لم يكن «أمير» ضابطًا عاديًا، بل ضابط مثقف ناصري الهوى، بدأ في صعود سُلّم الخدمة في الثمانينيات، حيث تخرّج في كلية الشرطة في بداية عهد مبارك، وربما بسبب خلفيته الثقافية وشغفه بكتابات جمال حمدان ومتابعته لتقارير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، تم تعيينه في جهاز أمن الدولة.
كضابط في الصعيد في عز مجد سنوات الإرهاب، لم تكن مهمة «أمير» سهلة، فأفراد الجماعات يختبئون في مزارع القصب، ولا يمكنه العثور عليهم إلا بحرق الزراعات، والأرض ملك عائلات قوية لن تسمح له بهذه الخطوة، والعائلات تحمي أفراد الجماعات، لأن أحيانًا يكون من بينهم أبناؤها، ولأنها تخاف في أحيان أخرى من تهديدات تلك الجماعات.
هذا الوضع لم يترك خيارًا أمام «أمير» سوى استخدام طريقته التي اشتهر بها، اصطياد الأفراد المنتمين للجماعة وإخضاعهم للتعذيب للحصول على أكبر قدر من المعلومات التي تصل به إلى فرد آخر.
عُرف «أمير» بممارسة ابتكارات خاصة بالتعذيب كتعرية المتهمين وإجبارهم على المرور من خلال ممر يمتلئ بالمسامير، إلى جانب الصعق والضرب والتشكيلة المتنوعة من طرق التعذيب المختلفة التي عُرفت بها وزارة الداخلية في تلك الفترة.
أحد أصدقاء «أمير» في تلك الفترة سأله مرة: «ألا تخاف أن تقع في أيدي أفراد الجماعات ذات مرة؟«.
هنا وطبقًا لشهادة هذا الصديق، رفع «أمير الجحيم» ساق بنطاله وكشف عن مسدس صغير مربوط بساقه، وقال: «شايف المسدس ده، مش علشان أدافع عن نفسي، ده علشان لو شكيت للحظة إني وقعت في أيديهم أموّت نفسي.«
لكن بصبر وباستعداد للموت في أي لحظة، أكمل «أمير» مسيرته، حتى وقع على خيط بسيط جدًا ودرامي جدًا. أحد شباب الجماعة متورط في علاقة مع واحدة من زوجات أمير إحدى الجماعات. اصطاد هذا الشاب واستضافه ليومين في مكتبه، يقدم له أطيب الطعام وينام على أريكة وثيرة. وفي هذه الأثناء يمارس مهام عمله بشكل طبيعى يستجوب متهمين آخرين ويطلع على ملفات، والمتهم عاشق زوجة الأمير جالس يستمع ويشاهد ضيفًا على أمير الجحيم. في النهاية سأله أمير الجحيم: «هتتكلم؟.«
منحه الشاب سجلًا تفصيليًا بأماكن اختباء أفراد الجماعة والعائلات المتعاونة معهم، لكن حتى بعد حصوله على هذه المعلومات احتاج الأمر منه إلى شهور داخل البيروقراطية المصرية لوزارة الداخلية حتى يحصل على إذن بتنفيذ عمليات اقتحام وإزالة للزراعات التي يختبئ فيها شباب الجماعة، حصل على الإذن وتم تطهير المنطقة التي تقع ضمن سلطاته، كان أمير الجحيم يصنع مجده.
رفعت تلك العملية من أسهم «أمير الجحيم»، ترقى داخل الجهاز الأمني وأصبح أحد أبطاله، كان يتم تدريس عمليات «أمير الجحيم» لطلبة أكاديمية الشرطة، وأصبح نموذجًا لما يجب أن يكون عليه ضابط أمن الدولة داخل الجهاز. تطورت خبراته حتى إنه عمل في الخارج كممثل للحكومة المصرية للتعاون مع حكومات شقيقة في مجال مكافحة الإرهاب.
ثم جاءت ثورة 25 يناير المجيدة، وقتها كان «أمير الجحيم» قد أصبح من أبطال جهاز أمن الدولة في مكافحة النشاط الإرهابي. شاهدنا جميعًا الجماهير تقتحم مقرات أمن الدولة، وسمعنا حديثًا كثيرًا عن العدالة الانتقالية، والضحايا من الجماعات الإسلامية ومن إرهابيين الذين عذبهم أمير الجحيم بدأوا في الخروج من السجن، لإكمال مشروع التمكين. تاهت العدالة ولم يفكر أحدهم حتى في محاسبة الجلادين الذين عذبوا وقتلوا شباب تلك الجماعة.
على من اعتمد ضحايا التعذيب من أنصار المشروع الإسلامي للتمكين؟ بالطبع ليس هناك خير من ذات الجلاد، أصبح أمير الجحيم مساعداً للشاطر ورجله داخل الجهاز الأمني، سيجلس أمير الجحيم ويعمل لصالح أعداء الأمس. سيلتقي ويضحك ويتصافح ويشارك «أمير الجحيم» القيادات الإسلامية في عهد مرسي في وضع أُسس لما تصوروا أنه عالم جديد، وها هو بينما كان يحمل المسدس ليقتل نفسه في حال وقوعه بين أيديهم، يجلس بينهم ويصافح ويخطط ويبتسم.
ثم فجأة تأتي ثورة 30 يونيو المباركة، وتنقلب الأوضاع، وزملاؤه يعتبرونه خائنًا، فيتم تحويله للعمل بوظيفة إدارية.
بالطبع، فمهما كانت أخطاؤه لا يمكن أن يحاسب الجهاز أبناءه، لأن محاكمة كهذه كفيلة بفتح عشرات ومئات الملفات لا يريد أحد من جميع الأطراف فتحها.
هناك عشرات القصص الشبيهة بقصة «أمير الجحيم»، ربما لم يحن الوقت المناسب لكشفها، وكلها تمتلئ بعشرات التفاصيل التي تحتاج إلى التدبر والعظة، لكن أهم ما يمكن الاستفادة منه من تلك القصة أن الجريمة لا تفيد، والدولة الأمنية بشقيها العسكري والشرطي لا يمكن الاعتماد عليها للقضاء على الفاشية الدينية، وأن كلا الطرفين الفاشية الدينية والعسكرية، يحتاجان لبعضهما البعض، والرابط سيظل عميقًا بينهما وفي صراعهما المفتعل، فالشباب الذين باعوا عقولهم لأفكار عبد الماجد والزمر هم من سيدفع الثمن، مثلمًا سيدفع الثمن الآن آخرون يغنون بفرح تسلم الأيادي.
الأهم أن الاندفاع في موجة التطبيل لانتهاك العدالة والحق والتغاضي عن كل التجاوزات التي تتم الآن في حق الإخوان أو مؤيديهم، وهذا الرضوخ لتجاوزات السلطات الحاكمة في حق حرية الرأي والتعبير والانتهاكات المتصاعدة، لن يؤدي أبدًا للقضاء على خطر الإرهاب المتوهم، بل سيخلق وحوشًا جديدة أمثال «أمير الجحيم»، لنظل جميعنا في ضيافة أبدية لدى أمراء الجحيم