قامت ثورة الشعب فى 30 يونيو لتحرير مصر من الاحتلال الإخوانى الذى تفرغ على مدى عام كامل لتمكين تنظيم إرهابى دولى من اختراق مفاصل الدولة، ومسخ هويتها وتعريض أمنها القومى لخطر عظيم، وعندما شكك البعض فى هذه الإرادة الشعبية الكاسحة وتوالت الضغوط الخارجية على السلطة الجديدة، وخاصة من الولايات المتحدة، خرج علينا القائد العام لجيش مصر الفريق أول "عبدالفتاح السيسى"، ليطالب جماهير الشعب بالتظاهر يوم الجمعة 26 يوليو لإعطائه، كما قال، تفويضاً، بل أمراً "للقضاء على الإرهاب"، ورغم أن القوات المسلحة والشرطة لم تكونا فى حاجة لمثل هذا التفويض لأن الخروج الجماهيرى الأسطورى يوم 30 يونيو أثبت للجميع أن إرادة الشعب انعقدت على سحب الثقة من الرئيس غير الشرعى وعصابة الإخوان المغتصبة للسلطة، وتأييد خريطة الطريق التى اقترحتها القوى الوطنية والثورية للمرحلة الانتقالية، إلا أنه لم يكن من الممكن أو المعقول أو المتصور أن يطلب الجيش ولا يستجيب الشعب، وكان الخروج الجماهيرى التاريخى الثانى فى أقل من شهر عبقرياً ومبهراً وملهماً، سطر هذا الشعب الفلتة صفحة جديدة فى كتاب التاريخ، وأضاف قيمة جديدة ليوم 26 يوليو، عيد تأميم قناة السويس وتحرير الإرادة الوطنية، والأهم أنه أصدر تفويضاً، بل أمراً واضحاً لا لبس فيه للجيش والشرطة بالقضاء على الإرهاب الذى تمارسه جماعة الإخوان وتنظيمها الدولى وكل الجماعات الإرهابية الأخرى التى عُرفت بـ"الجماعات الجهادية".. وهذه الأخيرة تنظيمات تكفيرية ثبت أنها خرجت من عباءة الإخوان وإن اختلفت معها فى البداية فى بعض الأفكار والممارسات، إذ أن جماعة الإخوان كانت تتبع نهج مؤسسها حسن البنا بينما اعتنقت الجماعات الجهادية، "الأفكار التكفيرية"، المتطرفة التى ابتدعها سيد قطب، ولكن هذه الخلافات فى الفكر والممارسة ذابت وتلاشت بعد سيطرة التيار القطبى على جماعة الإخوان وصار الجميع يؤمنون بأن "الحاكمية لله"، وبأن مجتمع المسلمين ارتد إلى حالة الجاهلية الأولى وعليه أن يُشهر إسلامه من جديد!!، وقد ظهر ذلك التوحد فى الفكر والعمل جلياً فى التنسيق والتناغم بين العمليات الإرهابية التى تُرتكب ضد قواتنا فى سيناء وجرائم القتل والترويع التى تمارس ضد الشعب من جانب الميليشيات التى تتحصن فى بؤرتى رابعة والنهضة، بل ثبت التماهى التام بين زعيم القاعدة الدكتور أيمن الظواهرى والقيادى الإخوانى الدكتور محمد البلتاجى.. وكانت كل هذه الجماعات قد تناست خلافاتها الفرعية واصطفت وراء المؤامرة الأمريكية التى استهدفت سرقة ثورة 25 يناير ووضعها فى حجر الإخوان، وهى المؤامرة التى تورط فيها المجلس العسكرى السابق فسمح بقيام أحزاب على أساس دينى، ربما لضمان موضع قدم على المسرح السياسى وفى الحكم لتيارات دينية وسلفية تدين بولائها ووجودها للمؤسسات الأمنية، وتمثلت أبرز تجليات هذا الاصطفاف للجماعات المتاجرة باسم الدين فى الدستور الطائفى الذى كان عرابه ومهندسه حزب الوسط مما كشف حقيقة أنه حزب إخوانى حتى النخاع وأن مسألة انفصاله عن الجماعة ليست سوى محاولة "للضحك على الذقون"، وهم فى ذلك لا يختلفون عن عبد المنعم أبو الفتوح!!.
إذاً.. صدر أمر الشعب للجيش والشرطة بالقضاء على الإرهاب.. وجاء الأمر بصوت مدو صك أسماع الدنيا كلها.. وانتظر الشعب تنفيذ الأمر على الفور، ولكن ذلك لم يحدث!!، والذين خدموا فى القوات المسلحة مثلى يعرفون أن الأمر واجب التنفيذ فورا حتى ولو كان "غلط".. فقد كانوا يقولون لنا نفذ الأمر حتى ولو كان غلط ثم "تظلم"، وأخشى ما أخشاه أن ينعكس هذا التراخى والتقاعس فى تنفيذ الأمر بصورة سلبية على ثقة الشعب فى جيشه.. هذا خط أحمر وخطر عظيم يجب ألا نسمح به.. الأمر كان واضحا وهو تفويض بالتعامل مع الإرهابيين بالقانون، وليس التفاوض معهم على "خروج آمن" سيكون إهانة للقضاء وعدواناً على استقلاله، وخيانة لإرادة الشعب ودماء الشهداء، وسيكون ذلك خطيئة لا تقل فى خطورتها وعواقبها عن السماح بزيارة الوفود الأجنبية للمتهم محمد مرسى وبقية قيادات الجماعة المحبوسين والطلقاء..
وهذا الكلام موجه بالأساس للفريق السيسى الذى يعرف قيمة وقدسية التفويض الذى فى عنقه والذى منحه الشعب لجيشه حبا وثقة وولاءً، لأننا نعرف والجميع يعرفون أن الحكومة المؤقتة لا تنتمى للثورة لا من حيث الأفكار ولا الأفراد، وإن ضمت بعض الشخصيات المحسوبة على الثورة، وتم الرضوخ فى تشكيلها لضغوط نفر من زعماء حزب النور السلفى لا يملكون من أمرهم شيئا ولا سيطرة لهم على قواعد حزبهم المرابطة فى رابعة والنهضة منذ اليوم الأول لظهور هاتين البؤرتين الإرهابيتين..
ولدى إحساس يقترب من تخوم اليقين أن الدولة القديمة، وليس العميقة، لا تزال تقاوم الثورة وضرورات التغيير بكل ضراوة.. فمؤسسات الدولة الرئيسية لا تزال تخضع لقبضة شخصيات محافظة، وأحيانا طاعنة فى السن، وطبيعة الأمور أن يكون هؤلاء ضد التغيير الثورى الجذرى حتى ولو كانوا من المعارضين لنظام مبارك أو نظام الإخوان.. وهناك جهات وشخصيات نافذة فى الدولة تحاول تبريد الثورة وتشويه أو إقصاء الشباب والقوى الثورية المطالبة بالتغيير الثورى الجذرى وبناء نظام ديمقراطى حديث يليق بمصر وقامتها ومكانها فى الجغرافيا والتاريخ.. حدث ذلك للأسف الشديد بعد ثورة 25 يناير، وأخشى القول إن لدى الكثير من القوى الثورية، وخاصة الشباب، هواجس بل مخاوف حقيقية من محاولة تبريد ثورة 30 يونيو والالتفاف على مطالبها، فضلا عن فتح الباب أمام رجال دولة مبارك ونظام الإخوان للعودة إلى الصورة وممارسة أدوار فى مرحلة ما بعد 30 يونيو.. وهذا يوافق هوىً لدى أمريكا التى تستميت حتى لا تنجح ثورة شعب يتطلع إلى الاستقلال الوطنى ويرفض معونتها وهيمنتها، وهو ما يهدد المشروع الامريكى فى المنطقة، ولكن المؤامرات الداخلية والخارجية على ثورة شعب مصر لن تمر إلا على جثث كل القوى الوطنية والثورية التى لا تزال متمسكة بأهداف الثورة فى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطنى، والتى لا تزال تردد بقوة، لا للتفاوض مع الإرهابيين.. لا للمصالحة قبل المحاسبة والمحاكمة، لا لمحاولات "فلول مبارك" تشويه ثورة 25 يناير ورموزها، وخاصة الدكتور محمد البرادعى، وتصويرها على أنها مؤامرة تم تصحيحها بثورة 30 يونيو التى يقولون إنهم شاركوا فيها ويريدون المقابل!!.. الثورة مستمرة، والمجد لشهدائها الأبرار..