاسابيع الاخيرة ، عرضت روسيا علي ايران بناء مفاعليين نووين جديدين للاغراض المدنية ، ويمكن وبهدوء ان تقوم روسيا بتطوير الامر لتوفير دعم تكنولوجي لبرامج نووية عسكرية بايران ، وهي خطوة ان تمت ستقوم ايران فورا بقطع اي مفاوضات مع الولايات المتحدة ، وهو ماسيذهب بكل الجهود ورأس المال الذي انفقه الامريكيين علي هذا الملف ادراج الرياح ، ولكن موقع الروس حاليا يمكنهم من نسف ذلك كله ، خصوصا ان ذلك كله سيشكل للايرانيين ورق ضغط علي امريكا اثناء المباحثات ، وفي احتمال اخر اكثر تطرف قد تساعد روسيا النظام الضعيف في فنزويلا ، وفنزويلا في مكان جغرافي تستطيع من خلاله روسيا ان تؤذي الولايات المتحدة ، ولكن السؤال هل الوضع الحالي مناسب لبدء تعريض امريكا لمخاطر كتلك .
وكانت الاستراتيجية الامريكية-الاوروبية للتحكم في روسيا والضغط عليها ، هي فرض عقوبات علي روسيا الاتحادية ، ولكن المشكلة انك لاتتحدث عن اقتصاد عادي فروسيا هي ثامن اقوي اقتصاد في العالم ، وهناك تشابك في الموارد المالية بينها وبين الدول الغربية ، وهناك تشابك اقتصادي بين الطرفين ، وبروسيا العديد من المؤسسات والشركات الغربية تستثمر اموالها هناك ، وهناك معدات غربية بمشروعات روسية كبري ، والعديد من رجال الاعمال يملكون حسابات مصرفية ضخمة بالبنوك الروسية ، وبالتالي قد تأتي العقوبات بنتائج عكسية ، ولنضف الي ذلك ان روسيا هي الاخري يمكنها فرض عقوبات قد تكون اكثر تأثيرا فيمكن للروس ان يقطعوا الغاز الطبيعي وشحنات البترول ، وان كان هذا بطبيعة الحال سيضر بشأن روسيا ماليا ، ولكن الضربة سيكون تأثيرها رهيب علي اوروبا بل علي اسواق النفط العالمية ، وستكون ذات تأثيرات مفاجئة ويصعب السيطرة عليها ، وقد يجادل البعض ان موارد الطاقة في امريكا وان يجد الاوروبين موارد طاقة بديلة سيحل هذه المشكلة ، ولكن الميزة التي في يد الروس ضد هذا الجدل ان هذه حلول تحتاج الي سنوات لتنفيذها ، ولن تطيق اوروبا صبرا لسنوات بأي حال من الاحوال ، ولذا فأن من المعقول ان نجد ان عقوبات "" رمزية "" قد يستطيع الغرب من خلالها ان يجعل الاقتصاد الروسي يجثو علي ركبتيه دون اضرار كبيرة يتحملوها هم .
ومن الارجح ان الروس سيتبعون استراتيجية عبارة عن مزيج من كل ماسبق ذكره ، فسيقوم الجيش الروسي بالحشد علي الحدود مع اوكرانيا وربما ببعض التوغلات البسيطة داخل الاراضي الاوكرانية ، العمل علي خلق الاضطرابات في المناطق التي تعيش فيها اقليات روسية كدول البلطيق والقوقاز ومولدوفا ، والعمل علي استراتيجية منع دول اوروبا الشرقية من التكتل في كيان واحد ، ومن المرجح التدخل في الاماكن التي تعتبرها الولايات المتحدة حساسة في تلك المنطقة ، وفي نفس الوقت ستكون الحكومة الاوكرانية تضعف وتنهار .
نظرة الغرب المضادة :
وبين كل هذه الامور هناك سؤالين ، ماهو الموقف الذي ستتخذه السياسة الخارجية الالمانية ؟ فبرلين حتي الان كانت داعمة لما حدث في اوكرانيا وعارضت في العديد من الاحيان ردود الفعل الروسية ، ولكن بشكل أكثر واقعية فبرلين ليست في موقع يمكنها من الذهاب الي ابعد من ذلك ، فحتي الان حاولت المانيا ان يتخطي الاوروبيين والروس مشاكلهم وان يعملوا جميعا في وحدة واحدة لمصلحة الجميع ، ولكن الغرب يقول ان الروس يجب ان يكونوا واضحين تماما ، واذا تجاهلت المانيا تلك الامور وتجاهلت ماتفعله روسيا فأنها ستواجه مشكلتين ، الاولي : انها ستفقد ثقة دول اوروبا الشرقية وخاصة بولندا الهائلة فيها كحليف مهم في حلف شمال الاطلنطي يمكنه دعمهم اذا ثارت مشاكل في البلطيق ، الثانية : انها ستكون مضطره لمواجهة فجوة سياسة خارجية استثنائية في اوروبا ، ففي هذه الحالة ستنقسم اوروبا الي قسمين الاول هي الدول التي بالقرب من روسيا والتي ستعاني من القلق والخطر والتهديد الدائم ، والثاني هي دول بعيدة عن روسيا كاسبانيا ستكون في حالة اطمئنان ، اذن اوروبا ستصبح غير موحده ، والاستراتيجية الالمانية تبني علي اساس كون اوروبا موحده .
السؤال الثاني وهو موجه للولايات المتحدة ، لقد تحدثنا عن استراتيجية توازن القوي ، ولكن هناك استراتيجية "" الطاقة "" ، فبعد ان اختار الامريكيين المشاركة في اسقاط النظام الاوكراني الموالي لروسيا وانشاء نظام جديد موالي للغرب ، لم يكن من الممكن ان يفلتوا بفعلتهم فهناك عواقب حدثت نتيجة لذلك ، فالمسألة ليست نشر قوات امريكية كبيرة هناك ، بل سيكون علي امريكا التزام بامداد دول اوروبا الوسطي من بولندا الي رومانيا بمعدات وتكنولوجيا تستطيع من خلالها تلك الدول ان تثني روسيا عن اي مغامرات خطرة ، وتقنع شعوب تلك الدول انهم ليس بمفردهم وان امريكا بجوارهم ، فهل ستقوم امريكا بذلك ؟ .
وتكمن المفارقة في ذلك : ان هناك خط حيوي للولايات المتحدة في هذه المنطقة يشكل " خط احتواء لروسيا " ، هذا الخط من الامور البعيدة المنال ان نتصور ان الروس سيتجاوزوا محاولة القيام بأنشطة تجارية في هذه المناطق ، ومن الجهه المقابلة لايتوقع من دول حلف الناتو او اوروبا ان تتوسع في امور بالداخل الاوكراني قد تشكل تهديد للامن القومي الروسي ، ولكن المشكلة ان التاريخ ملئ بالحوادث التي كانت وقت الحديث عنها بعيدة المنال ولكنها تحققت واصبحت علي ارض الواقع ، وفي الواقع ان الروس حاليا لديهم الفرصة الاقل للمناورة مقارنة بالطرف الاخر ولكن كل شئ الان علي المحك فالروس يخططون للاسوأ ويسعون لمستقبل افضل لهم .
وبالنسبة للولايات المتحدة فأن خلق توازن اقليمي للقوة في هذه المنطقة امر بالغ الاهمية ، وبطريقة مثالية فأن الالمان سيسعون لتحقيق ذلك الهدف الامريكي بالتعاون معها ، ولكن المانيا لها علاقة قريبة جدا لروسيا ، واي خطة امريكية ستنطوي علي مخاطر ، ومن المرجح ان برلين ستفضل تجنب تلك المخاطر ، والسيناريو الامريكي قد يرتكز علي دول " مجموعة فيسيغراد " التي تضم كل من التشيك ، المجر ، بولندا ، وسلوفاكيا ، هذه الدول وبضم رومانيا اليها ودعمهم امريكيا سيمثل حلا منخفض الكلفة للامريكيين ويخلق واقع جديد غير مطمئن لروسيا ، وان كان يعيب ذلك الحل ان ردة الفعل الروسية لن يكون من الممكن التنبؤ بها ، وسيجري ذلك بدعم تلك الدول واوروبا عموما في مواجهة الامبريالية التجارية الروسية واستبدالها بنظيرتها الامريكية ، في وقت تجاهد اوروبا للحفاظ علي اقتصاديات تلك الدول .
وهذا الحل هو الحل الاستراتيجي الامريكي المعتبر منذ العام 1939 والذي يتكون من " الحد الاقصي من المساعدات العسكرية والاقتصادية " و " الحد الادني من التدخل العسكري" ، وبهذه الاستراتيجية وبتلك الطريقة انهي الامريكيين الحرب الباردة بطريقة افضل بمراحل شاسعة مما لو كانوا قد تدخلوا فيها فعليا ، وعلينا الان ان ننتظر التحرك الروسي المقبل ، فلننتظر فربما يفاجئ الروس الجميع ولايفعلون شيئا