«فليبق كل في مكانه أيها الرجال، حياتي فداء لكم، دمي فداء لكم، سأعيش من أجلكم، وأموت من أجل حريتكم وشرفكم، إذا كان يجب أن يموت جمال عبد الناصر، يجب أن يكون كل واحد منكم جمال عبد الناصر، جمال عبد الناصر منكم ومستعد للتضحية بحياته من أجل البلاد».
هذه الكلمات قالها جمال عبد الناصر عندما حاول محمد عبد اللطيف، أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، اغتياله في حادث المنشية الشهير يوم 26 أكتوبر 1954، وكانت نتائج هذه المحاولة أن أمر «عبد الناصر» بواحدة من أكبر حملات الاعتقال السياسي في تاريخ مصر الحديث.
لم يتم اعتقال قيادات جماعة الإخوان وحدهم بل شمل الأمر آلاف المعارضين على اختلاف توجهاتهم من اليمين إلى اليسار، وحكم على 8 من قادة الإخوان بالإعدام، ثم أزاح «عبد الناصر» الرئيس الراحل محمد نجيب من منصبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية وأقال 140 ضابطا مواليًا له.
بدأت حقبة جديدة غابت فيها الحريات العامة وانتُهكت الحريات الخاصة وحكم الأمن السياسي مصر، وبعد أن كانت عشرات الصحف تصدر في أيام الاحتلال لتتحدث بلسان التيارات السياسية والفكرية المختلفة، أعلن «عبد الناصر» أن جميع المنشورات والصحف لابد أن تحصل على موافقة من الدولة لمنع «الفتنة».
يمرر «الإخوان» كرة بينية للحاكم ثم يلومونه إذا أحرز هدفًا.
***
«دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاصية وستجدون أمامكم الكثير من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات وفي هذا الوقت وحده تكونون قد سلكتم سبيل أصحاب الدعوات.
وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله وسيحقد عليكم الرؤساء وذوي الجاه والسلطان وسيقف في وجهكم كل الحكومات على السواء وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم». حسن البنا
كان مؤسس «الإخوان» يعلم أن الجماعة التي أسسها للتو ستتسبب في قلاقل وخلافات وصراعات في المجتمعات التي تعمل بها، ورغم ذلك أكمل مشروعه بل واعتبر القلاقل والخلافات والصراعات دليلا على أن الجماعة تمضي في الطريق القويم.
ولذلك فكلما اشتعلت مصر أكثر تأكد أن الإخوان قد استبشروا، لأن «البنا» قال لهم إن ذلك يؤكد أنهم على حق.
***
تقول كتب التاريخ إن الإخوان إذا تحالفوا مع السلطة انتهى الأمر بمصيبة على مصر، واذا تصادموا مع السلطة انتهى الأمر بمصيبة على مصر، وتقول الكتب نفسها إن تحالف الإخوان مع السلطة لا يكون من أجل مصر، وصدامها مع السلطة لا يكون من أجل مصر، غالبا لا يعترف الإخوان أصلا بشئ اسمه مصر.
في 1937 تفاقمت الأزمة بين القصر والوفد، وطالب مصطفى النحاس بالحد من النفوذ غير الدستوري للملك على مؤسسات الدولة، وخرج آلاف المصريين يهتفون «الشعب مع النحاس»، فخرجت مظاهرات إخوانية تهتف «الله مع الملك»، فقوي موقف الملك وبدا أن هناك انقساما في الشارع على المطالب، وبقي القصر مسيطرا على كل شيء.
بعد ذلك بقليل كتب حسن البنا مقالا عن الملك فاروق وصفه فيه بأنه: «ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه، وسيكون صلاح المسلمين في كل الأرض على يديه، وأكبر الظن أن الأمنية الفاضلة ستصير حقيقة ماثلة، وأن الله قد اختار لهذه الهداية العامة الفاروق، فعلى بركة الله يا جلالة الملك ومن ورائك أخلص جنودك».
عندما دخل الرئيس السادات في خصومة مع الشيوعيين وأراد أن يحجمهم لم يجد أفضل من «الإخوان» لأداء هذه المهمة، فأخرجهم من السجون لمزاحمة الشيوعيين في الشوارع والجامعات، وكانت العلاقة بين الإخوان والسادات في منتصف السبعينيات على خير ما يكون.
وقال عمر التلمساني، مرشد الجماعة في حوار أجرته معه مجلة المصور: «حين خرجنا من السجون كان أول شيء فعلته هو ذهابي إلى قصر عابدين لتسجيل شكري وتقديري للرئيس السادات لإفراجه عنا، فقد أخرج الإخوان من المعتقلات، وترك لهم جانبا كبيرا من الحرية في التنقل وإقامة الاحتفالات الإخوانية في المناسبات الدينية، وقد استقبل الإخوان كل ذلك بالحمد والثناء».
بعد عدة سنوات تدهورت العلاقة بين السادات والإخوان بعدما حاولت الجماعة أن تلعب بعيدا عن المضمار الذي حدده لها، وفي سبتمر 1981 وجد السادات نفسه في مواجهة مع الجميع فاعتقل الجميع، وانتهى الأمر باغتياله بعد ذلك بشهر واحد على يد أحد أصدقاء الإخوان.
أما حسني مبارك فقد استفاد من فزاعة الإخوان على مدار حكمه ليبرر للغرب استمرار الطوارئ لثلاثين عاما وليشرعن كل الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها والمحاكمات العسكرية التي لجأ إليها.
ورغم العداء الظاهري بين مبارك والإخوان فقد ظل قيادات الجماعة دوما يتحدثون عنه بكثير من النعومة، فبدأ عمر التلمساني عصر مبارك بتصريح لجريدة المصور عام 1982 قال فيه: «أنا كمسلم عندما أرى إنسانا يعمل الخير أقول له أكثر الله من أمثالك وأعانك وأدامك في هذا البلد وهذا هو ما قلته لحسني مبارك. أقول له أفرجت عن البعض ولكن هذا لا يكفي لابد أن تفرج عن كل معتقل أو متحفظ عليه وأسأل الله أن يعينك على هذا الخط السليم فالكل راض عنك».
قال التلمساني هذا الكلام رغم أن مبارك كان قد عقد لقاء قبل ذلك بأسابيع، ودعا كل الأحزاب والقوى السياسية إليه ماعدا جماعة الإخوان.
وفي 2005 وبالتزامن مع أول انتخابات رئاسية تعددية تشهدها مصر، ظهر المرشد السابق للجماعة محمد مهدي عاكف على غلاف المجلة نفسه قائلا «نؤيد ترشيح الرئيس مبارك وأتمنى الجلوس معه»، وفيما كانت القوى السياسية كلها تخوض حربا شرسة ضد ترشيح جمال مبارك للرئاسة ظهر تسجيل فيديو للمرشد الحالي محمد بديع يقول فيه إنه لا يعارض ترشيح نجل الرئيس خلفا لوالده مع الالتزام بقواعد ومعايير معينة.
والآن تساعد جماعة الإخوان النظام القديم في العودة إلى المشهد بالفشل الذي أظهره برلمانهم ورئيسهم، وتعمل منذ عزل مرسي في 3 يوليو كعنصر ضامن لاستمرار حالة الطوارئ بسبب ممارساتها العنف أو توفيرها الغطاء الحاضن له، وتمنح أعداء 25 يناير السكين الذي يشوهون به من شارك في الثورة، ويذبحون به كل مطالبها وشعاراتها.
***
إذا أردت شيئا بقوة أبعد عنه «الإخوان».
لم تأخذ مصر من الإخوان المسلمين إلا الأذى، فلا منهج واضح في الدين ولا طريق مستقيم في السياسة، ولا خطة محددة في الحكم، ويبدو أن «البنا» نفسه فطن لما فعله بالوطن وبالجماعة حين قرر أن يقتحم بها دنيا السياسة، فقال في آخر أيامه: «لو استقبلت من أيامي ما استدبرت لعدت إلى ما كنت عليه أعلم الإسلام وأربي عليه الناس».