لا أذكر أنني ترددت يوماً قبل أن أكتب بقدر ما أشعر الآن!
كلما أمسكت بالقلم لأسطر مقالي عن ثورة شعب توقعتها قولاً وكتابة، مقبلة كالقدر المحتوم، وعن غضبة جماهير كنت أرى وهج لهيبها من قبل أن أسمع دوي انفجارها، وعن نزول ثان للجيش كنت واثقاً أنه آت لا محالة، درءاً لفوضى، وصوناً لأمن وطن، وحماية لمقدرات شعب، وحفاظاً على تماسك دولة تلين مفاصلها وتتداعى.
كلما شرعت أن أكتب عن غروب نظام حكم بائس كفيف البصر، منزوع البصيرة، حذرت مراراً من أنه أصم، لا يسمع أجراس خطر تدق، وهو يندفع بالبلاد إلى طريق الهلاك، وعن أفول جماعة كنت أؤمن، رغم شهوتها للسلطة، وجشعها للتمكن، ونهمها للاستحواذ، أنها لن تعدو أن تكون - وقد كانت - جملة اعتراضية في تاريخ الوطن.
كلما هممت بالكتابة عن ماض يأنف منه التاريخ، وعن مستقبل تبدو الطريق إليه وعرة محفوفة بألوان المخاطر، راودني قلمي أن أكتب عن رجل كان مثار تساؤل المصريين حيناً، وموضع حيرتهم حيناً، ثم صار مناط أحلامهم، ومصدر إعجابهم.
■ ■ ■
التقيت أول ما التقيت باللواء أركان حرب عبدالفتاح السيسي منذ 28 شهراً، بعد أسابيع من ثورة الـ18 يوماً، كان وقتها مديراً للمخابرات الحربية، جمعنا لقاء خاص ضم أيضاً ثلاثة من كبار قادة القوات المسلحة وثلاثة من كبار المثقفين، كانت هي المرة الأولى التي أتعرف عليه عن قرب، رغم 25 عاماً قبلها أمضيتها محرراً عسكرياً، توثقت فيها علاقتي بمعظم قادة وقيادات القوات المسلحة.
تركز الحديث خلال اللقاء عن أسرار وتفاصيل دور الجيش في مساندة ثورة 25 يناير، وعن خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية الأولى التي رفعت البناء من قبل وضع الأساس، فبدأت بالانتخابات البرلمانية وانتهت بالدستور، فكان ما كان!
يومها.. خرجنا من اللقاء مأخوذين بشخصية هذا القائد الشاب، الهادئ، المثقف، المتدين، مرتب التفكير، منظم العبارات، المفعم بالاعتزاز بالوطنية المصرية والمؤسسة العسكرية العريقة.
بعدها.. عرفت أن هذا القائد الشاب هو أول من تنبأ في القوات المسلحة بثورة الشعب على نظام مبارك، ووضع تقريراً يتضمن تقدير موقف لتداعيات الأحداث وصولاً إلى انتفاضة شعبية ستطيح بالنظام، وسلم التقرير إلى المشير طنطاوي في مطلع شهر أبريل عام 2010، وسأله المشير: «كيف ترى أن نتصرف حينئذ؟!»، فأجابه قائلاً: «سنساند انتفاضة الشعب ولن نطلق رصاصة على أحد من أبنائه».
كان «السيسي» يتوقع في تقريره أن تقوم الانتفاضة في مايو عام 2011، انطلاقاً من معلومات كانت تشير إلى احتمال اعتزال مبارك في عيد ميلاده الثالث والثمانين، وترك الحكم إرثاً لابنه، لكن الثورة جاءت مبكرة عن ذلك الموعد بثلاثة عشر أسبوعاً، لسببين هما التزوير الفاجر لانتخابات مجلس الشعب في نهاية عام 2010، ثم الثورة التونسية.
ولقد كتبت وقتها عن قصة القائد الكبير «طنطاوي» والجنرال الشاب «السيسي» دون أن أشير إلى أبطالها.
■ ■ ■
تعددت المناسبات التي جمعتني باللواء السيسي في الشهور التالية، وزادت كثافة الاتصالات بيننا مع اقتراب انتهاء المرحلة الانتقالية، وكان من شبه المسلم به بين قيادات القوات المسلحة أن «السيسي» هو القائد العام المنتظر، بعد الاعتزال المتوقع للمشير طنطاوي والفريق سامي عنان، رئيس الأركان، عند تسليم السلطة للرئيس المنتخب.
وأذكر في بواكير الحملة الانتخابية الرئاسية أن سألني اللواء السيسي عن توقعاتي لنتائج التصويت، فقلت له: «من المبكر الجزم، لكن مسار الحملة في بدايتها يشير إلى احتمال إعادة بين عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح، وكان ذلك قبل أسابيع من إجراء المناظرة الشهيرة بينهما»، فرد علي «السيسي» قائلاً: «وأين اسم الدكتور محمد مرسي؟! في تقديري أنه سيكون طرفاً في الإعادة»، استبدت بي الدهشة لأن محمد مرسي كان «استبن» خيرت الشاطر، وكانت استطلاعات الرأي وقتها تضعه في المركز الأخير بين أقوى 5 مرشحين، لكني قمعت دهشتي لأنني أعرف دقة تقديرات اللواء السيسي.
وحينما فاز مرسي بالرئاسة، سألت اللواء السيسي: هل تعتقد أن مرسي قادر على التحرر من سيطرة الجماعة ومكتب إرشادها ومرشدها العام؟!
وكانت إجابته ذات المغزى العميق: «المسألة ليست هل هو قادر.. وإنما هل هو يريد؟».
■ ■ ■
تردد المشير طنطاوي في اتخاذ قراره بالترجل يوم 30 يونيو 2012، وأحجم عن الاعتزال وهو في ذروة مجده، حاكماً يسلم السلطة لرئيس منتخب، ولم يكن يتخيل أنه يترك مهمة كتابة ورقة النهاية في مشواره العسكري للرئيس مرسي الذي صور الأمر على أنه يوم النصر المؤزر لجماعة الإخوان على حكم العسكريين الذي دام 60 عاما.
في يوم 12 أغسطس، أصدر مرسي قراراً بتعيين الفريق أول عبدالفتاح السيسي قائداً عاماً ووزيراً للدفاع والفريق صدقي صبحي «قائد الجيش الثالث» رئيساً للأركان، والحقيقة أن مرسي وضع توقيعه على قرار المؤسسة العسكرية باختيارها قائدها ورئيس أركانها الجديدين.
ومنذ تولي السيسي قيادة القوات المسلحة يوم 12 أغسطس الماضي، دارت ماكينة الشائعات الإخوانية بنشاط تروج لأن السيسي إخوانى، أباً وعماً وأبناء وزوجة منتقبة، وأنه ذراع الجماعة في أخونة وأسلمة القوات المسلحة، وكنت أسمع وأطالع تلك الشائعات وأسخر منها، قولاً وكتابة، فهو أبعد ما يكون عن فكر الجماعة، وإن كان أقرب من قياداتها فهماً لصحيح الدين ووسطية الإسلام، بل أكاد أقول إنه يعتنق مبدأ الوطنية المصرية الذي تخاصمه الجماعة، ويؤمن بأن جماهير الشعب هي القائد والمعلم، وليست كما تراها الجماعة، قطيعاً يُساق، وجموعاً تنقاد.
كان هدف الجماعة هو تيئيس الشعب المصري من الاحتفاظ بجيشه وطنياً خالصاً، نقياً من فيروسات الانتماءات السياسية، ومن كثرة الكذب، يبدو أن قيادات الجماعة صدقت أكاذيبها!
بعدما تولى السيسي منصبه، كان همه الأول هو استعادة الكفاءة القتالية لوحدات وتشكيلات القوات المسلحة بعد 18 شهراً أمضتها في الشوارع والميادين، وتطوير تسليحها وفق خطة مدتها عام، وكان تركيزه الرئيسي هو إبعاد الجيش المصري عن اللعبة السياسية والصراعات الحزبية، وكان يأمل - كما قال لى - أن تتوافق القوى السياسية من أجل مستقبل البلاد، وأن ينجح الرئيس المنتخب في مهمته الصعبة، وأن ينأى بنفسه عن الدخول في صدامات مع ركائز الدولة وأعمدتها، خاصة أن مرسي كان قد انزلق إلى صدام مع القضاء، حينما حنث باليمين الذي أقسمه على احترام الدستور والقانون وألغى قرار تنفيذ حكم المحكمة الدستورية العليا ببطلان مجلس الشعب بعد ثمانية أيام لا غير من توليه منصبه.
■ ■ ■
حلت ذكرى نصر السادس من أكتوبر، وكان الاحتفال الذي أقيم بهذه المناسبة كارثياً بكل المقاييس!
فقد سحب مرسي تنظيم مراسم الاحتفال من القوات المسلحة وأسندها إلى وزير شبابه الإخواني، وتجاهل دعوة قيادات حرب أكتوبر إلى الاحتفال، وملأ المدرجات بأعضاء حزب الحرية والعدالة، وأجلس في المنصة الرئيسية قتلة الرئيس الراحل السادات بطل الحرب، وأبعد وزير الدفاع وقادة القوات المسلحة عن صدارة المشهد في يوم عيدهم.
نكأ هذا الاحتفال جراح رجال الجيش التي لم تبرأ من صدمة الخروج غير الكريم للمشير طنطاوي والفريق سامي عنان، ووصل الغضب في صفوف القوات المسلحة إلى درجة الغليان، وبدا أمام الجميع أن مرسي فقد اعتباره كقائد أعلى للقوات المسلحة.
زادت النقمة في الأيام التالية، مع ترافق عدد من الأحداث، منها نشر خبر في إحدى الصحف يسيء إلى طنطاوي وعنان، وتسابق المواقع الإلكترونية الإخوانية إلى بث كل ما يشوه صورتهما، ثم دعوة السيسي إلى اجتماع في الرئاسة لمناقشة تأمين «مليونية الحساب»، وتبين أن الغرض من الاجتماع هو استبعاد النائب العام، ومحاولة الزج بالجيش في صراع الرئاسة مع القضاء.
ولأول مرة منذ تولي مرسي السلطة، صدر بيان باسم قادة وضباط وصف وجنود القوات المسلحة يعبر عن استيائهم من الإساءة لقادتها السابقين، وكانت تلك أول إشارة حمراء لمرسي وجماعته.
■ ■ ■
يوماً بعد يوم، تفاقمت أخطاء مرسي وخطايا جماعته، وتردت أحوال الشعب اقتصادياً وأمنياً، وباتت زياراته الخارجية مصدر إحراج للوطن ومثار سخرية للجماهير بسبب تصرفاته التي تنطوي على جهل فاضح بأصول البروتوكول، وأدائه الذي يتناقض مع مسلك رجل الدولة.
غير أن القطيعة بين نظام مرسي والشعب وقعت عندما أصدر يوم 21 نوفمبر الماضى إعلانه الدستوري الذي يخاصم كل الأعراف والقواعد القانونية والدستورية، ثم إعلانه الدستوري المعدل الذي أصدره يوم 8 ديسمبر وحاول به خداع الجماهير، لكنه فشل فشلاً ذريعاً.
بعد ثلاثة أيام لا غير من الإعلان الأخير.. خرجت مئات الآلاف من جماهير الشعب الغاضبة تحاصر «الاتحادية» وتهتف برحيل مرسي، فيما عرف بيوم «الثلاثاء العظيم»، بينما كان مرسي ورجاله في داخل القصر يتداولون في مستقبلهم بعد الرحيل!
انفض التظاهر بسبب حماقة بعض القوى السياسية، دون أن تدرك أن استمراره عدة أيام تالية كان كفيلاً بإسقاط مرسي.
■ ■ ■
بعدها بيوم دعا السيسي إلى لقاء بالقرية الأوليمبية للدفاع الجوي بالتجمع الخامس يجمع الرئيس بكل القوى السياسية، بغرض الخروج من المأزق السياسي والوصول إلى توافق، وأطلع الرئيس على دعوته قبل إعلانها ورحب بها الرئيس.
وبينما كان المدعوون في طريقهم إلى مقر اللقاء، جاءتهم مكالمات عاجلة تبلغهم بإرجاء الاجتماع إلى أجل غير مسمى، وكان مرسي - بضغط من المرشد - قد عدل عن رأيه، وطلب من السيسي إلغاء اللقاء!
حل العام الجديد.. وحمل معه المزيد من الأزمات!
في 30 يناير.. التقى السيسي بطلبة الكلية الحربية، ومن داخل هذا الصرح العلمي العسكري العريق بعث برسالة إلى الرئيس وكل القوى السياسية يحذر فيها من خطر «انهيار الدولة» ثم التقى السيسي بـمرسي وقال له بوضوح: «لقد فشلتم ومشروعكم قد انتهى»!
بعدها بأسبوعين.. أعلن الفريق صدقي صبحي، رئيس الأركان، لتليفزيون أبوظبي تصريحه القنبلة الذي قال فيه: «إن القوات المسلحة لا تنتمي لفصيل ولا تمارس السياسة، وعينها على ما يدور، وإذا ما احتاجها الشعب ففى أقل من ثانية ستكون موجودة في الشارع».
في يوم 17 يناير.. سرت موجة من الشائعات عبر المواقع الإلكترونية تفيد بوجود نية لإقالة السيسي، وتتبعت أجهزة القوات المسلحة الشائعة واكتشفت أن مصدرها مواقع تابعة لجماعة الإخوان.. وصدر في اليوم التالي تصريح ناري لمصدر عسكري قال فيه: «إن إقالة السيسي تعني انتحاراً سياسياً للنظام بأكمله».
كانت السبل قد تقطعت بين الاتحادية ومقر وزارة الدفاع، بعد أن تقطعت بينها وبين القضاء والإعلام والشرطة، وقبل كل ذلك بينها وبين الشارع والقوى السياسية.
وفي آخر لقاء بين مرسي وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 12 أبريل الماضى، سمع الرئيس من القادة عرضاً أميناً للوضع المتردي بالبلاد، وسمع آراء صريحة وقاطعة في مواقفه الغريبة المريبة من قضية حلايب ومشروع قناة السويس.
ولأول مرة بعد اجتماع عسكري يخرج وزير الدفاع ليتحدث جنباً إلى جنب مع الرئيس الذي وقف بين القادة مشدوداً مشدوهاً، وكأنه في وضع «انتباه»!
مضت الأيام ثقيلة على قلوب المصريين، وولدت حركة «تمرد» نهاية أبريل ليبدأ فصل جديد في حياة المصريين.
■ ■ ■
في يوم 11 مايو.. دعا الفريق أول السيسي نخبة من رجال الفكر والثقافة والإعلام والفن والرياضة، لحضور مراسم «تفتيش حرب» للفرقة التاسعة المدرعة بمنطقة دهشور جنوب غرب الجيزة. وكانت هذه هي المرة الأولى التي يحضر فيها مدنيون هذا النشاط العسكرى شديد الحساسية.
كان يوماً رائعاً.. اختلط فيه مشاهير الفن والرياضة والإعلام برجال القوات المسلحة البواسل وتعالت هتافات «الجيش والشعب إيد واحدة».
وفي منصة الاحتفال.. تحدث الفريق أول السيسي للحاضرين، وتبادل معهم الحوارات.. ثم سأله المحامي الكبير القدير رجائي عطية عن نزول الجيش إلى الشارع.
وجاء رد السيسي دشاً بارداً على رؤوس من تصوروا أن الجيش يمكن أن ينوب عن الشعب في الثورة، وأن يطيح بالنظام في انقلاب عسكرى.
فقد دعا السيسي القوى السياسية إلى إيجاد صيغة تفاهم بينها، وقال إن نزول الجيش (فى انقلاب) سيعيد البلاد 30 أو 40 عاماً إلى الوراء.
وعلى مائدة الغداء التي جمعت قادة القوات المسلحة بالحضور.. تنحيت والفريق أول السيسي جانباً، وسألني عن رأيي في كلمته، فقلت له إنها قد تستقبل على غير المقصود منها، فالجماهير قد تتصور أن الجيش تخلى عنها حتى لو نزلت بالملايين إلى الشوارع، والإخوان قد يتصورون أنها ضوء أخضر لهم ليفعلوا ما يريدون وسألته بوضوح: هل كان ذلك مقصدك؟!.. قال: «طبعاً لا.. موقفنا واضح أننا مع إرادة الشعب حيثما ذهبت».
وقبل أن يغادر الحضور قاعة الطعام.. ودعهم الفريق أول السيسي بكلمة شكر رقيقة.. ثم قال لهم كلمة كان لها وقع السحر في نفوسهم: «ما تستعجلوش»، وكررها قائلاً: «علشان خاطرى ما تستعجلوش».
وبينما كنت أتأهب لمغادرة مكان الاحتفال.. وقفت مع قائد ميداني كبير.. وقلت له: البلد يختنق والناس في حالة إحباط.. ثم استفززته قائلاً: هل ستتركون الناس لو نزلت فريسة لميليشيات الإخوان؟.. فرد علىّ قائلاً: نحن رهن إشارة الشعب.. ثم أمسك خنصره بإبهامه، مشيراً برقم «3».. وقال: 3 أيام فقط في الشارع.
■ ■ ■
تسارعت وتيرة الأحداث في البلاد.. تخطت استمارات حركة تمرد رقم 20 مليون استمارة، وتحدد يوم الأحد 30 يونيو موعداً لنزول جموع الشعب إلى الشارع لإسقاط مرسي.
كنت في رحلة علاج بلندن، يوم 23 يونيو عندما أطلق السيسي تصريحه المدوى من مسرح الجلاء للقوات المسلحة، والذى أعطى جميع القوى السياسية، وكان يقصد الرئيس - أولاً وأخيراً - مهلة مدتها 7 أيام للتوافق وإنهاء الأزمة قبل حلول يوم 30 يونيو.
وعلمت أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة كان قد اجتمع في لقاء مصغر، واتفق على هذه المهلة.
وشاهدت ليل الأربعاء 26 يونيو خطاب مرسي الذي لم يقدم فيه شيئاً يذكر، سوى استعداء من لم يكن قد استعداهم.
عدت إلى القاهرة ليل الخميس 27 يونيو، وعلمت أن خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان، والدكتور سعد الكتاتني، رئيس حزب الحرية والعدالة، طلبا لقاء السيسي غداة كلمته في مسرح الجلاء.. وتم اللقاء فعلاً يوم الاثنين.
تحدث خيرت في البداية بنبرة عتاب على المهلة التي أعطاها السيسي، وتركه السيسي يتكلم لمدة تقترب من الساعة، وكان يجلس مبتسماً، وهو يتابع حديث الشاطر المستفز، مما أثار دهشة أحد معاوني السيسي المقربين ممن يعرفونه حق المعرفة، أخذ الشاطر يحذر من أن جماعة الإخوان لن تستطيع السيطرة على كوادرها ولا كوادر حلفائها من جماعات الإسلام السياسي والجماعات المسلحة الأخرى، فى حالة استمرار توتر الأوضاع، وقد تلجأ لمهاجمة وحدات عسكرية فى سيناء وغيرها، وكان الشاطر يتحدث وهو يحرك سبابته وكأنه يضغط على زناد ويصدر أصواتاً يقلد فيها وقع إطلاق الرصاص!
انتهى الشاطر من كلامه، ونظر إليه السيسي قائلاً: «خلصت»، ثم اعتدل في مقعده وجلس متنمراً والشرر ينطلق من عينيه، وصاح فيه: ماذا تريدون؟ اهضموا أولاً ما أكلتموه قبل أن تفكروا في مزيد من الطعام.. لقد خربتم البلد.. وكرهتم الناس في الدين.. أنتم ألد أعداء للدعوة الإسلامية، ولن أسمح بترويع الناس ولا إرهابهم، وأقسم بالله أن من يطلق رصاصته على مواطن أو يقترب من منشأة عسكرية لن يكون مصيره إلا الهلاك هو ومن وراءه.
امتقع لون الشاطر وأخذ يتلعثم وهو يحاول تهدئة السيسي.. بينما انكمش الكتاتني في مقعده.. وقال للسيسي: قل لنا ماذا تريد؟ فرد عليه: «ما نريده أعطيناه للرئيس في ثلاثة تقارير تتحدث عن خطورة الأوضاع وعن حلول مقترحة»، ثم أعطى الكتاتني صوراً من هذه التقارير قبل أن يغادر والشاطر مكتبه.
في هذا اليوم تحديداً.. كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد اتخذ قراره بالإجماع: إذا نزل عشرات الملايين إلى الشوارع والميادين مطالبين بسقوط الرئيس، فسوف يؤيدهم الجيش، وقال السيسي لهم إنه سيواصل جهوده عساه يقنع الرئيس بمطالب الجماهير وأبرزها إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.
في اليوم التالي.. جلس السيسي ساعتين مع مرسي يحاول إقناعه بتقديم حلول في خطابه المنتظر في المساء دون أن يستعدي أحداً عليه، وبدا على مرسي الاقتناع، ووعد السيسي بأن يحتوي خطابه على هذه الحلول والمقترحات.
كالعادة.. نكث مرسي بوعوده، وخرج خطابه على النحو الذى رأيناه وسمعناه.
■ ■ ■
جاء يوم 30 يونيو، وخرج عشرات الملايين في مظاهرات ومسيرات تجوب شوارع وميادين مصر، في مشهد غير مسبوق في التاريخ الإنسانى المعاصر.
وانتظر الناس صدور بيان للقوات المسلحة بعد انتهاء مهلة الأيام السبعة، لكن البيان لم يصدر في ذلك اليوم وإنما صدر في اليوم التالى مجدداً المهلة بثمان وأربعين ساعة أخرى، ولعل هذا التجديد يدحض كل المزاعم التي تتقول على ثورة 30 يونيو، وتصف تدخل الجيش استجابة للجماهير بأنه انقلاب عسكري.
فلو كانت النية هي الانقلاب لوقع قبل ذلك بشهور، وكانت المناسبات عديدة والفرص متاحة، ولو كان العزم هو الانقلاب ما كانت هناك حاجة لمهلة أولى ولا لزوم، ولو كان القصد هو استغلال الخروج الجماهيري الهائل لإقالة الرئيس، ما أعطيت مهلة ثانية كانت تتيح لمرسي وجماعته إحداث انقسام بين الشعب والجيش، إذا ما وافقوا على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة أو حتى استفتاء شعبي على رئاسته، ولقلبوا الطاولة على الجميع!
وأذكر أن قيادياً بجماعة الإخوان اتصل بي مساء الأول من يوليو بعد صدور بيان المهلة الثانية، وكان في حديثه معي يقلل من حجم الجموع الهائلة التي نزلت الشوارع يوم 30 يونيو، ويرى أن مهلة الثماني والأربعين ساعة مقصود بها القوى السياسية لا الرئيس!
وفي يوم إعلان المهلة الثانية.. التقى مرسي مع السيسي، واللواء محمود حجازي، مدير المخابرات الحربية، وحاول استمالتهما قائلاً: «كل اللى انتم عايزينه حاتخدوه!».. فرد عليه القائدان: «لا نريد إلا مصلحة الشعب».
تجددت المظاهرات الحاشدة يوم الأربعاء 3 يوليو، وعند الظهيرة.. اتصلت بالدكتور أحمد فهمي، رئيس مجلس الشورى المنحل، الذي عرفت أنه أحد وسطاء اللحظة الأخيرة الثلاثة بين الجيش والرئيس، وسألته عما جرى في لقائه في الصباح مع القيادات العسكرية بمقر إدارة المخابرات الحربية، ورد فعل الرئيس على الوساطة.. وأدركت مما سمعت أن الرئيس لا يعتزم أن يقدم أكثر من إقالة الحكومة وإجراء انتخابات برلمانية!
جرت المقادير على نحو ما جرت يوم الثالث من يوليو وما بعده، تولى إدارة شؤون البلاد رئيس المحكمة الدستورية العليا، وتشكلت حكومة جديدة، وبدأت عجلة خارطة الطريق في الدوران باختيار لجنة الخبراء للنظر في تعديل مواد دستور 2012
بينما الشارع المصري تتهدده عمليات إرهابية وجرائم عنف وأعمال ترويع، تغذيها دعوات محرضين ضد الجيش وضد المواطنين وضد الوحدة الوطنية، وخيالات موهومين بإمكان عودة عقارب الساعة إلى الوراء، وإحياء من ماتوا سياسياً بغير أمر الله والشعب.
■ ■ ■
قبل أن يلقي السيسي خطابه في الإسكندرية ويوجه دعوته للشعب بالنزول، التقيته منذ بضعة أيام في مكتبه بمقر الأمانة العامة للقوات المسلحة، ودام اللقاء ساعتين.
كان كما عهدته، هادئاً، واثقاً، صافي الذهن، يتحدث عن مستقبل مصر، وهو يرنو أمامه وكأنه يراه ماثلاً مشرقاً، كان السيسي مفعماً بمشاعر وطنية جياشة، إلى حد أن عينيه امتلأتا بالدموع عندما سمع عبارة «شعب مصر الحر العظيم».
بدا السيسي صلباً وهو يتمسك بكل عزم وإصرار بأمرين أولهما ألا يترك المواطنين نهباً لترويع، ولا البلاد مسرحاً لإرهاب، والثانى ألا يخوض انتخابات رئاسة الجمهورية بأى حال، مكتفياً بشرف أنه يتولى منصب القائد العام لجيش مصر العظيم، الذي يعتبره منتهى طموحه، وسعيداً بأنه من خلال موقعه يخدم هذا الشعب العظيم بكل إخلاص، ومتمنياً أن يقابل الله حاملاً كتابه بيمينه.
وتركت السيسي وهو يقول لي: «إن شاء الله مصر أم الدنيا.. حتبقى قد الدنيا».. وقلت له: «بإذن الله مادام في هذا البلد رجال مخلصون».
وغادرت المكان.. وهو يفوح بعطر كرامة يذكرني بالزعيم الاستثنائي جمال عبدالناصر.