الحياة السياسية في مصر الآن تدار على أساس احتمال أخف الضررين لاتقاء أسوأهما ، وأزعم أن كل القوى السياسية تعرف ما الذي لا تريده لكنها لا تعرف ما الذي تريده بالضبط ، اليمين واليسار بجميع تجلياتهم وأحزابهم يعرفون أنهم لا يريدون الإخوان المسلمين ويحملون في خاطرهم صورة كابوس لم يصدقوا أنه قد انزاح ولن يسمحوا أو يقبلوا بعودته إلى الحكم مرة أخرى أيا كانت التكاليف ، ولكنهم لا يجتمعون على البديل وأغلبهم لا يعرف البديل فعلا ، وقبولهم أو حماسهم للجيش هو حماس مزيف ، حماس الهارب من خطر متحقق هدد "بركوب" الدولة لخمسين عاما مقبلة إلى خطر يمكن التعايش في ظله مؤقتا ، حسب تقديرهم ، وأحزاب الليبرالية المشيخية "العتيقة" المتحدرة من عصر مبارك ترمي بكل ثقلها إلى جانب الفريق السيسي وترشحه للرئاسة وتتحمس له كما لو كان أمل مصر ، ليس قناعة أنه الأفضل كما أنه موقف ـ بداهة ـ يمثل عارا تاريخيا على أي متمسح بالليبرالية ، ولكنهم يرون أن السيسي يقطع الطريق على خطر أن يقفز ناصري إلى رأس الدولة في الفترة المقبلة ، وهذا ما يسيطر على عقل ووجدان السيد البدوي وأسامة الغزالي حرب على سبيل المثال ، والناصريون رهنوا قرارهم السياسي بقرار السيسي وأبدوا حماسة مزيفة في البداية لترشح السيسي لرئاسة الدولة خاصة بعد هوجة الهوس الشعبي بشخصية السيسي بعد نجاحه في إسقاط مرسي والإخوان بجرأة وصرامة ، ولم يعد خافيا أن شخصيات قانونية وسياسية وإعلامية ناصرية مثلت ما يشبه لجان استشاريه للسيسي ، وبعد أن بدأت الموجة تهدأ بدأوا يضربون تحت الحزام ومن بعيد لبعيد في الرجل ، فهم أكثر من يروجون الآن إلى أن ترشح السيسي للرئاسة سيجعل من "ثورة" 30 يونيو انقلابا عسكريا ، وذلك لتخويفه من الترشح وإجباره على العودة إلى السيناريو الذي طرحه "هيكل" قبل عدة أشهر ، بعودة مصر إلى توازنات ثورة 23 يوليو ، بأن يكون هناك رأسان ، رأس سياسي يمثله حمدين صباحي ورأس عسكري يمثله الفريق عبد الفتاح السيسي ، وأن يتم هندسة مساحات الحركة لكل منهم في الدستور الجديد ، ويبدو أن السيناريو لم يلق قبول واطمئنان وثقة أجهزة فاعلة في الدولة ، وبدا أن السيسي يبحث عن تحالفات جديدة ليبني عليها مشروعه لرئاسة الجمهورية ، والتسريبات التي خرجت من حواره مع ياسر رزق صحيحة تماما ، وتكشف عدم ثقته بحمدين صباحي ، وأيضا عدم احترامه له ، رغم أن الناصريين أكثر من علوا بأصواتهم في البداية دعما للسيسي ، وجاملهم الرجل بتمكينهم من عدة مفاصل مهمة في الدولة خلال الأشهر الماضية ، لكن يبدو أن المستقبل مرتبك بين الطرفين ، وفي ظل هذا الصدع بدأ فلول نظام مبارك يقتربون بقوة من الفريق السيسي ، ويبدون دعمهم المطلق واللا مشروط لترشحه للسياسة ، باعتبار أن تمكنه من رئاسة الدولة يعيد انتاج الدولة العميقة التي تم بناؤها عبر الأجهزة طوال ستين عاما ، وهي تمثل المناخ الأمثل لحياة الفلول المزيج من الفساد المالي والإداري والقضائي والاعتماد على البلطجة وتوظيف الجهاز الأمني لكسر وترويع أي قوة تمثل خطرا على نفوذهم ، مقابل الحافظ على دعم رأس الدولة وتقديم خدمات السيطرة على الشارع وترتيب الديكور السياسي للدولة بصورة ملائمة ولا تمثل إزعاجا له ، ويمثل إعلام الفلول الذراع الأقوى في هذه التمهيدات حاليا . الإخوان من جانبهم يعرفون ما الذي يرفضونه جيدا ، وهو استمرار أي نظام سياسي على رأسه الفريق السيسي ، لكنهم لا يعرفون أو لا يبلورون أي رؤية للبديل ، بحيث يفهمهم الناس ، كما أن أحد أهم مشكلاتهم مع الواقع الحالي أنهم ـ بفعل الضغط والتوتر ـ غير قابلين وربما غير قادرين على تقديم خطاب سياسي جديد يسمح للمختلفين معهم والمرتعدين من تجربتهم أن يتحسسوا وجود مراجعة جادة لتجربتهم ، إنهم حتى الآن لا يعترفون أنهم أخطأوا في شيء ، وكل ما يقدمونه أن الآخرين تحرشوا بهم وتآمروا عليهم وأنهم ضحية ، ويثيرون غبارا كثيفا في هذه المسألة وبعضه صحيح قطعا ، ولكنه لا يستر حقيقة أن هناك أخطاء وأن الوطن كله كان ضحية لأخطائهم تلك ، ولا يمكن تبرير خوفهم من الاعتذار السياسي عنها ، يقولون نحن بشر نخطي ونصيب ، حسنا ، هذا شرح في المشروح ، ما هو الخطأ ، وما هو المسار البديل ، وما هي الضمانات ، هذا ما يطلبه الناس ، وأما غير ذلك فالكل يعرف أنها مراوغات تخيف من النوايا أكثر ، وتضعف أي فرصة للتعاطف مع الجماعة وحلفائها في مواجهة موجة الاستباحة الحالية .