ع مطلع السنة الميلادية الجديدة وفى نهاية شهر يناير الحالى ستأتى الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير والتى نجحت فى خلع الرئيس السابق حسنى مبارك وأغلقت ملف التوريث نهائيًا فى مصر.. وألغت سيطرة الحزب الوطنى على مقدرات الحياة السياسية والاقتصادية فى مصر.. وأنهت الإقصاء السياسى لفصائل مصرية كثيرة على رأسها وفى مقدمتها التيار الإسلامى.. حيث ذاق الإقصاء بدرجاته المختلفة بدءًا من الإقصاء السياسى انتهاءً بالسجن والتعذيب والقتل خارج إطار القانون.
> وقد بدأت الثورة المصرية بداية جيدة ولكن بمرور الأيام بدأت الأعراض الجانبية للثورة تظهر للعيان مما أفقدها رصيداً كبيراً من ثقة عوام المصريين فيها.
> فالثورة كالأدوية لها فوائد عظيمة وكثيرة وحاسمة فى علاج أمراض كثيرة من أمراض المجتمع.. وكذلك لها أعراض جانبية كثيرة.
> والغريب أن الثورة المصرية كلما مر بها الوقت كلما ظهرت أعراضها الجانبية لعوام المصريين فضلا ً عن خواصهم.. ولم أرَ ثورة فى تاريخ حياتى ينقص رصيدها كل لحظة مثل هذه الثورة.. إننى لم أتوقع ذلك أبدا ً.
ومن أهم الأعراض الجانبية التى رصدتها على عجالة:
1 - تحول الثورة المصرية من السلمية إلى المولوتوفية والحرق.. فقد سنت سنة الحرق فى مصر.. ناسين أن الحرق بالنار قد اختص الله به نفسه دون سواه فى الآخرة وحدها دون الدنيا.. وكانت البداية فى أيام الثورة بحرق أقسام الشرطة والمبنى الرئيسى للحزب الوطنى.. فاحترق كل شىء بعد إقرار هذا الحرق فحرقت مئات الكنائس وعدة مساجد و200 قسم شرطة و50 نيابة و10 محافظات فى عام 2013 وحده.. فضلاً عن حرق كل مقار الحرية والعدالة ومقار الإخوان.. وبذلك تكاد تكون مصر قد حرقت كلها.
2 - بدأت الثورة بتوحد جميع أطياف المجتمع المصرى فيها ومعها.. فرأينا المسلم بجوار المسيحى.. والمنتقبة بجوار المتبرجة.. والإسلامى يهتف بهتاف واحد مع الليبرالى والاشتراكى واليسارى.. وينقذ كل منهم الآخر إذا جرح.. ولكن بعد نجاح الثورة بقليل بدأ الاستقطاب الحاد فى المجتمع المصرى حتى وصل إلى أسوأ صوره.. فهناك حالات استقطاب حادة بين المسلمين والمسيحيين.. وبين الإسلاميين والليبراليين واليساريين.. وبين الإخوان والسلفيين لينتقل الاستقطاب إلى المعسكر الإسلامى نفسه.. ثم تحول الاستقطاب إلى حرب ثم تكفير وتفجير.
3 - بدأت الثورة بشعار «الجيش والشعب أيد واحدة».. وشعاره «الجيش والثوار أيد واحدة».. ثم ما لبث الزمان يدور سريعاً وفى أقل من عام تبدلت هذه العلاقة الجيدة إلى شقاق وخلاف وصل إلى مرحلة العداء بعد أن أريقت دماء الفريقين على يدى الآخر.. أو على يد طرف ثالث مجهول لا يقتنع الثوار بوجوده.
4 - بدأت الثورة واعدة بكل خير ورخاء وأمن واستقرار سياسى وعدالة اجتماعية.. وبعدها كادت الدولة أن تنهار وبدأت الخروقات الأمنية تطال مصر كلها وأصبحت سيناء شبه منعزلة أمنيا وفشل الاقتصاد فى النهوض وبدأ طبع البنكنوت دون غطاء وضاعت السياحة.. وعادت مصر للاستدانة مرة أخرى من الخارج ومن صندوق النقد الدولى.. فضلا ً عن استنزاف جزء من الاحتياطى الاستراتيجى فى البنك المركزى.. مما جعل محافظ البنك المركزى المصرى يشكو حاله إلى الجميع.
5 - فشل الثوار فى تحويل الثورة إلى دولة.. ورغبة البعض فى هدم المؤسسات دون أن تكون له رؤية لبنائها وإصلاحها.. لأنه أضعف من ذلك وفشل بعضهم أخلاقياً فى التمسك بالقيم النبيلة ودخولهم فى مهاترات كلامية وتربح البعض منهم دون عمل.
6 - رغبة كل فصيل سياسى مصرى بأن يستأثر وحده بكعكة الثورة والحكم ويقصى الآخرين.. ومحاولة الجميع ركوب الثورة لتحقيق أهدافه الحزبية دون أهداف الوطن.
7 - اعتقاد بعض الثوار أنه ينبغى على المجتمع المصرى أن يفوض الثوار فى حكم مصر تفويضاً كاملا ً.. لأن الثائر أولى الناس بالحكم.. وهذا خطأ كبير من كل النواحى.. فقد ثار القذافى وصحبه وكانوا من أسوأ ما ابتليت بهم ليبيا.. وثار جمال عبدالناصر ورغم عقله ووطنيته واستقلاله بالقرار الوطنى إلا أنه ألغى الديمقراطية المصرية العريقة وأضر بالاقتصاد المصرى.. ولحقت حكمه الهزيمة تلو الأخرى.
وقد ثار من هو أفضل من هؤلاء وهو سيدنا أبوذر الغفارى أصدق الناس لهجة على سيدنا عثمان وكان يريد أن يسوى بين الأغنياء والفقراء.. ولكن الصحابة جميعاً رفضوا منطقه.. وقد سأل قبل ذلك رسول الله «صلى الله عليه وسلم» أن يكون أميراً وحاكماً.. فقال له الرسول «صلى الله عليه وسلم»: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة».
والضعف هنا ليس ضعف الإيمان أو اليقين أو الصدق أو الإخلاص.. ولكنه الضعف الإدارى والسياسى والاستراتيجى مع عدم القدرة على إدارة شؤون الدولة.
فالثائر عادة يكون شاباً هائج الأعصاب يحسن الهدم لا البناء.. يحسن الجدال لا كسب الأصدقاء.. شديد الحماسة عميق الوطنية عف اليد ولكنه قليل الخبرة فى السياسة والاقتصاد والإدارة والعلاقات الخارجية.. قد يحسن الصراع مع القوى السياسية الأخرى.. ولكنه قد لا يحسن التوافق معها.. يرد إلغاء الأجيال الماضية.. ظناً منه أنه أول من أصلح فى مصر وآخر من سيصلح فى مصر.. وقد عشنا جميعاً ً بعض هذه المعانى فى شبابنا.
8 - رغبة كل مؤسسة من مؤسسات الدولة السابقة فى بقاء امتيازاتها ونصيبها من السلطة وبقاء الفاسدين فيها وحمايتهم والذود عن فسادهم.. بل وصل الأمر إلى طلب كل مؤسسة تقنين هذا النصيب بحيث يصبح حقاً قانونياً مكتسباً.
9 - وقوع الحركة الإسلامية فى أخطاء كثيرة أهمها:
أ- الخلط المعيب بين «العقائدى والدعوى الثابت.. وبين السياسى المتغير».
ب - إدارة الدولة بعقلية الجماعة.. وتقديم مصلحة الجماعة على الدولة واختصار الدولة فى الجماعة.. ومحاولة إدخال الدولة فى الجماعة قسراً مما أدى إلى ضياع الاثنين.. وعدم التفريق بين الدينى المقدس والسياسى الغير مقدس.. وتقديم الشرعية على الشريعة وحقن الدماء.. وعدم التفريق بين الشرعية والشريعة.. وشعور الجماعة أنها أقوى وأهم من الدولة وتقديمها السيطرة والصراع مع المؤسسات على احتوائها.
10 - الاحتكام فى الصراعات السياسية إلى المظاهرات والتجمعات والحشود التى تغلب عليها العاطفة وإنزال هذه الصراعات من لقاءات النخب العاقلة التى تقبل الحلول الوسط إلى المليونيات الحاشدة التى تدعو للحرب والنزال وتأسر الخطيب والمستمع بخطاب حنجورى عدائى إقصائى حربى مدمر مما أدى إلى التفجير والحرق والقتلى والجرحى فى كل مكان.
11 - الثورة جاءت لإلغاء الإقصاء فوقعت كل القوى السياسية فى أسوأ إقصاء فى تاريخ مصر الحديث.. والآن لا يطيق أحد أن يرى الآخر.. فطرف فى الحكم.. والآخر فى السجن.. وسلم لى على الثورة.
هذا بعض ما تذكرته الآن وأرجو من القارئ ألا يلومنى على أى عنصر هام نسيته.