مساء الأربعاء، الثالث من يوليو/تموز 2013، وبعد فترة وجيزة عن موعد إنذار الـ 48 ساعة الذي كان وجهه للقوى السياسية بالتوافق، ظهر وزير الدفاع المصري الفريق عبد الفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة، ليعلن الإطاحة بالرئيس المنتخب، د. محمد مرسي. حرص السيسي على أن يحاط في ظهوره بشيخ الأزهر وبابا الأقباط، كما بممثل جبهة الإنقاذ محمد البرادعي، واثنين من حركة تمرد، ورئيس حزب النور السلفي؛ ليعطي الانطباع بأن إعلانه عن الإطاحة بالرئيس وتعطيل العمل بالدستور هو تعبير عن الإرادة الشعبية واستجابة لمطالب المتظاهرين ضد الرئيس. ولكن قرار الإطاحة بكل ملابساته يواجه معضلة افتقاد أي أساس قانوني أو دستوري.
هذه قراءة لعملية الانتقال الجديدة للسلطة في مصر، ومأزق إسباغ مسحة من الشرعية عليها، واحتمالات نجاحها، والعقبات التي تواجهها.
الطريق إلى الإطاحة
ليس ثمة شك في أن مرسي ارتكب أخطاء في إدارته لشؤون البلاد، وأن بين هذه الأخطاء ما وفر مادة لخصومه. ولكن المؤكد أن ليس بين هذه الأخطاء فرض برنامج إسلامي على البلاد، ولا أخونة الدولة. مسألة الأسلمة لم تكن محل جدل ملموس في الطريق إلى الإطاحة، وقد اتضح بعد أن تكاتف جهاز الدولة بأكمله ضد الرئيس أن اتهامات الأخونة كانت مجرد دعاية سياسية.
ولكن، وإلى جانب خطوات سياسية غير محسوبة جيدًا، مثل إعلان نوفمبر/تشرين الثاني 2012 الدستوري، ارتكب مرسي خطأين رئيسيين:
الأول: كانت ثقته المفرطة في قيادة الجيش الجديدة، التي عينها هو بعد إنهاء ازدواجية السلطة والتغلب على قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في أغسطس/آب 2012.
الثاني: كان تردده في إجراء تطهير عميق ومبكر لجهاز الدولة، عندما كانت شعبيته قوية. تجلت نتيجة هذين الخطأين في عجز إدارة مرسي وحكومته عن مواجهة سلسلة من الأزمات المعيشية، أدت إلى تصاعد وتيرة الامتعاض في صفوف قطاعات متزايدة من المصريين، الذين وقعوا بين مطرقة إعلام معادٍ للرئيس بشراسة غير مسبوقة، وسندان صعوبات الحياة المتزايدة.
التحول في موقف هذه القطاعات من الرئيس، كان هو المؤشر الخطر على تأزم وضع الرئيس والبلاد، بالرغم من الجدل حول حجم هذه القطاعات في احتجاجات 30 يونيو/حزيران 2013. الشرائح الأخرى، مثل أنصار النظام السابق، والأقباط، وغلاة المعارضين لأية مشاركة إسلامية في السلطة، لم يكن هناك طريقة لكسبها، بغض النظر عن إخفاقات أو نجاحات إدارة مرسي.
هذا على مستوى تداعي الأحداث، ولكن خلف الإطاحة ثمة سبب أكبر وأعمق، يعود إلى العلاقة الخاصة بين الجيش والدولة، التي لم تأخذ صيغة دستورية قط، ولا تجلت في نمط واحد منذ ولادة الجمهورية. ما عرفته مصر طوال الستين عامًا الماضية، وبغض النظر عن التقلبات، أن الجيش ظل شريكًا في الحكم وإن لم يستلم مسؤولية إدارة عملية الحكم. وربما يُعزى تحول موقف الجيش من نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في سنواته الأخيرة إلى أن قياداته استشعرت وجود توجهات جادة لتوريث الحكم من الرئيس السابق إلى ابنه، بما يهدد موقع ودور القوات المسلحة في تقرير وجهة البلاد.
مرسي، بالطبع، كان يدرك هذه السمة الراسخة في نظام الجمهورية، ولكنه اعتقد، ربما، أن مكاسب الثورة الشعبية ومطالبها، من ناحية، ونجاحه في التغلب على المجلس العسكري، من ناحية أخرى، منحته شرعية كافية، ووفرت مناخًا مواتيًا، لبناء دولة مدنية وإعادة الجيش بصورة نهائية إلى مهماته الدفاعية. والملاحظ، أن الاعتبارات التي سردها الفريق السيسي، في كلمته مساء 3 يوليو/تموز 2013، كأسباب للاختلاف مع الرئيس مرسي، تنصبّ جميعًا على رفضه سعي القيادة العسكرية إلى لعب دور سياسي يتمثل في طلبها منه تنفيذ بعض الاجراءات التي تعد بنظر القادة العسكريين ضرورية من أجل امتصاص حالة الاحتقان المتزايدة.
البحث عن الغطاء الشرعي
ليس من الواضح الآن إن كانت القيادة العامة للقوات المسلحة اتخذت قرارًا مبكرًا بضرورة إحداث تغيير سياسي ما في البلاد، ولكن الواضح أن قيادة الجيش تدحرجت نحو قرار الإطاحة بإرادتها وبغير إرادتها. ما قامت به قيادة القوات المسلحة في مساء 3 يوليو/تموز هو خطوة غير مسبوقة في تاريخ البلاد، بما في ذلك حدث الانقلاب المؤسس للجمهورية في 1952. بمعنى أن كل تغيير شهدته مصر في نظام الحكم، بما في ذلك تنحي الملك فاروق في 1952، والتحول إلى النظام الجمهوري في العام التالي، وتنحي الرئيس جمال عبد الناصر وعودته للرئاسة في يونيو/حزيران 1967، وتنحي حسني مبارك وتولي المجلس العسكري السلطة في فبراير/شباط 2011، تم تحت غطاء قانوني ما، بغض النظر عن صلابة أو هشاشة هذا الغطاء.
هذه المرة، لم يتوفر مثل هذا الغطاء، بأية صورة من الصور. وما بات معروفًا الآن أن جهودًا بُذلت من القائد العام للقوات المسلحة، ووزير خارجية دولة عربية، والسفيرة الأميركية، عملت في الساعات الأخيرة قبل إعلان الإطاحة على إقناع مرسي بقبول أن يبقى في منصبه بصورة رمزية حتى نهاية فترته، على أن يقبل بتعيين رئيس جديد للحكومة تتفق عليه المعارضة وقيادة الجيش، يقوم بإدارة شؤون الحكم. لو ارتضى مرسى هذا العرض، لكان تغيير فعلي قد وقع في نظام الحكم، وبصورة قانونية وغطاء شرعي. ولكن مرسي، الذي اعتقد دائمًا بأنه موكّل من الشعب لحماية الدستور والدولة، رأى في الصفقة تخليًا عن واجباته كرئيس، فرفض العرض. وكان هذا الموقف هو ما أسس لمأزق الإطاحة الأول: أنه لم يستطع أن يتحلى بأية غلالة من الشرعية أو السند القانوني.
موقف سائل
تشير كل الدلائل إلى أن قيادة الجيش وقيادات جبهة الإنقاذ التي ساندت عملية الإطاحة لم تتوقع أية ردود فعل كبيرة. روَّجت وسائل الإعلام المصرية، بما في ذلك الإعلام الرسمي، لأن البلاد تشهد ثورة عارمة ضد مرسي واستمراره في الحكم، ولم ترَ، أو لم تكن تريد أن ترى، حجم الحشود الشعبية التي خرجت لمساندته. وربما اعتبرت سلسلة الإجراءات السريعة التي اتخذت مباشرة بعد الإعلان عن الإطاحة، بما في ذلك اعتقال مرسي ومساعديه، واعتقال قيادات إخوانية وإسلامية أخرى، وصدور قوائم لمئات الممنوعين من السفر، وإيقاف عدد من محطات التلفزة الفضائية إسلامية التوجه، بما في ذلك قناة مصر 25 الإخوانية، كافية لإحباط أية ردود فعل محتملة.
بيد أن الحشود التي تدعم الرئيس والشرعية استمرت في موقعها؛ وسرعان ما تشكّل تحالف لدعم الشرعية، دعا إلى حركة تظاهر يوم الجمعة، 5 يوليو/تموز، في كل أنحاء البلاد. والحقيقة، أن القوى المؤيدة للرئيس كانت منذ مساء 2 يوليو/تموز قد بدأت حركة شعبية واسعة باسم دعم الشرعية، بحيث اتضح نهار اليوم التالي، الذي كان يوم الإطاحة، أن الحشود المؤيدة للرئيس في أنحاء مصر لا تقل كثرة عن الحشود التي ناهضته.
وهذا ما تأكد بالفعل يوم الجمعة، الذي ما إن اتجه نحو المساء حتى كانت الملايين من مؤيدي الرئيس والشرعية يتمركزون في ثلاثة مواقع رئيسة في القاهرة، وميادين أخرى في عشرات المدن المصرية؛ بينما قامت الجموع بالسيطرة على مقار الإدارة المحلية، رمز السلطة والحكم، في سبع من محافظات البلاد. وقد وصلت حصيلة قتلى يوم الجمعة الحافل، وكلهم تقريبًا من مؤيدي مرسي والشرعية، الثلاثين قتيلاً.
ما أكدت عليه أحداث يوم الجمعة أن المصريين منقسمون، وأن طرفًا لم يعد يستطيع القول بأن أغلبية الشعب المصري تؤيده وتقف خلفه، وأن الإطاحة تواجه مأزقًا فعليًا، وأن من وقفوا خلفها لم يتوقعوا ردة فعل كهذه.
على المستوى العربي والإقليمي، سارعت كل من السعودية والإمارات والأردن إلى الترحيب بالإطاحة وتهنئة الرئيس المؤقت بمنصبه. ولوحظ أن الفريق السيسي، وليس الرئيس المؤقت، أجرى اتصالاً بكل من الملك عبد الله والشيخ خليفة يوم الجمعة 5 يوليو/تموز. هذا، بينما بدا أن قطر تعترف بالوضع الجديد باعتباره أمرًا واقعًا. الرئيس السوري، بشار الأسد، أعرب هو الآخر عن ترحيبه، بينما تراوح الموقف الإيراني بين الخوف من عواقب ما وقع، والارتياح من تنحية الرئيس مرسي الذي كان اتخذ موقفًا صلبًا من الأزمة السورية قبل الإطاحة به بأسابيع قليلة. من جهة أخرى، وصفت تركيا الحدث بالانقلاب ورفضت الاعتراف به وحذّرت من عواقبه؛ وهو تقريبًا الموقف نفسه الذي اتخذته القيادة التونسية. وسار الاتحاد الإفريقي في ذات الاتجاه فعلّق عضوية مصر، وإن كان في تقاليده يعتبر استيلاء الجيش على السلطة انقلابًا غير شرعي، لكنه يعترف بنتائج الترتيبات التي تعيد الشرعية مجددا.
دوليًا، اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موقفًا غامضًا، محجمة عن وصف ما حدث بالانقلاب، ولكن بدون ترحيب صريح به؛ وبدا وكأن القوى الغربية تنتظر لترى ما إن كان النظام الجديد سيستطيع توطيد أقدامه، وإن كان ليس لديها اعتراض جوهري على الإطاحة بمرسي، بالرغم من الحرج الذي تستشعره من طريقة الإطاحة به. وكان طبيعيًا أن يثير هذا الغموض في الموقف أسئلة حول الدور الأميركي في الحدث المصري، سيما أن الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقات وثيقة بالقوات المسلحة المصرية. والحقيقة، أن من الصعب القول ما إن كانت واشنطن شريكًا في قرار قيادة القوات المسلحة المصرية بالإطاحة بالرئيس، أو أنها دخلت فقط على خط الوساطة بين الفرقاء في الساحة المصرية بعد أن أخذت الأمور في التأزم. المؤكد أن واشنطن مستمرة في القيام بدور الوساطة، بعد اتضاح حجم المعارضة لقرار الاطاحة يوم 5 يوليو/تموز، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وربما عبر قطر وتركيا.
مستقبل محفوف بالمخاطر
أصبح مؤكدًا الآن أن الإطاحة بالرئيس لن تمر بسهولة وسلاسة، وأن محاولة وضعه في ثوب الاستجابة لمطالب شعبية تواجه مأزقًا عويصًا. فإلى أين ستذهب مصر من هنا؟
أفضل نتيجة يمكن أن يحصل عليها من قاموا وأيدوا الإطاحة هو إدخال البلاد في حالة طويلة من عدم الاستقرار. ولن يتأتى عدم الاستقرار هذه المرة من أن مصر تعاد ثانية إلى وضع انتقالي، بل من خلل هيكلي في بنية مصر السياسية، وذلك لجملة أسباب، هي:
أن النظام الجديد يفتقد إلى غطاء قانوني ودستوري.
أن معارضيه سيستمرون في رفض شرعيته.
أن من المفترض عودة الجيش في النظام الجديد إلى ممارسة دوره التقليدي باعتباره شريكًا رئيسًا في حكم البلاد، ولكن المشكلة أن هذا الدور لم يمارَس في العقود الستة الماضية بصورة مباشرة، بل من خلال الشراكة مع قوة سياسية رئيسة، يرتكز إليها نظام الحكم (الاتحاد الاشتراكي أولاً، ثم الحزب الوطني بعد ذلك). في حقبة ما بعد ثورة 2011، لم يكن هناك قوة سياسية رئيسة إلا الإخوان المسلمين. إخراجهم من الساحة السياسية، يعني أن ليس هناك من سيقوم بهذا الدور، سيما أن جبهة الإنقاذ، لاعتبارات عديدة، لا يمكنها احتلال موقع العمود الفقري السياسي لمصر.
أن من غير الممكن استبعاد احتمال اندلاع العنف المسلح، المعارض للنظام الجديد. وفي هذه الحالة، ونظرًا لانتشار السلاح في أنحاء البلاد بصورة غير مسبوقة، والشعور بالمظلومية الناجمة من الإطاحة بنظام شرعي بقوة الجيش، سيكون العنف بالغًا وواسع النطاق.
أن من دعوا الجيش ودعموا قراره بالتدخل، لم يستطيعوا الحصول على جدول زمني قاطع من قيادة القوات المسلحة؛ وهو ما يفتح المرحلة الانتقالية التي وعد بها بيان الفريق السيسي على مرحلة من عدم اليقين قد تكون محل خلاف بين الجيش والجبهة التي ساندته في الإطاحة بمرسي.
مصر تتأرجح بين الاقصاء والتوافق
يلخص كل ما سبق معضلة مصر الراهنة، وهي كيفية الجمع بين الديمقراطية والاستقرار، فالذين أطاحوا بمرسي يعتقدون أن شرعيته الانتخابية لم تحقق الاستقرار، بل أثارت سياساته الأزمات والسخط والاستياء لدى قطاعات واسعة من المصريين، وأن الإطاحة به، وإن كانت مخالفة للقواعد الديمقراطية، هي القرار الصائب الذي يمتص السخط الشعبي ويعيد الاستقرار، لكنهم وقعوا في المحذورين: انتهاك الديمقراطية وهز الاستقرار. وهم بالتالي أمام خيارين رئيسيين:
خيار الإقصاء؛ فيعتقدون أنهم يستطيعون القضاء على مناصري مرسي وجماعة الإخوان، ويراهنون على الحل الأمني والإجراءات القانونية، فيزداد الاستقطاب، وتصير المبادرة في أيدي المتشددين من الطرفين، وتنجر مصر إلى حرب أهلية. وتبدو مؤشرات هذا الخيار في اعتقال قيادات إخوانية وغلق منابر إعلامية مع الدعوة في نفس الوقت إلى الحوار، وقتل العشرات من مناصري مرسي بالرصاص أمام مقر الحرس الجمهوري. إلا أن احتمالات تحقق هذا السيناريو ليست كبيرة، لأن القوات المسلحة المصرية تواجه ثلاثة كوابح: الضغط الأميركي الذي يضع استقرار مصر فوق باقي الاعتبارات، والغطاء الشعبي الذي يرفض الإقصاء، وبناء القوات المسلحة المصرية الذي يتسم بالانفتاح على المجتمع ويتأثر بما يجري فيه من توافق أو استقطاب.
خيار التوافق؛ حيث تلتزم مختلف القوى بالتنافس السلمي على السلطة من خلال آليات ديمقراطية، ولكن هذا السيناريو، وإن كان يحظى بمساندة قوى رئيسة، إلا أنه يواجه عقبات؛ على رأسها كيفية التعامل مع مرسي؛ إضافة إلى أن التوافق لن يتحقق إلا بإشراك جماعة الإخوان المسلمين، وهي ترفض الاعتراف بالإجراءات المترتبة على الإطاحة بمرسي، وأخيرًا فإن التوافق يحتاج الإجابة على سؤال: ما الذي يضمن أن القوات المسلحة لن تلغي نتائج أية انتخابات مقبلة؟