كنت أعرف الدعوة إلى التظاهر يوم 25 يناير 2011 قبلها بأسابيع، ولم أكن متفائلا بنجاحها، من تجارب سابقة تعلمت أن مثل هذه الدعوات مهما كانت درجة انتشارها على «فيس بوك» و«تويتر» تظل بمعزل عن الجمهور العريض، ودائما ما تنتهى بأعداد قليلة من المتظاهرين تحاصرهم السلطة بأعداد غفيرة من الجنود، مما يجعل المظاهرة عديمة الأثر. استيقظت مبكرا يوم 25 يناير، وعكفت على العمل فى روايتى «نادى السيارات»، كنت عازما على المرور فى المساء على المظاهرة، ولكن حوالى الساعة الرابعة بعد الظهر اتصل بى صديق وأخبرنى بأن المظاهرات حاشدة، فهرعت إلى ميدان التحرير لأجد المشهد المذهل: عشرات الألوف من المصريين محتشدون فى الميدان وقد غمرتهم الحماسة بنجاح المظاهرة، فراحوا يرددون الهتافات ويتناقشون حول مطالب التغيير.
فى المحافظات بدأت الشرطة قتل المتظاهرين منذ الصباح، أما فى ميدان التحرير فقد وقفت قوات الشرطة على الأطراف تنتظر التعليمات، وقد بدا على وجوه الضباط ما يشبه الذهول من كثافة أعداد المتظاهرين، ثم وصلت مظاهرة حاشدة من إمبابة فدخلت الميدان من ناحية وزارة الخارجية، انقض عليها جنود الأمن المركزى بالهراوات، لكن المتظاهرين لم يتراجعوا بل هجموا على الجنود، ولأول مرة فى حياتى أرى جنود الأمن يولون هاربين أمام المتظاهرين.
ارتفعت صيحات التهليل مرحبة بمظاهرة إمبابة، وأصبح الميدان ممتلئا عن آخره بمئات الألوف من البشر. رحت أتجول فى أنحاء الميدان وأتحدث إلى المتظاهرين، كانوا خليطا مصريا بامتياز: طلبة، ومهنيون من الطبقة المتوسطة، وعمال وفلاحون، ونساء محجبات ومنتقبات وسافرات من كل الطبقات. بعد منتصف الليل بقليل لاحظنا حركة غير عادية بين صفوف الضباط والجنود وفجأة انفتحت أبواب الجحيم:
أطلق الجنود علينا الغاز بكثافة مميتة، مئات القنابل انهالت علينا بلا هوادة من ثلاثة اتجاهات حتى صار ميدان التحرير يسبح فى غيمة من الغاز الخانق، وسقط العشرات مغشيا عليهم (بمن فيهم بعض الضباط). كان المخبرون ينتظرون فى الشوارع الجانبية ويقبضون على المتظاهرين الفارين من الغاز. ركضت بعيدا وسط مجموعة من المتظاهرين، ولأننى أعرف وسط البلد فقد سلكت شارعا صغيرا أوصلنا إلى شارع معروف، ثم ظللنا نركض حتى شارع طلعت حرب، وقفنا نلتقط الأنفاس وقد أدركنا أننا نجونا- ولو مؤقتا- من الغاز والاعتقال. مر بجوارنا عامل نظافة مسن يمسك بيده مقشة، وصاح فينا بصوت عالٍ:
- إياكم تسيبوا مبارك. إياك تجرح الحية وتسيبها. يا إما تخلص عليها يا إما حتلدغك.
كان صوته مشروخا وحماسيا، وبدت عبارته البليغة مدهشة لا تتسق مع مظهره البسيط. وجهت حديثى إلى الشباب الواقفين حولى قائلا:
- يا جماعة إحنا عملنا مظاهرة تاريخية. رأيى إننا نمشى دلوقت ونرجع الصبح.
ارتفعت أصواتهم معترضة، فقلت:
- هل تتصورون أننا سنخلع مبارك بمظاهرة واحدة؟ الأمر يحتاج إلى النفس الطويل.
اقترب منى شاب أسمر نحيل وصاح فى وجهى:
- اسمع. أنا من الإسماعيلية. معى بكالوريوس علوم وعمرى 30 سنة. أنا عاطل ولسه أبويا بيصرف علىَّ لا شغل ولا زواج ولا سفر. أنا جئت ومش راجع الإسماعيلية إلا لما مبارك يمشى. عاوز يقتلنى يقتلنى. أنا أصلا ميت. هى دى عيشة؟
تهدج صوته فجأة وأجهش بالبكاء. ساد الصمت وبدا أن الأمر قد حُسم. تحرك الشباب وأنا معهم عائدين إلى ميدان التحرير. هكذا بدأت أعظم تجربة فى حياتى. عشت 18 يوما فى ميدان التحرير، باستثناء ساعات قليلة أعود فيها كل صباح إلى بيتى لأطمئن أهلى أننى مازلت حيا. كان ميدان التحرير يشهد معجزة. نصف مليون رجل وامرأة معتصمون فى الخيام، يزداد عددهم فى المساء إلى مليون أو مليونى متظاهر. لم يشهد الميدان حادثة سطو واحدة ولا تحرش جنسى واحدة. تآلف عجيب بين أنواع متباينة من البشر لا يمكن أن يتفاهموا فى الظروف العادية. رأيت بنات أرستقراطيات يأكلن ويتبادلن الأحاديث الودية مع فلاحات بسيطات. رأيت شباناً أقباطاً يحمون المسلمين وهم يؤدون الصلاة. ذات يوم قال شاب ملتحٍ على المنصة:
- أنا مدين بالاعتذار لكل الزميلات السافرات غير المحجبات، لأننى تربيت على احتقارهن، وتعلمت فى ميدان التحرير أن هؤلاء السافرات كثيرا ما يكن أكثر شجاعة ونبلا من رجال إسلاميين ملتحين.
مازلت أذكر عبدالحكم وزير إعلام الميدان. رجل فى الأربعينيات، يعمل فى بنك، اشترى على حسابه ميكروفونا وسماعات وصار يقضى ليالى لا ينام حتى يستدعى من يتحدث للثوار. بجوار المنصة كانت أمهات الشهداء يجلسن وقد حملت كل واحدة منهن صورة ابنها الشهيد على صدرها. كنت أتحدث على المنصة كل ليلة، ولن أنسى أبدا مشهد مئات الألوف من المتظاهرين وهم يرددون بصوت كالرعد:
«يسقط حسنى مبارك». فى يوم 28 يناير نشر نظام مبارك القناصة فوق وزارة الداخلية وكل العمارات القريبة من الميدان. أثناء النهار كان القناصة يضعون مناديل بيضاء على رؤوسهم حتى يتفادوا انعكاس أشعة الشمس ويتمكنوا من التصويب، وبالليل كانت بنادق القناصة تصنع دوائر ضوئية تظل الواحدة منها تتحرك بيننا وكلما توقفت انطلقت رصاصة لتفجر رأس متظاهر.. الغريب أن رصاص القناصة المنهمر لم يؤد إلى انسحاب المتظاهرين أو فرارهم قط، بل على العكس كلما سقط شهيد كنا نحمله على أكتافنا ونواصل التظاهر.
قرأت فى بحث لعلم النفس أن الإنسان فى حالة الثورة يفقد شعوره بفرديته ويتحول إلى مجرد فرد فى مجموع، كل ما يهمه أن تحقق الثورة هدفها.. كل سلبيات الشخصية المصرية اختفت فى ميدان التحرير لتظهر أخلاق مصرية نبيلة مبهرة. أذكر مثلا أن المتظاهرين الذين تقمعهم وتقتلهم شرطة مبارك كانوا يرفضون تماما ترديد أى هتاف يسىء إلى سوزان مبارك.. لأن «شتيمة النساء ليست من أخلاق الثورة»، كما قال لى أحدهم.
ذات ليلة فى الرابعة صباحا كنت منهكا تماما، فدخنت سيجارة وألقيت بالعلبة الفارغة، اقتربت منى سيدة محجبة جاوزت السبعين وقالت بود حازم:
- من فضلك خذ علبة السجائر التى رميتها على الأرض وألقها هناك فى مكان القمامة.
أحسست بخجل والتقطت العلبة وألقيتها حيث طلبت، ولما عدت إليها ابتسمت وقالت:
- نحن نبنى مصر الجديدة العادلة المحترمة. لابد أن تكون نظيفة.
خلال أيام الثورة أكلت عشرات المرات مع المتظاهرين دون أن أعرف مرة واحدة من الذى أحضر الطعام.. كان أى شخص يحضر كميات من الطعام، ثم يتركها وسط الميدان ويمضى. لن أنسى الرجل المسن الذى يرتدى جلبابا مهترئا وشبشبا فى برد يناير (مما يدل على فقره المدقع) وهو يحمل كمية كبيرة من سندوتشات الفول تركها وسط المتظاهرين ومضى. كان صديقى المهندس يحيى حسين يمشى فى الميدان عندما اقترب منه رجل صعيدى وطلب منه أن يجد له مشتريا لتليفونه المحمول لأنه رجل سريح يكسب قوته يوما بيوم وقد نفدت نقوده فى الاعتصام.
ضغط يحيى حسين على الرجل حتى قبل مبلغا على سبيل السلفة، ثم فكر أن مثل هذا الرجل يوجد مئات وربما آلاف المعتصمين فى الميدان، الذين انقطعت بهم السبل وفقدوا أرزاقهم. أسرّ يحيى حسين بهذه المخاوف إلى الدكتور عبدالجليل مصطفى (أحد آباء الثورة)، فأعطاه الدكتور عبدالجليل من جيبه الخاص مبلغ 17 ألف جنيه ليوزعها على من يحتاج من الفقراء المعتصمين فى الخيام.
منذ أذان العشاء حتى طلوع الفجر ظل يحيى حسين يتجول بين خيام الفقراء، ثم عاد فى النهاية بالمبلغ كما هو لم ينقص جنيها واحدا. لقد رفض الفقراء فى الميدان جميعا أن يأخذوا أى نوع من المساعدات المالية. يضيق المجال عن ذكر عشرات الوقائع التى تؤكد النموذج الأخلاقى الرفيع الذى قدمته الثورة. طبقا لتقديرات الإعلام الغربى فقد اشترك فى ثورة يناير ما بين 18 و20 مليون مصرى، هم فى رأيى المصريون الأكثر شجاعة ونبلا ووعيا.
إنهم الجزء الحى النظيف فى جسد أمة بدت فى لحظة وكأنها تلوثت وماتت إلى الأبد.. ذكرياتى عن الثورة تحتاج إلى كتاب كامل، لكننى أسرد هذه الأحداث العظيمة التى سأظل فخورا بأننى عشتها، لأن الثورة تتعرض إلى حرب لطمسها من الذاكرة. جبهة عريضة معادية للثورة تطل الآن بوجهها القبيح لتنزع من تاريخ مصر واحدة من أعظم صفحاته. فلول نظام مبارك ورجال أعمال فاسدون يخافون من الثورة على مصالحهم، ورجال أمن كبار- حاليون وسابقون- كانوا لسنوات طويلة بمثابة جلادين للشعب يكرهون الثورة لأنها كسرت غطرستهم، وإعلاميون كذابون طالما ضللوا الشعب المصرى بتوجيهات من ضباط أمن الدولة الذين يتولون تشغيلهم، وسياسيون طالما عملوا خدامين لجمال مبارك وزينوا له وراثة حكم مصر وكأنها عزبة أبيه.
كل هؤلاء الساقطين يتطاولون على ثورتنا ويسخرون منها ويتهمونها بأنها مؤامرة أمريكية إخوانية. هذا الاتهام لغو فارغ لا يستحق الرد، فالإخوان تنصلوا من الثورة ولم يشاركوا فيها حتى تأكدوا من نجاحها فانضموا إليها، وخانوها مرات عديدة من أجل مصلحة الجماعة، كما أن الثورة كانت من أكبر الصفعات التى تلقتها الولايات المتحدة فى مجال السياسة الخارجية، يكفى أنها الثورة التى أطاحت بمبارك الذى كان بمثابة كنز استراتيجى للدولة العبرية- كما أكد قادة إسرائيل مرارا. حملات التشهير المسعورة تستمر ضد الثورة، تواكبها ملاحقات أمنية قمعية للناشطين الثوريين.
فى 30 يونيو نزل الشعب المصرى بكل طوائفه ليخلع الإخوان من الحكم، وأعلم أن واجبنا جميعا أن نساند الدولة فى حربها ضد الإرهاب الذى يقتل أبناءنا فى الجيش والشرطة، كل هذا صحيح، ولكن ما علاقة الحرب على الإرهاب بقمع شباب الثورة؟ إن حبس أحمد دومة وعلاء عبدالفتاح وزملائهما لن يقضى على الثورة لأنهم اشتركوا فى الثورة ولم يصنعوها، وإنما صنعها ملايين المصريين النبلاء الذين قدموا دماءهم من أجل الحرية والعدل والكرامة. أيها الفلول إذا أردتم القضاء على الثورة فاحبسوا ملايين المصريين الذين صنعوها. احبسوا مصر كلها لو استطعتم، لكن ثورتنا ستستمر وستنتصر بإذن الله، لأنها تنتمى إلى المستقبل وأنتم تنتمون إلى ماضٍ لن يعود أبدا.
الديمقراطية هى الحل