تذكرت خلال الأيام الماضية وأنا أطالع الصحف المصرية وأستمع للأخبار عمن يجرى ضبطهم وإحضارهم، أو عن الحملة الجديدة التى أعلن رئيس جريدة الأهرام أن سلطات الأمن تزمع القيام بها ضد من أسماهم بالطابور الخامس، مقولة شهيرة لجورج كليمنصو رئيس الوزراء الفرنسى عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وهى أن الحرب شأن يبلغ من الخطورة حدا لا يجب معه تركها للعسكريين، وقلت فى نفسى إن الأمن فى مصر أصبح من الخطورة بحيث لا يجب تركه فقط لرجال الشرطة، أو جهاز الأمن الوطنى، أو أى جهاز آخر مسئول عن تحقيق الأمن فى مصر، ولا يملكنى أى شك فى أن رجال الشرطة والقوات المسلحة قد تحملوا بشجاعة منقطعة النظير واجبهم فى الدفاع عن أمن الوطن وقدموا تضحيات لا تنكر وما يزالون لبلوغ هذه الغاية، وأنه لم يكن هناك سبيل آخر لمواجهة أخطار لحقت بالمواطنين وبالوطن فى سيناء ودلجا وكرداسة وأماكن أخرى غيرها سوى ما قاموا به. وكنت واحدا من هؤلاء الذين تمنوا أن ينتهى الاعتصام فى ميدان النهضة ورابعة العدوية على نحو سلمى أو بعدد أقل من الضحايا من الجانبين، ولكن، ومع كل الشعور بالحزن لمن قضى نحبه أو أصيب من الجانبين، فإن قدرا هائلا من المسئولية عما جرى فى هذين الميدانين يتحمله قيادات الإخوان المسلمين التى دفعت الأمور عمدا إلى هذه المواجهة الدامية.
طبعا لسلطات الأمن واجب ومسئولية تتحملها فى مثل هذه المواقف، ولكننا نخدم الأمن الوطنى والمجتمعى بأن نذكر أنفسنا ونذكر هذه السلطات بأن استخدام ما تملكه الدولة من قدرة على القمع ليس هو الحل لكل مشاكلنا، بل ليس هو الحل لبعض مشاكل الأمن ذاتها، وأن الطريق للتعامل مع ما قد يعتبره البعض مشكلة أمنية ليس باللجوء إلى إلقاء القبض على بعض القيادات، أو حظر بعض التنظيمات، أو تخلى الدولة عن ضرورة إعلائها لحكم القانون، حتى وهى تواجه تحديا لإرادتها. سلاح الأمن ليس هو الحل لكل المشاكل، وإطلاق العنان لأجهزة الأمن يفتح باب جهنم للوطن فى حاضره ومستقبله، ويتيح لبعض المنتمين إليها استغلال هذا الموقف لتسوية حسابات ماضية مع أطراف مخلصة لهذا الوطن، كما أن مثل هذا التوجه لا يخدم لا الأمن فى مصر ولا علاقات مصر مع دول العالم.
●●●
خذ مثلا هذه القضية التى تشغل الرأى العام هذه الأيام وهى مصير جماعة الإخوان المسلمين. فرح كثيرون لحكم محكمة الأمور المستعجلة بحل جمعية وجماعة وتنظيم الإخوان المسلمين ومصادرة أموالها وممتلكاتها وممتلكات قادتها وحل كل التنظيمات والجمعيات التى ساهموا فيها بما فى ذلك حزب الحرية والعدالة. وتمهلت الحكومة فى تنفيذ هذا الحكم، وخرجت بعض الصحف تنتقد الأيدى المرتعشة فى الحكومة التى تتردد فى تنفيذ هذا الحكم، ولكن هل حظر الجماعة ومصادرة مكاتبها وأموال قادتها وإغلاق صحيفتها وضبط وإحضار قادتها هو السبيل الفعال لمواجهتها. ألم تصمد الجماعة فى مواجهة الحظر على مدى ستة عقود. جربته فى ظل العهد الملكى فى سنة 1948، ومرتين فى عهد عبدالناصر، واستمرت محظورة حتى ثورة يناير 2011، ومع ذلك لم يحل هذا الحظر دون بقائها ومزاولتها لأنشطتها حتى فى عهد عبدالناصر ولكن كما يقولون تحت الأرض. الإخوان المسلمون هم العنصر الرئيسى فى حركة اجتماعية تستند إلى أفكار ومثل وتطلعات ومشاعر، وكأى حركة اجتماعية، تنفض تنظيماتها ويدخل قادتها السجون، ومع ذلك تبقى الأفكار والمثل والتطلعات والمشاعر. باختصار مواجهة الفكر المنغلق للإخوان المسلمين وغيرهم من الحركات التى ترفع راية الإسلام دون أن تتشرب روح عصر العلم هى بالفكر وبالسياسات الاقتصادية والاجتماعية التى تقلل من حاجة فقراء المصريين لخدماتهم وبالعمل السياسى الجاد بين المواطنين. دور الأمن والقوات المسلحة والقضاء فى هذه المواجهة هو التصدى لأى خروج على القانون فى دولة يحكمها قانون عادل ومنصف تتباهى به أمام كل أمم العالم. هذا لا يعفى الإخوان المسلمين ومعهم كل تيارات الإسلام السياسى من ضرورة اعترافهم بأنهم لقوا هزيمة على يد جماهير المصريين فى 30 يونيو، والتزامهم بالفصل بين العمل الدعوى فى جمعيات لا تشتغل بالسياسة، وأن أحزابهم حتى ولو ادعت مرجعية إسلامية، فهى محكومة بمبادئ حقوق الإنسان التى صدقت عليها الحكومة المصرية، والتى تحظر استخدام حرية الرأى فى إثارة الكراهية ضد الآخرين، أو فى تأليب الرأى العام ضدهم، أو الدعوة لاستخدام العنف ضد أى من أبناء الوطن.
●●●
ولعل ثانى المخاطر التى تترتب على التسليم بأن حل كل مشاكلنا، سواء كانت ارتفاع الأسعار، أو ترديد بعض الهتافات فى المظاهرات، أو الضيق من بعض التيارات السياسية هو بترك الأمن يتصدى لها هو أن شهية أجهزة الأمن تنفتح بلا ضابط. أسمع الأنباء عن ضبط وإحضار هذا الشخص أو ذاك، ولهم خلفيات مهنية متعددة، ويتساءل زملائى من أساتذة الجامعات عن هؤلاء الطلبة والأساتذة الذين شملتهم هذه الإجراءات، فلا نجد جوابا. الشفافية غائبة تماما. لم يعد المسئولون عن الضبط والإحضار يعنون أنفسهم برأى عام له كل الحق فى أن يعرف لماذا تتخذ هذه الإجراءات بحق هؤلاء. وخصوصا عندما تخرج بعض التفاصيل عن أن بعض من قبض عليهم، أو حتى لقوا حتفهم، لا علاقة لهم لا بأعمال عنف ولا حتى بالإخوان المسلمين، مثل المخرج محمد ديب الذى مات مختنقا مع عشرات غيره فى حادث عربة نقل المسجونين التى لم يكشف اللثام بعد عن تفاصيلها.
●●●
وفى ظل هذه الأجواء من غياب الشفافية وحماس قطاعات من الرأى العام لكل هذه الإجراءات العقابية لأنصار الرئيس المعزول، وعودة قيادات جهاز أمن الدولة السابق للعمل بجهاز الأمن الوطنى بدعوى خبرتهم فى التعامل مع فصائل الإسلام السياسى، يبدو أن بعض هذه القيادات يحاول استخدام هذه الأجواء فى تصفية حسابات سابقة مع من قادوا ثورة يناير، ويساندهم فى ذلك صحفيون عرفوا بعلاقاتهم الوثيقة مع هذه الأجهزة. وهكذا طالعنا رئيس تحرير الأهرام أن الحملة القادمة لأجهزة الأمن هى مع ما سماه نقلا عن مصدر أمنى «الطابور الخامس» والذى يضم سياسيين ونشطاء فى المجتمع المدنى، وفصل محرر معروف فى صحيفته «الجرائم» التى ارتكبها هؤلاء، والتى لا تخرج عن الأسطوانة المشروخة حول العمالة للأجانب، وتلقى اموال من جهات خارجية، وهى فى حد ذاتها ليست بتهمة مادامت المصادر معروفة، وأوجه الإنفاق معروفة، ولم يثبت أحد لا فى السابق ولا فى الحاضر الضرر الذى لحق بالأمن القومى نتيجة لهذه الأنشطة.
إطلاق الوعيد بملاحقة نشطاء المجتمع المدنى لن يضر إلا من أطلقوه. لقد انتهى عهد الخوف، وأسقطت ثورة يناير وموجتها الثانية فى 30 يونيو كثيرا من القواعد التى استقرت فى عهود سابقة فى العلاقة بين أجهزة الأمن والمواطنين. مرحبا بالشرطة والقوات المسلحة التى تصون حريات المواطنين. أما هؤلاء الذين يريدون العودة إلى ممارسات كريهة سابقة، فهم يلقون ببذور الشقاق بين جماهير يناير ويونيو والدولة التى يجب أن تكون دولتهم، كما أنهم يقدمون لأنصار النظام السابق خدمة كبرى إذ يستخدمون هذه الممارسات لتأكيد الادعاء بأن ما جرى فى مصر فى 3 يوليو كان انقلابا عسكريا. ولذلك فاليقظة واجبة لأنهم سيصبحون الخطر الحقيقى على أمن الوطن