التصويت في الاستفتاء الدستوري المقبل ليس مجرد تصويت في استفتاء على دستور أو حتى تعديلات لدستور سابق ، وإنما هو تصويت على النظام الجديد كله ، بمعنى أن رفض الشعب من خلال تصويت حر وشفاف ونزيه لمشروع الدستور الجديد يعني تصويتا ضد كل ما فعله الفريق السيسي ، وضد الرئيس الجديد والحكومة الجديدة ، سيكون إحراجا سياسيا ودستوريا خطيرا للجميع ، وهو نصر معنوي ودستوري كبير لحكم الرئيس المعزول محمد مرسي ، ليس هذا فقط ، بل إنه حتى لو مر هذا الدستور ولكن بنسبة تصويت أقل مما حصل عليه دستور محمد مرسي فهذا يعني هزيمة ديمقراطية وإضعاف لشرعية النظام الجديد أيضا أو تهميش لقيمتها ، كذلك فإن التصويت على الدستور الجديد سيكون ـ في بعض جوانبه ـ تصويتا على الفريق السيسي نفسه وفرص ترشحه لرئاسة الجمهورية ، لقد قالوا أنه في الثلاثين من يونيو الماضي خرج أكثر من ثلاثين مليون مواطن تأييدا للسيسي ولعزل مرسي وتعديل الدستور ، حسنا ، ماذا لو لم يخرج سوى عشرة ملايين فقط أو أقل للتصويت على الدستور الجديد ، ومن ثم نحن بحاجة إلى استعراض للخريطة السياسية الحالية للقوى السياسية في مصر ، بين قوى الموالاة للنظام الجديد وقوى المعارضة له ، إن صح التعبير ، لمعرفة طبيعة موقف كل قوة من الاستفتاء الدستوري المقبل وحساباتها ومدى الانقسام في كل معسكر على حدة . إذا نظرنا إلى المؤيدين للتحول الذي تم في 3 يوليو وعزل محمد مرسي وتنصيب حكومة مؤقتة ورئيس مؤقت ، فإن هذا المعسكر فيه أربعة أطياف رئيسية ، الأول طيف القوى الثورية التي فجرت ثورة يناير ودافعت عنها ودخلت في صدام عنيف مع المجلس العسكري الأول ومع الإخوان في سبيل الدفاع عنها ، وهي تجمعات وائتلافات وحركات عديدة ومتشعبة ، والطيف الثاني هم فلول نظام مبارك والقوى المحسوبة على رجال أعمال مبارك والتي تنظر بثأر سياسي مع ثورة يناير وتأمل في عودة النظام السياسي لما كان عليه ، والطيف الثالث هم الأحزاب والقوى السياسية التقليدية ، سواء منها ما هو منحدر من عصر مبارك أو ما توالد في مرحلة ما بعد ثورة يناير ، والطيف الرابع هو حزب النور السلفي ، وفيما يخص الطيف الأول وهم القوى الثورية فالذي يبدو من حواراتهم ومواقفهم أنهم لا يقتنعون بالدستور الجديد والتعديلات التي أدخلت فيه وخاصة المواد التي تتعلق بمحاكمة المدنيين عسكريا والسلطات المغالى فيها لرئيس الجمهورية ، وقد أضيف لهذا القلق الحملات الأمنية ضدهم التي اتسعت مؤخرا والصدامات في الشوارع وتحويل عدد كبير من قياداتهم للمحاكمات بشكل متعسف وفيه شهوة القمع وكسر الإرادة واضحة ، ولذلك غالب الظن في هذه المجموعات أنها ستقاطع الاستفتاء على الدستور وبعضهم ربما يصوت ضده ، الطيف الثاني وهم فلول نظام مبارك وهؤلاء يبدون قلقا كبيرا من مشروع الدستور الجديد لأنهم يعتبرون أن من صاغوه هي قوى محسوبة على ثورة يناير في الأساس كما أن الصيغة التي انتهى إليها فيها تجاوز واضح للأوضاع السياسية التي كانت سائدة قبل ثورة يناير بما يهدد مصالحهم وعلاقاتهم المستقبلية بالمؤسسات العسكرية والأمنية لأنه يعطي مساحة مشاركة ليست قليلة للبرلمان المنتخب في إدارة شؤون الدولة ، ولذلك لا يخفي هؤلاء هجومهم على ورقة الدستور الجديد وإن كان قطاع منهم يؤيده كموقف ضد دعوات الإخوان للمقاطعة ، وهذا الطيف غالبا سيكون منقسما على نفسه بين إسقاط الدستور الجديد أو التصويت لصالحه ، الطيف الثالث وهي الأحزاب التقليدية ومنها ما ولد بعد ثورة يناير ، وهي قوى متنوعة ليبيرالية ويسارية وناصرية ، ترى في تمرير الدستور الجديد نجاة من خطرين ، خطر عودة الإخوان ـ في تقديرهم ـ إذا انهارت المنظومة الجديدة ، وخطر الهيمنة العسكرية الصريحة إذا فشلت خارطة الطريق واستجاب الجيش لإغواء السيطرة المباشرة على السلطة لفترة انتقالية طويلة ، وهذه الأحزاب والقوى قلقة من المؤسسة العسكرية في الحقيقة ـ وإن كانت تؤيدها بحماس في العلن ـ فهي تخاف تغولها ولكنها تراها حصنا يحمي من خطورة الإخوان وشركائهم ، وهؤلاء أكثر الناس حماسة لتمرير الدستور الجديد باعتباره ينتهي إلى دولة نصف مدنية على الأقل ، أفضل مما عليه البلاد الآن ، والطيف الرابع حزب النور فمن الطبيعي أن يعلن تأييده للتعديلات الجديدة لأنه مشارك في صياغتها ، كما أن أي موقف منه رافض لها أو مقاطع سيضع الحزب في عداء صريح مع كل القوى النافذة في الدولة المصرية الآن وهو موقف له تبعات خطيرة على الحزب ، كما أن هناك اقتناعا لدى قادة الحزب أن الصيغة التي انتهى إليها الدستور هي أفضل المتاح للمرحلة الحالية وأنه يستحيل القفز إلى المثال في ظل الوضع الحالي . المعسكر المعارض ، وهو الإخوان وحلفاؤهم من التيارات الإسلامية ، يتفقون على ضرورة إسقاط هذا الدستور الجديد ، ثم يختلفون على الطريقة وعلى الأسباب أيضا ، فالبعض يرى أن إسقاطه يكون بمقاطعة الاستفتاء والدعوة لمقاطعته باعتبار أن ذلك سيكشف أكذوبة الإرادة الشعبية الملتفة حول الفريق السيسي والنظام الجديد ، إضافة إلى كشف أن الملايين التي تم الإعلان عن تأييدها أو نزولها للشوارع كانت محض أكذوبة وتزييف لتمرير "انقلاب" ، بينما فريق آخر يرى أن المشاركة والتصويت ضد الدستور هو الأجدى باعتبار أن هزيمته حسابيا ومن خلال التصويت هو أكبر ضربة للمعسكر الآخر من المقاطعة وكذلك فهو يقلل مساحات الفراغ التي تغري بالتلاعب في التصويت ، وأما في تبرير إسقاطه فالإخوان يرون أن إسقاطه ضرورة لإسقاط مشروعية "الانقلابيين" من وجهة نظرهم ، بينما قطاع آخر من المحسوبين على التيار السلفي يرون أن إسقاط الدستور بسبب استهتاره بهوية الدولة وحذفه للمادة 219 ومجاملته للأقليات الطائفية على حساب غالبية الأمة . هذه هي الخريطة السياسية لمواقف القوى الفاعلة حاليا في مصر تجاه الاستفتاء على التعديلات الدستورية الجديدة ، ويبقى هناك تساؤلات أخرى مهمة للغاية عن مآلات خارطة الطريق ومستقبل النظام الحالي كله في حالة التصويت برفض هذه التعديلات الدستورية ، وتلك لها وقفة أخرى .