هذه الواقعة بطلها شاب مغربى يدعى رشيد رافع، يبلغ من العمر 37 سنة، ويعيش فى فرنسا، وصلت تحريات للسلطات الفرنسية تؤكد أنه على علاقة بتنظيم إرهابى، وطلبت السلطات المغربية تسلمه، فرحبت السلطات الفرنسية وقررت ترحيل رشيد رافع إلى المغرب، قدم رافع اعتراضات قانونية على قرار ترحيله أمام المحاكم الفرنسية، فرفضتها جميعا وأصبح ترحيله إلى المغرب فى حكم المؤكد، فى محاولة أخيرة قدم رافع اعتراضا على قرار ترحيله أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، وهنا حدثت المفاجأة، فقد رفضت المحكمة الأوروبية ترحيل رافع إلى المغرب. استأنفت الحكومة الفرنسية، فرفضت المحكمة الأوروبية الاستئناف فى 5 نوفمبر الماضى، ليصبح قرارها نهائيا، وتصبح الحكومة الفرنسية ممنوعة- بحكم القانون- من تسليم رشيد رافع إلى المغرب.. استندت المحكمة الأوروبية فى حكمها إلى تقارير الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية التى تؤكد انتشار التعذيب فى سجون المغرب، الأمر الذى يجعل رشيد رافع يواجه خطر التعرض للتعذيب إذا تم تسليمه إلى بلده.
هذا واحد من من أحكام عديدة أصدرتها المحاكم الأوروبية فى السنوات الأخيرة، وكلها ترفض تسليم مواطنين عرب متهمين بالإرهاب إلى بلادهم، خوفا من تعرضهم إلى التعذيب أو إحالتهم إلى محاكمات غير عادلة.. عزيزى القارئ أستطيع أن أتخيل دهشتك وأنت تقرأ أن قاضيا أوروبيا يحمى أحد الإرهابيين من التعذيب.. لعلك تتساءل: ألا يعرف هذا القاضى أن هذا الإرهابى المجرم لن يتردد فى قتله هو شخصيا إذا سنحت فرصة؟!.. لماذا لا يقوم إذن بتسليمه إلى بلده، حيث يتم تعذيبه جزاءً على إرهابه؟!
إن هذا الحكم من محكمة حقوق الإنسان الأوروبية يعطينا درسين مهمين: إن القانون يحمى حقوق أى إنسان بغض النظر عن أفعاله، حتى القتلة ومغتصبى الأطفال والجواسيس ومرتكبى أبشع الجرائم يجب أن نحمى حقوقهم وكرامتهم أثناء تقديمهم لمحاكمة عادلة. الدرس الثانى أن القانون يجب تطبيقه على الجميع بغض النظر عن جنسياتهم، فقد قامت المحكمة الأوروبية بحماية الشاب المغربى بنفس الطريقة التى تحمى بها المواطن الأوروبى.
هذا المفهوم النبيل للقانون يوجد فقط فى البلاد الديمقراطية، أما فى بلادنا فنحن نعتبر أن ارتكاب أى جريمة ينزع عمن ارتكبها حقوقه الإنسانية. انظر ماذا يفعل الناس عندما يكتشفون نشالا فى الأتوبيس، إنهم يتفننون فى ضربه والتنكيل به حتى إنه كثيرا ما يتوسل إليهم حتى يسلموه للبوليس. لعلنا نذكر ما حدث من شهور فى منطقة أبوالنمرس بمحافظة الجيزة، عندما قام الأهالى بقتل عدة مواطنين يعتنقون المذهب الشيعى وسحلوهم فى الشوارع وسط صيحات التكبير والتهليل وزغاريد الفرحة من النساء. إن القاضى الأوروبى الذى قام بحماية الإرهابيين من التعذيب لا يتعاطف مع الإرهاب، لكنه يعرف أن واجبه حماية كرامة الإنسان وحقوقه حتى لو كان إرهابيا، حتى يقدم إلى محاكمة عادلة تقضى عليه بعقوبة قانونية. المحاكمات العادلة هى الفرق بين القبيلة والدولة وبين الهمجية والتحضر.. فى عام 1906 عندما حكم الاحتلال البريطانى بإعدام أربعة فلاحين مصريين ظلما، فى حادثة دنشواى الشهيرة، كتب الكاتب الإنجليزى الكبير جورج برنارد شو:
- «إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تريد أن تحكم العالم كما فعلت فى دنشواى.. فلن يكون على وجه الأرض واجب سياسى مقدس وأكثر إلحاحا من تقويض هذه الإمبراطورية وقمعها وإلحاق الهزيمة بها».
إن إحساسك بالشرف هو ما يدفعك دائما للانحياز إلى الحق والعدل، حتى لو اتخذت موقفا ضد بعض أبناء بلدك. إذا كنا متحضرين فيجب أن ندافع عن حقوق البشر جميعا حتى لو كانوا أعداءنا. لا أقول إن الغرب جنة العدالة، فهناك أيضا سنجد ظلما وعنصرية، لكن هناك دائما قانون يتم تنفيذه على الجميع بلا استثناء. عندما تورط الجيش الأمريكى فى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية فى معسكر جوانتانامو ومعتقل أبوغريب فإن الذين فضحوا هذه الجرائم صحفيون أمريكيون انتصروا للقيم الإنسانية ضد جيش بلادهم، لم يتهمهم أحد آنذاك بأنهم خونة وعملاء، ولم يحاكمهم أحد بتهمة الإساءة إلى سمعة القوات المسلحة الأمريكية، بل على العكس اكتسبوا احترام الناس لأنهم دافعوا عن القيمة الإنسانية للبشر جميعا بدون تمييز، لقد كان رمز العدالة دائما تمثالا يونانيا شهيرا يمثل امرأة تحمل سيفا فى يد وميزانا فى يد أخرى وهى معصوبة العينين، معنى التمثال أن العدالة يجب أن تكون عمياء تنفذ القانون على المواطنين بالتساوى بدون أن تراهم..
هذا المفهوم الراقى النبيل للعدالة لم يعرفه المصريون منذ عقود، فنشأت أجيال منهم وقد تعودوا على مفهوم العدالة الانتقائية، منذ أسابيع يعانى مئات اللاجئين السوريين مع أطفالهم وهم محبوسون بلا تهمة فى أقسام الشرطة بالإسكندرية، حيث يتم الاعتداء عليهم والتحرش بنسائهم يوميا، لأن بعض الإعلاميين اتهموا السوريين بمناصرة الإخوان، كما أن السلطات المصرية تعتبر انتهاك آدمية السوريين بهذا الشكل البشع أفضل طريقة لإقناعهم بالعودة إلى بلادهم. لاحظ الفرق المحزن: القضاة الأوروبيون يقومون بحماية إرهابى عربى من التعذيب، بينما أجهزة الأمن المصرية تتوحش ضد لاجئين مسالمين لا حول لهم ولا قوة، اضطروا إلى اللجوء إلى مصر هروبا من الموت على يد بشار السفاح.
العدالة فى البلاد الديمقراطية عمياء لا تميز بين الناس، أما العدالة فى مصر فهى تصنف الناس وفقا لاعتبارات كثيرة، طبقتك الاجتماعية ونفوذك وثراؤك ورضا الحاكم عنك، كل هذه عوامل ستحدد مصيرك إذا تم تقديمك للمحاكمة فى مصر. إن انعدام الإحساس بالعدالة كان من ضمن الأسباب الرئيسية لثورة المصريين، ولكن للأسف فقد سقط مبارك واستمر الظلم أثناء حكم المجلس العسكرى، وأثناء حكم الإخوان، ثم قامت موجة ثورية عظيمة فى 30 يونيو، لكن الظلم استمر والتطبيق المنحاز للقانون لايزال يتم بنفس الطريقة ونفس الأدوات.
مثلما كان مبارك يتربص بمعارضيه والمجلس العسكرى يتربص بمنتقديه راح الإخوان يتربصون بمعارضيهم، ونرى الآن السلطة الجديدة وقد بدأت تتربص بمعارضيها. فى الدول الديمقراطية تكون العدالة هدفا فى حد ذاتها، أما فى الأنظمة الديكتاتورية فإن العدالة انتقائية والقانون يستعمل كأداة للبطش وتأديب المعارضين. أثناء حكم المجلس العسكرى السابق انتقدت سياساته بشدة وطالبت فى مقالاتى بمحاكمة المسؤولين عن المذابح التى راح ضحيتها مئات المصريين، بدءا من محمد محمود، وحتى ماسبيرو وبورسعيد والعباسية وغيرها. فوجئت بإحالتى إلى المحاكمة العسكرية بتهمة الإساءة إلى القوات المسلحة مع أننى كنت أنتقد الأداء السياسى للمجلس العسكرى وأؤكد دائما احترامى واعتزازى بالجيش المصرى. أرسلت المحامى إلى القضاء العسكرى، وهناك قال له الضابط بصراحة:
- القضية موجودة فى الدرج. سوف نخرجها ونفتحها عندما نشاء.
الرسالة هنا أن القانون لا يستعمل لتحقيق عدالة حقيقية، وإنما يتخذ وسيلة للبطش بالمعارضين وتأديبهم حتى يصمتوا ويدخلوا فى حظيرة السلطة. إن التمييز بين المصريين أمام القانون يجرى الآن على قدم وساق وسط حالة من الهيستيريا الإعلامية تدفع المصريين إلى القسوة وإنكار حقوق كل من يختلف معهم. الإخوان جماعة إرهابية فاشية يرتكب أعضاؤها وأنصارها جرائم بشعة ضد الشعب والجيش والشرطة والكنائس.
هذا صحيح لكن الدولة يجب ألا تبادل المجرمين إجرامهم، بل يجب أن تطبق القانون عليهم بدون تحيز. كل يوم نرى أمثلة مؤسفة على التطبيق الانتقائى للقانون: الرئيس المعزول مرسى يقدم للمحاكمة بتهمة قتل المتظاهرين أمام قصر الاتحادية. هذا الإجراء صحيح، لكن مرسى أيضا مسؤول عن مقتل 52 مواطنا فى بورسعيد، لكنه حتى الآن لم يحاكم على هذه الجريمة، لأن شريكه فيها محمد إبراهيم، وزير الداخلية الحالى. الضباط الذين قتلوا المتظاهرين أثناء الثورة حصلوا جميعا على أحكام بالبراءة والضابط قناص العيون الذى تسبب فى فقء عيون عشرات المتظاهرين بالخرطوش حكم عليه بثلاث سنوات سجنا، بينما بنات الإخوان اللاتى تظاهرن ببالونات على كورنيش الإسكندرية حكم على كل واحدة منهن بالحبس 11 عاما.
لقد ناضل المصريون طويلا حتى انتزعوا حقهم فى التظاهر، ثم جاءت هذه الحكومة الانتقالية التى لا تملك حق إصدار القوانين لأنها غير منتخبة ولا تمثل إرادة الشعب. فوجئنا بها تصدر قانونا لتنظيم التظاهر يؤدى عمليا إلى منع المظاهرات ما لم ترض عنها السلطات. قام بعض الشباب الثورى بتنظيم مظاهرة سلمية أمام مجلس الشورى اعتراضا على القانون، فتم ضربهم وسحلهم، وتم التحرش بالمتظاهرات، ثم إلقاؤهن فى الصحراء، ثم تم القبض على أحمد ماهر وعلاء عبدالفتاح بتهمة التحريض على التظاهر بدون الترخيص فى نفس الوقت الذى تخرج فيه المظاهرات المؤيدة للفريق السيسى يوميا بدون الحصول على أى تصريح فلا يجرؤ ضابط على منعها أو مساءلة المسؤولين عنها.
عندما قام شاب إخوانى بصفع سيدة من مؤيدى 30 يونيو أحيل المعتدى فورا إلى المحاكمة، بينما قام الفريق السيسى بمقابلة السيدة وطيب خاطرها فى لفتة كريمة، ولكن بنات مصر اللاتى تم جذبهن من شعورهن وضربهن وسحلهن والتحرش بهن أمام مجلس الشورى لم يحاسب ضابط واحد من الذين اعتدوا عليهن، بل إن أحد الضباط قام بضرب السيدة زوجة علاء عبدالفتاح أثناء القبض عليه، وهو يعلم أن أحدا لن يحاسبه لأن علاء وزوجته ليسا من مؤيدى الفريق السيسى.
هذا التمييز يتم كل يوم فى مصر فى وسط حالة هيستيرية تشجع الناس على القسوة والظلم وتمارس الإرهاب على كل من يدعو إلى تطبيق القانون على الجميع. كل من لا يهلل مؤيدا لما تفعله السلطة الحالية تلاحقه الاتهامات بأنه عميل أمريكى من الطابور الخامس، أو خلية نائمة تابعة لتنظيم الإخوان.. لقد نزل ملايين المصريين يوم 30 يونيو للتخلص من حكم الإخوان وقد اشترك فى هذه الموجة الثورية كل طوائف المجتمع، لكننا نكتشف الآن أن جبهة 30 يونيو وإن كان هدفها واحدا لكن نوايا أعضائها كانت مختلفة.. الثوريون أرادوا إزالة حكم الإخوان من أجل تحقيق أهداف الثورة، بينما رجال النظام القديم أرادوا التخلص من الإخوان والثورة معا.
صحيح أن مصر تدافع عن نفسها ضد جماعات إرهابية تمارس أحط أنواع الجرائم يوميا، وصحيح أن واجبنا جميعا تدعيم الدولة المصرية حتى تنتصر على الإرهاب، لكن الصحيح أيضا أن الحرب على الإرهاب يجب ألا تتخذ ذريعة لظلم الناس، أو لتطبيق القانون بشكل انتقائى، أو لعودة الدولة القمعية. إن بناء الدولة الجديدة لن يتم أبدا إلا بعد تحقيق العدالة.
الديمقراطيه هى الحل