خطوة هائلة تلك التى خطتها مصر من حالة التمرد والثورة على الماضى وهدمه إلى حالة بناء الجديد الذى هو الهدف الحقيقى من الثورة، فالجماهير التى نزلت فى 25 يناير وما تلاها لإسقاط حكم مبارك، ثم نزلت ثانياً فى 30 يونيو لإسقاط نظام الإخوان، هى نفسها التى حين جاء وقت البناء نزلت مرة أخرى لتقر الدستور الذى هو أولى خطوات إقامة النظام البديل للدولة القديمة، والذى يقوم على مبادئ الثورة من الحرية والديمقراطية إلى العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
ومن الغريب أن بعض جماعات الاحتجاج التى لاقت شعبية كبيرة وقت التمرد والثورة، حتى كان لها دور فعال فى قيادة الجماهير لإسقاط النظام القديم، لم تستطع استيعاب متغيرات المرحلة وظلت أسيرة لأساليب الاحتجاج القديمة، ففقدت صلتها بالجماهير وبدت متخلفة عن متطلبات المرحلة الجديدة.
إن جماهير الشعب تخطت النخبة السياسية حين تحركت فى ميدان التحرير، فطورت المطالب الإصلاحية الأولى ليصبح الشعار الذى جسد مطلبها هو «الشعب يريد إسقاط النظام»، وتخطت النخبة مرة ثانية حين نظمت حملة «تمرد» التى جسدت حالة الرفض الشعبى لحكم الإخوان وأدت فى النهاية لإسقاطه.
إن هذه الجماهير ذاتها هى الآن التى تخطت جماعات الاحتجاج التى لم تستطع التكيف مع مرحلة ما بعد 30 يونيو، فلم تشارك فى أولى خطوات البناء وعمدت لتصعيد سلبيات الممارسة كى تبرر رفضها عملية إعادة البناء برمتها. إن تقدم الجيوش فى الحروب لا يكون سهلاً ممهداً، إنما هو يقابل بالضرورة الكثير من العثرات التى قد تؤدى إلى ارتكابها الأخطاء، لكن استغلال تلك الأخطاء لرفض التقدم من أساسه ينم عن سذاجة سياسية غير مقبولة، وهو فى حالة الحرب يرتقى لمرحلة الخيانة.
إن مصر تقوم الآن بإعادة بناء نفسها من خلال إقامة نظام مدنى يقوم على الدستور الجديد، وتكتمل شرعيته بانتخابات ديمقراطية رئاسية ثم برلمانية، والتخلف عن هذا الركب التاريخى العظيم، مثلما كتب نهاية فلول النظامين السابقين، قد يكتب أيضاً نهاية بعض الحركات السياسية التى احترفت الاحتجاج وحده، ولم يعد لها جدوى ونحن نتكاتف لبناء المستقبل المشرق الذى من أجله قامت الثورة.