انتظر قليلا وخذ نفسا عميقا من الهواء النقى- إن كان هناك هواء نقى جدلا- قبل أن تقرأ هذا المقال، فنحن سندخل الآن إلى جُحر، وهو ليس كأى جُحر ولكنه «جُحر السبع» الذى قد لا تستطيع التنفس فيه قبل أن تخرج منه، إذ هكذا كان حالى عندما شرعت فى قراءة الرواية المشوقة «جُحر السبع» للروائى الشاب سامح فايز حيث قرأتها فى نفس واحد، وحين كنت أظن أن أحداث الرواية ستدور فى القرية التى تحمل هذا الاسم، فإذا بالرواية تأخذنى من المكان إلى الإنسان، وإذا بجحر السبع ليس القرية التى ولد فيها بطل الرواية الشاب يوسف، لكنه حفرة مظلمة لا تعرف الحياة اسمها «الإسلام المزيف».
وقد يبدو لك مستهجنا أن نضع كلمة المزيف بعد كلمة الإسلام، فالإسلام هو دين الرحمة والسلام والعدالة والمحبة، ولكن الجماعات التى نزعت من الإسلام هذه المقاصد دفعتنا إلى تكذيب دينهم واتهامه بالزيف، فليس ديناً ذلك الذى ينزع الرحمة من مقاصده، وليس إسلاما ذلك الذى لا يعرف السلام، لذلك كان إسلام هؤلاء غير الإسلام الذى نعرفه، ولكن من هم هؤلاء؟ «هؤلاء» هم من أفسدوا علينا حياتنا وسعوا إلى إفساد ديننا، ولكن من حسن حظنا أن يكون الروائى الشاب سامح فايز هو أحد الضحايا الذين وقعوا فى براثن هذا الجحر وهذه الجماعات مذ أن كان طفلا صغيرا غريرا، إذ إن وقوعه فيه أتاح له أن يكتب لنا هذه الرواية التى كانت بمثابة محاكمة إنسانية أدبية بديعة لـ«جحر السبع» وترهاته وأغلاطه التى شوهت نفوسا، وأفسدت قلوبا.
يوسف الطفل الصغير بطل رواية سامح فايز، نشأ فى قرية «جحر السبع» وقبل أن يشب عن الطوق كان قد وقع فى براثن الحفرة، فإذا بأصحاب الحفرة يرسمون له طريقه، ويضعون أمامه صورة متخيلة عن ربهم، فهذا الرب هو صانع النار، والحارس الأكبر لها، وهو الذى وضع الحياة كلها فى سلة الحرام، ليس مباحا لك أيها الطفل يوسف أن تناقش أو تفكر أو تعترض، فأنت ما أنت إلا واقع فى الحرام إن لم تأخذ بتعاليم «أهل الحفرة»، لا تنظر إلى البنات ولا تلعب معهن حتى ولو كنت طفلا صغيرا، فإذا ارتدت الطفلة غطاء الرأس أصبح محرما عليها إذا مرت بهذا الطفل وهو جالس أمام داره أن تلقى عليه السلام، أو أن تحادثه، ويصبح محرما عليه أن ينظر لها أو يكلمها، وحينما كانت نفس الطفل يوسف تناقشه عن الدواعى لهذا الأمر كان التهديد الذى وضعوه فى عقله يقفز سريعا أمامه: احذر يا يوسف فإن الله سيمسخك قردا أو خنزيرا كما فعل باليهود، ولكن الطفل يكبر والأسئلة تتكاثر على ذهنه: لماذا يغضب الله حين ألعب مع جارتى الطفلة الصغيرة؟ ولماذا يغضب لدرجة إدخالى النار إذا نسيت يوماً أداء الصلاة.
وحين تمر السنون بيوسف وأسرته الصغيرة الفقيرة، ويموت أبوه فى أحد المستشفيات الحكومية الفقيرة تدور ثورة مكبوتة فى نفس الغلام: لماذا لا يقف الله مع الفقراء ومرضى الفقراء، بل لماذا جعلنا فقراء من الأصل؟ ولماذا يكون نصيبنا من المتعة فى الآخرة فقط دون الحياة الدنيا؟ لا يجد يوسف إجابات لأسئلته عند الجماعة الإسلامية التى قامت بتجنيده، فتلك الجماعة لا تعرف إلا الحرام والحرام، وحين تشتد أسئلته كانوا يعطونه كتيبات صغيرة تشرح عذاب القبر، وأهوال يوم القيامة، لذلك كان لابد أن يتمرد يوسف بعد أن دخل إلى فترة المراهقة.
وفى التيه يأخذنا الكاتب ببراعة شديدة بأحداث شديدة التشويق إلى مناطق ملغومة، فذلك الفتى الذى كان يعيش فى دائرة الحرام أصبح يعيش على أرض الإلحاد، ومع فقر المال والبحث عن فرص العمل، وفقر الفكر والسعى فى الآن ذاته لاستكمال التعليم تستمر رحلة التيه مع يوسف، كان يوسف هو البطل الظاهر فى تلك الرحلة ولكن جماعته الإسلامية كانت هى الخلفية التى انتقم منها بالإلحاد، لم يكن ينتقم من الدين الصحيح أو يهجره أو ينقم عليه، لكنه رفض دين تلك الجماعات، فظن أنه حين تمرد عليها إنما يكون قد تمرد على الدين كله لأنه لم يعرف الدين إلا من خلال هذه الجماعات.
«جُحر السبع» لم تكن قرية، وكذلك لم تكن رواية، لكنها كانت حياة كاملة مشحونة بالأحداث والشخوص والأفكار والآلام، إلا أننى لا أعرف لماذا لم يستظهر الكاتب آلام بطل روايته وهى كثيرة، كنت أشعر بها مستبطنة فى داخله وكأنه لا يستطيع أن يصرح بها! كما لم أفهم لماذا استخدم الكاتب فى روايته بعض الألفاظ الخارجة التى لا تستخدم إلا بين الساقطين، وكان يستطيع أن يستخدم ألفاظا قريبة تؤدى نفس المعنى ولكن تحتفظ للقارئ بحيائه، وأغلب الظن أن الكاتب استخدم على لسان البطل هذه الألفاظ ليبين لنا مدى تمرده، فهذا ما أستطيع أن أقول عنه إنه «الواقعية المسطحة» ولكن الرواية تصنع لنا واقعها الخاص بها، ويختلف الروائى مع الآخر فى قدرته البنائية، ومدى إبداعه اللغوى، فضلا عن باقى النواحى الفنية الأخرى، ويظل التفرد محفوظا لذلك الروائى الذى يستطيع أن يصيبنا بالدهشة بلغة راقية مشوقة، وقد أصابنى سامح فايز بالدهشة.