(1)
يصرخ الأب بحرقة في ابنه «يابا, جبتلك حاجات» ويهزه كأنما يوقظه من النوم, الجزء الخلفي من جمجمة الطفل الشهيد مهشمة.
دار في خلدي سيناريو واحد فقط وأنا أشاهد هذا الفيديو الذي تم تصويره يوم الحادي عشر من يوليو 2014 في خان يونس بعد القصف الإسرائيلي.
هذا الأب قد يكون بلا عمل نتيجة لأوضاع الحصار على قطاع غزة, وحتى لو كان يعمل فأكيد «إللي جاي على قد إللي رايح».
وهذا الابن كان نفسه في «حاجات» ربما لعبة, ربما حلوى, وربما طائرة ورقية يطيرها لتعطيه إحساسًا بأنه يومًا ما سيكون حرًا مثلها حينما تداعبها نسمات الرياح.
ولأن الحال هي الحال لم يكن في استطاعة الأب أن يأتي بـ«الحاجات» التي في نفس الابن،
ومات الابن.
فيقوم الأب باستعطاف جثة ابنه بأنه قد جاءه بالحاجات، لعل تلك الكلمات تعود به إلى الحياة ليقوم الأب بعد ذلك بغمره بكل الحاجات التي يريدها ولا يترك في نفسه شيئًا.
في الجانب الآخر، يجلس البعض داخل منازلهم الآمنة على كراسيهم الوثيرة وأجهزتهم الذكية ليكتبوا كلمات غير ذكية من طراز «يستاهلوا» و«حماس هي الإخوان» و«تجار دين ودم».
لا تتوقع شيئًا آخر من جموع اعتادت على أن تتلقى ما يتم بثه عبر الإعلام دون غربلة, وبعد عام وبضع العام من تلقي الرسائل الدعائية على شاكلة أن حماس تريد احتلال سيناء وحماس تقوم بعمليات داخل مصر ضد المصريين، إلى درجة أن وصل الأمر بالبعض لكتابة رسالة شكر لنتنياهو والدعاء له «بكتر خيرك» و«ربنا يكتر من أمثالك», وأن حال غزة تحت الاحتلال أفضل من حالها تحت حكم حماس, وأن العملية الحالية في غزة تقوم بها حماس بالتعاون مع نتنياهو وقطر وإيران وأمريكا.
نفس الناس التي تشمت (وبعضها يبارك) ما يحدث في غزة الآن هي نفس الناس التي شمتت في موت مصريين مثلهم في مذبحة في وسط القاهرة, وتشمت كل يوم في من يموت أو يُسجن دفاعا عن كلمة الحق.
العدو الصهيوني هو المستفيد الوحيد السعيد من تلك الشماتة, فمعرفتهم بوجود «مصري» يشمت في أن إسرائيل «بتدي» المقاومة الفلسطينية على دماغها هو عار علينا.
(2)
على الصعيد الرسمي أصدرت الخارجية المصرية بيانًا مخجلًا أعربت فيه عن قلقها «الشديد» من استمرار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية, وأن العنف المتبادل (في التعبير مساواة ما بين القاتل المغتصب والضحية التي تقاومه) قد يعقّد الموقف ويزيد صعوبة العودة للمباحثات التي تقود إلى تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني وإقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية (!!!).
تاني, القدس الشرقية تااااني! قلناها بدلًا من المرة ألف, بل مليون, اسمها القدس الموحدة, لا يوجد شيء اسمه القدس الشرقية, الصهاينة أعلنوا القدس كلها عاصمة لهم في دستورهم, فلماذا نتنازل نحن ونطالب بجزء من الكل.
وقامت القوات المسلحة بإرسال 500 طن من المساعدات الطبية والغذائية إلى قطاع غزة في موكب كبير من السيارات التي تحمل لافتات كبيرة مكتوبًا عليها "إهداء من الشعب المصري".
إرسال المؤسسة العسكرية لتلك المساعدات فيه رسالة غير مباشرة بأن القضية الفلسطينية - رغم التشويه المستمر لها- موجودة دائمًا في وجدان المصريين. ولكن سيغضب البعض لانتقادي هذا, أنا ضد اللافتات, فالمساعدات الإنسانية ليست هدية, إنها واجب.
عربات المترو من الشعب الياباني هدية, عربات الإسعاف من إيطاليا هدية, ولكن مساعدات إنسانية لبشر يموتون من عدوان غاشم وظالم ليست هدية.
(3)
كان لواقعة استشهاد محمد الدرة أثناء احتمائه ووالده من رصاص قوات الاحتلال في عام 2000 وقع قوي على نفوس الجميع, في مصر وخارج مصر.
رمزية احتماء الابن في الأب ثم موته بين يدي أبيه الذي لم يستطع حمايته حرّكت شيئًا من الإنسانية داخل نفوس البشر.
استشهاد محمد الدرة كان منذ أربعة عشر عاما, وفي تلك الأعوام شاهدنا الكثير من القتل حتى فقد القتل دهشته وتبلدنا واعتدناه, وأصبح القتلى والجرحى مجرد رقم نستمع إليه في نشرة الأخبار التي نشاهدها فقط لنعرف طقس الغد.
إليك ما يجب أن تفعله قبل أن تكتب كلمات غير ذكية, ارجع بظهرك إلى الوراء وانظر للصورة كاملة, حاول أن تجد انعكاسًا لنفسك في قصة من آلاف القصص التي تأتي من فلسطين.
محمد الدرة كان أصغر مني حينها ببضع سنين عندما استشهد.
الأب الذي حاول أن «يحايل» الموت بأن يأتي بالحاجات لابنه الشهيد قد يكون من سني الآن أو أكبر قليلا.
تذكر أنها أرض المقدسات، احرص على ألا تشمت في موت فلسطين, وقم بواجبك تجاه أن نسترجعها كلها وليس جزءًا منها.
تذكر أنه قد يأتي عليك اليوم الذي لا تستطيع أن تأتي فيه بالحاجات لابنك.
فلسطين المقاومة شقيق وحبيب, وإسرائيل عدو, علموها لأبنائكم.