ختلف كل شيء تقريبا في مصر والعالم خلال العقود الستة التي تفصل بين ثورتي23 يوليو 1952 و25 يناير .2011 تبدلت أحوال مصر سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وعلي كل صعيد. واختلف العالم الذي شهد نقلات نوعية في هياكل القوة وأنماط العلاقات.
ولكن أمرين أساسيين لم يتغيرا في مصر خلال العقود الستة الأخيرة, وإن اختلف الكثير من تفاصيلهما, وهما الأمراض السائدة في حياتها السياسية والاجتماعية, والنفوذ القوي لقيادة القوات المسلحة وجماعة الإخوان المسلمين. ازدادت أمراض النخب السياسية والاجتماعية والثقافية كما ونوعا وتفاقم مرضها العضال وهو الانقسام والتشرذم والتشتت والعجز عن بناء حد أدني من التوافق وعدم القدرة علي إجراء حوار جاد موضوعي. واختفت قيادة القوات المسلحة من الصورة الظاهرة منذ حل مجلس قيادة ثورة 1952 وتراجع دورها السياسي وتقلص تماما, ولكنها ظلت علي رأس المؤسسة الأكثر تنظيما وانضباطا وحرفية علي المستوي الرسمي. ولذلك صارت هي المؤهلة لالتقاط السلطة في المرحلة الانتقالية قبل أن يلقي بها علي الرصيف, بخلاف مافعلته القيادة العسكرية في تونس مثلا.
وفي المقابل, ظلت جماعة الإخوان المسلمين هي التنظيم الأكبر والأكثر تماسكا وانضباطا خلال العقود الستة بالرغم من المحنة الهائلة التي تعرضت لها منذ أكتوبر 1954 وحتي مطلع سبعينات القرن الماضي, والضربات والملاحقات التي أعقبت إنهاء تلك المحنة واستمرت في العقود الثلاثة الأخيرة.
وقد أدي استمرار أمراض النخب السياسية وازديادها من ناحية وبقاء القوات المسلحة وجماعة الإخوان باعتبارهما القوتين الأكبر والأقوي, مع اختلاف كثير من التفاصيل, إلي إعادة إنتاج بعض ملابسات ومشاهد الفترة التالية لثورة 23 يوليو بعد ثورة 25 يناير, بالرغم من الاختلاف شبه الكامل في الظروف والأحوال داخليا وعالميا, والتباين التام في طبيعة كل من الثورتين.
ولذلك فليس غريبا مقارنة بعض المشاهد والتفاعلات التي حدثت, ولا تزال, منذ 12 فبراير 2011 بأخري وقعت في الفترة من 24 يوليو 1952 إلي 27 أكتوبر 1954, بالرغم من الاختلاف الشديد بين الحالتين علي المستوي الكلي.
ولا يقلل انتقال جماعة الإخوان المسلمين من موقع المعارضة إلي السلطة, بعد انتخاب د. محمد مرسي رئيسا وتنصيبه رسميا في 30 يونيو الماضي, أهمية هذه المقارنة لأنه قد يكون بدوره اختلافا في التفاصيل لثلاثة أسباب أولها أن جماعة الإخوان كانت شريكا لتنظيم الضباط الأحرار في الإعداد للانقلاب العسكري الذي حدث يوم 23 يوليو 1952 ثم تحول إلي ثورة بفضل قيادة جمال عبد الناصر.
أما السبب الثاني فهو أنه رغم الاختلاف السريع الذي حدث علي كيفية مشاركة جماعة الإخوان في الحكومة, وكان بداية خلاف أخذ يتسع حتي أفضي إلي صدام مروع, فقد وقفت هذه الجماعة وراء محمد نجيب عندما أصبح رئيسا للجمهورية التي أعلنت في يونيو 1953 إلي الحد الذي جعل مصيرهما مشتركا حيث اقترن حل الجماعة ومطاردتها بإقالته وتحديد إقامته.
ويبقي سبب ثالث قد يكون موضعا لاجتهادات مختلفة وهو أن الرئيس الإخواني تولي مهام منصبه في ظل حالة ازدواج في السلطة نتيجة استمرار المجلس الأعلي للقوات المسلحة في قلبها, الأمر خلق صراعا بينهما منذ اليوم الأول. وقد لا يختلف هذا الوضع في جوهره رغم اختلاف تفاصيله كلها عما حدث في العلاقة بين محمد نجيب الذي سانده الإخوان ولم يكن منهم- ومجلس قيادة الثورة, ودون أن يعني ذلك تشابها في نتيجة هذا الصراع بالضرورة.
وفي هذا السياق العام, قد يكون مفيدا تأمل المقارنة بين خمسة مشاهد حدثت بعد ثورة23 يوليو وأخري وقعت ولا يزال بعضها مستمرا بعد ثورة 25 يناير. فهناك- أولا مشهد تعيين رشاد المهنا القيادي في جماعة الإخوان ضمن الأوصياء الثلاثة علي العرش عقب إبعاد الملك فاروق, ومشهد تعيين القيادي أيضا في الجماعة صبحي صالح ضمن لجنة التعديلات الدستورية فضلا عن اختيار المستشار طارق البشري المعروف بتوجهه الإسلامي رئيسا لهذه اللجنة.
ولدينا ثانيا مشهد دعم الإخوان لمجلس قيادة الثورة في موقفه ضد الأحزاب والقوي الأخري وإلغاء الاتحادات الطلابية في الجامعة بعيد ثورة 23 يوليو, ومشهد انفصال الإخوان عن كثير من القوي الثورية التي أدركت مبكرا أنه لابد من البقاء في الميدان والوجود في الشارع. وارتبط تغير موقف الإخوان من مساندة مجلس قيادة الثورة ضد قوي أخري إلي الحياد بين المجلس الأعلي للقوات المسلحة والثوار باختلاف علاقتهم مع كل من المجلسين.
ويمكن الإشارة ثالثا إلي مشهدين يتعلقان بالأزمة الدستورية في الحالتين: أولهما مشهد الاعتراض الواسع علي قرار مجلس قيادة الثورة الصادر في13 يناير1953 بتعيين لجنة من 50 عضوا لوضع مشروع دستور جديد بدلا من دستور 1923 الذي ألغاه هذا المجلس. فقد حدث جدل وصراع علي مدي عام1953 حول هذه اللجنة, حيث رفض البعض الاعتراف بها وطالبوا بلجنة منتخبة. ورغم أن المجلس رفض وأصر علي اللجنة المعينة, فقد تجاهل في النهاية مشروعها بدعوي أنه لا يحقق أهداف الثورة. وثانيهما مشهد الصراع علي الجمعية التأسيسية للدستور والذي لا تزال فصوله تتوالي حتي الآن. وفي هذين المشهدين تفاصيل مثيرة تستحق مقارنة مستفيضة في وقت لاحق.
وهناك رابعا مشهد بداية الصراع بين جماعة الإخوان ومجلس قيادة الثورة وإرهاصاته الأولي التي أعقبت إعلان هذا المجلس في يناير 1953 تأسيس هيئة التحرير التي اعتبرتها الجماعة تحديا لدورها, والمشهد الاستهلالي للصراع بين الإخوان والمجلس الأعلي في بيانهم شديد اللهجة الصادر في أول سبتمبر 2011 تحت عنوان (المرحلة الخطيرة التي تمر بها مصر الثورة) وانتقدوا فيه محاولات تأجيل الانتخابات البرلمانية لكي يبقي هذا المجلس في السلطة.
ولدينا آخيرا وليس أخرا مشهد مساندة بعض الأحزاب والنقابات العمالية والقضاة لمجلس قيادة الثورة أو بالأحري للجناح الذي قاده عبد الناصر ومطالبته بالاستمرار, ومشهد دعم بعض الأحزاب والهيئات والقضاة للمجلس الأعلي للقوات المسلحة ولكن بشكل غير مباشر في الأغلب الأعم وبصراحة في حالات نادرة.
وتدعو هذه المقارنة إلي التأمل في نتائج الصراع الجاري علي السلطة والذي سيستمر حتي وقت ما في العام القادم إذا بقي في صورته الناعمة الراهنة, وإلي أي مدي ستختلف عما انتهي إليه الصراع الذي حدث بين 52 و.1954