الحديث الذي أدلى به الرئيس المؤقت عدلي منصور أمس للتليفزيون الرسمي هو الأول من نوعه في مدته وتعدد محاوره ، وهذه هي المرة الأولى التي يتعرف فيه المواطنون على شخصية الرجل أو بمعنى أصح جزء من شخصيته ، وفي تقديري أن الحوار في مجمله كان إيجابيا ، مع بعض التحفظ ، لأنه أكد على الالتزام الكامل بخارطة المستقبل المعلنة ، وهي مسألة من المهم جدا التأكيد عليها بصفة دائمة ، وخاصة أن عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية العليا هو أحد الشهود والضامنين أيضا لهذه الخارطة ، وأكد أيضا أنه لا إقصاء لأي تيار سياسي ، وهي إشارة واضحة للإخوان المسلمين وذلك ردا على دعوات متشنجة تدعو إلى إقرار عزلهم سياسيا ، أيضا تحدث باعتدال عن الدكتور البرادعي وواقعة استقالته ، أيضا أكد على أن 30 يونيو هي استكمال لثورة يناير ، بمعنى أن ثورة يناير هي الأساس والأصل ، وذلك حديث موجه صراحة إلى فلول نظام مبارك التي تتربص الآن لثورة يناير وجميع قواها ، وتزور في جميع وقائع التاريخ من أجل "تلميع" حركة 30 يونيو وأنها هي الثورة الحقيقية ، كلام رئيس الجمهورية الذي لم يلتفت له كثيرون كان حاسما هنا ، وكان مقصودا بعناية ، وقد أكد الكلام بصيغة أخرى عندما قال أن عقارب الساعة لن تعود للوراء ، لا للنظام السابق ولا الذي قبله ، أيضا حديثه عن الخلاف مع تركيا كان عقلانيا وهادئا ، فقد تحفظ على اتخاذ تركيا موقفا سياسيا داعما لفصيل بذاته ، لكنه لم يتورط في موجة الإسفاف التي يتداولها سياسيون وإعلاميون مصريون تجاه تركيا ورجب أردوغان رئيس الوزراء ، والانتفاخ العجيب بأنهم سيؤدبون تركيا بقطع العلاقات أو تحجيمها وسيضربون الاقتصاد التركي في مقتل ، وهو كلام مساطيل ، لأن بين تركيا ومصر ما بين العالم الأول والعالم الثالث اقتصاديا ، فالاحتياطي النقدي لتركيا تجاوز المائة وعشرين مليار دولار بينما الاحتياطي النقدي لمصر يترنح بين خمسة عشر وستة عشر مليارا ربعها على الأقل تسول من بعض دول الخليج ، والناتج القومي التركي وصل إلى تخوم الترليون دولار أمريكي (تسعمائة مليار دولار) ، والقطيعة الاقتصادية بين البلدين تعني خسارة مصر عشرة أضعاف خسارة تركيا ، وكذلك إبدائه الأسى والحزن على ضحايا الوطن في عملية فض الاعتصامات سواء كانوا من المواطنين أو رجال الشرطة ، رغم اختلافي مع تقديره أن الشرطة التزمت بضبط النفس والمعايير القانونية ، وهو كلام ليس دقيقا ، وإذا كان ضبط النفس قد أدى إلى مقتل حوالي ألفين مواطن وهو ما لم يحدث في تاريخ مصر الحديث كله ، فكيف إذا لم تضبط النفس ، كانت أبادت نصف مليون مثلا ، وكنت أتمنى منه كرئيس للجمهورية أن يصدر قرارا بتشكيل لجنة تقصي حقائق محايدة لتلك الوقائع المروعة ، أيضا مسألة ضمان عدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية ، ويبدو أن الرئيس سجل كلمته قبل أن تفاجئ المحكمة العسكرية الجميع بأحكام شديدة القسوة في حق عشرات من المدنيين في السويس ، بعضها وصل إلى المؤبد على خلفية "شجارات" مع بعض أفراد الجيش أو الحراسات أثناء التظاهر ، والمشكلة هنا أن معظم الاحتكاكات في الوقت الراهن ستكون بين المدنيين والجيش لأنه ينتشر في الشوارع ويقوم بأعمال لها طابع شرطي ، وهو ما يعني أن المحاكم العسكرية ستكون ساحة القضاء المصري الرئيسية في المرحلة الحالية ، وأرجو أن نسمع تعليقه على ما جرى لأنه خطير بالفعل . لست مع هؤلاء الذي يتحدثون عن غياب الكاريزما في شخص الرئيس ، بل إني أعتقد أن غياب هذه الميزة هي من أهم إيجابيات أي رئيس جديد ، لا نريد كاريزما يتعامل مع المواطنين كنصف إله أو مبعوث العناية لإنقاذ الوطن ، لا نريد فرعونا جديدا يتبختر غرورا وكبرا وتقدم له قرابين الأغاني والليالي الملاح التي تتغزل في عبقريته وأياديه البيضاء على الوطن ، وإنما نريد موظف بدرجة رئيس جمهورية ، نحاسبه على أعماله وإنجازاته وليس على وجاهته أو خطبه الرنانة ، وكم كنت أحلم وأتمنى أن يكون رئيس الجمهورية في أعقاب الثورة شخصية قضائية ، وكم فرحت عندما فكر البعض قبل عام ونصف في ترشيح المستشار محمود مكي ، أو المستشار طارق البشري ، فمصر أكثر احتياجا للعدل منها لرغيف الخبز هذه الأيام ، فالعدل هو مفتاح البركة والخير والحرية والرفاه أيضا ، ولكني أعتقد أن مشكلة الرئيس عدلي منصور ستبقى دائما في البرهنة على مدى امتلاكه للقرار المستقل ، كما أن مصر كلها ستظل سلطاتها العليا تحت طائلة الشكوك والظنون حتى يتم إنفاذ دستور جديد ، وإيجاد مجلس نيابي جديد ينوب عن الأمة في إدارة شؤون الوطن بصورة ديمقراطية وشفافة ، وأما قبل ذلك ، فمع الأسف ، أي مسؤول مهما علا سيكون محاصرا بحدود : تصريف أعمال .