احتفل الأمريكيون في العام المنتهي 2013، وتحديدا يوم 22 نوفمبر الماضي، بمرور خمسين عاما على اغتيال رئيسهم الأسبق جون كنيدي الذي ارتبط توليه الحكم في يناير 1961 مع صورة "الحلم" كنايه علي ما كانت تتوقعه امريكا والعالم من حكمه.
وقد جاء كنيدي الي الحكم بمفاهيم وتصورات اختلفت بشكل واضح عن تلك التي انتهي به عهده القصير - اكتوبر 1963. وقد تعرضت مفاهيم الرئيس كنيدي لتجارب انضجتها وذلك فيما يتعلق بأدوار السياسة الخارجية الامريكية العالمية وعلي وجه التحديد بسياساتها وعلاقاتها مع القوة العالمية الأخرى هي الاتحاد السوفييتي. وقد افتتح كنيدي عهده بتجربة غير مشجعة وهي ما عرف بحملة "خليج الخنازير" الفاشلة ضد حكومة فيديل كاسترو في كوبا، وتلي هذا اثاره الزعيم السوفييتي لأزمة جديدة حول برلين وهو ما ارتبط بلقائه مع خروتشوف في فيينا، وهو اللقاء الذي انتهي بشكل عاصف، اما التجربة الحاسمة فكانت في نشوء ازمة الصواريخ الكوبية التي تضمنت بالنسبة للقوتين نتائج بعيدة المدي ودروسا كانت من الخطورة والوقع بحيث وضعت القوتين وبشكل مباشر امام حقائق العصر الذري ومعني نشوب حرب نووية بينهما.
وقد تولي جون كنيدي رئاسة الولايات المتحدة ولدية رؤية خاصة عن بلاده، حيث كان يعتقد ان الولايات المتحدة هي اخر وافضل امل للبشرية كما كان يتطلع لرخاء وسعادة كل شعوب العالم ويعتقد ان الولايات المتحدة لديها القدرة علي ان تقدم القيادة اللازمة لتحقيق هذه الغايات. وقد احاط كنيدي نفسه بأفضل العقول في امريكا وعين رجالا اعتقد انهم يمتلكون العقول والاساليب الفنية التي ستمكن الادارة الجديدة من حل اي مشكلة (x) وكان كنيدي ومجموعة الرجال الذين احاط نفسه بهم قد فقدوا صبرهم مع ايزنهاور وزعامته فلم يكن ايزنهاور في رايهم جسورا بما فيه الكفاية وكان يمثل المساومة والحلول الوسط وغير قادر علي ان يحرك الامة الي الاعمال العظيمة، فقد تخلي ايزنهاور اساسا عن فكرة انه يمكن ان تكون هناك حلول عسكرية لمشكلات الحرب الباردة، او ان امريكا يمكنها ان تصبغ وتشكل مصير العالم، وهكذا قبل حدودا علي دور امريكا. اما كنيدي ورجاله فهم يرفضون هذا فحيث كان ايزنهاور سلبيا فان كنيدي يمكن ان يكون ايجابيا وحيث كان ايزنهاور حذرا فسوف يكون كنيدي جريئا. وكان كنيدي ومعاونوه مهتمين بشكل خاص باستعادة مكانه وهيبة الرئاسة التي اعتقدوا انها تأثرت في عهد ايزنهاور (1).
وتؤخذ عبارة كنيدي الشهيرة التي ضمنها خطاب تنصيبه في يناير 1961 وقال فيها “ لتعلم كل امة سواء ارادت لنا الخير او الشر اننا سوف ندفع اي ثمن ونتحمل اي عبء ونلقي كل مشقة ونؤيد كل صديق ونعارض كل عدو لنضمن بقاء ونجاح الحرية “ وتؤخذ هذه العبارة كتصوير للمفاهيم التي بدأ بها كنيدي ادارته وكتعبير عن احساس القوة الزائد بالنفس (2).
وإذا كان التاريخ الذي بدأت فيه الحرب الباردة هو موضع جدل بين المؤرخين فليس ثمة نقاش حول التاريخ الذي اقتربت فيه هذه الحرب لان تتحول الي حرب ساخنة. ذلك كان في 22 اكتوبر 1962 وهو التاريخ الذي كشف فيه عن وجود الصواريخ السوفييتية في كوبا والايام الستة التي تلته لحين اعلان خروتشوف قراره بسحبها (3).
في ذلك اليوم 22 اكتوبر 1962 قال الرئيس الامريكي في اذاعة تليفزيونية" انه خلال الاسبوع الماضي فان شهادة لا تحظىء قد اظهرت حقيقة ان سلسلة من مواقع الصواريخ يجري الاعداد لها في هذه الجزيرة. وتشير مواصفات هذه الصواريخ الجديدة الي انها صواريخ نووية متوسطة المدي قادرة علي الانطلاق ابعد من ذلك مرتين وتقدر بهذا الشكل علي ضرب معظم مدن نصف الكرة الغربي في مدي يصل الي كندا والي بيرو" لاان هذا التحويل السريع لكوبا الي قاعدة استراتيجية هامة بوجود هذه الاسلحة ذات المدي البعيد وذات الطبيعة الهجومية الواضحة والدمار المفاجئ الشامل انما يشكل تهديدا حربيا للسلام والامن لكل الامريكيين وتحديا لتقاليد هذه الامة وهذه القارة ولميثاق الامم المتحدة والتحذيرات العامة من جانبينا للسوفييت كما ان هذا عمل يتناقض مع التأكيدات المتكررة للمتحدثين السوفييت العلني والخاصة ( × ) من ان البناء العسكري في كوبا سوف يبقي ذا طبيعة دفاعية وان الاتحاد السوفيتي ليس له حاجة او رغبة لإقامة صواريخ استراتيجية علي ارض اي دولة اخري (4).
ويحدد كنيدي ابعاد العمل السوفييتي بالنسبة للولايات المتحدة فيقول "ان هذا البناء السري والسريع وغير اعادي للصواريخ السوفييتية في منطقة معروفة تماما بان لها علاقة تاريخية بالولايات المتحدة واهم نصف الكرة الغربي، هذا القرار السري لإقامة اسلحة استراتيجية للمرة الاولي خارج اراضي الاتحاد السوفييتي هو استفزاز متعمد وتغيير لا مبرر له في الوضع الراهن status Quo والذي لا يمكن ان يكون مقبولا لهذا البلد اذا كنا نريد لالتزاماتنا ان يوثق بها من صديق او عدو." (4).
ثم عدد كنيدي الاجراءات التي قرر اتخاذها "كإجراءات اولية وحتي لا تخاطر بشكل غير ناجح او غير ضروري بحرب نووية عالمية.".
فعلى الجانب الامريكي كان من الواضح ان الرئيس كنيدي منذ بداية الازمة انما يعمل علي حصر الاختيار العسكري وتصور ماذا يمكن ان يلجأ اليه الجانب الاخر وما يحمله هذا من احتمالات صدام نووي بين القوتين. فعند مناقشة اجراء الحصار علي كوبا نادي البعض بضرورة اتخاذ عمل عسكري معتبرين ان الحصار blockade لن يزيل الصواريخ او حتي يوقف العمل فيها وكان اعضاء هيئة اركان الحرب بشكل اجماعي يؤيدون عملا عسكريا عاجلا. وحين سأل كنيدي عما سيكون عليه رد الفعل السوفييتي أجابه رئيس هيئة اركان القوات الجوية انه لن يكون هناك رد فعل سوفييتي ولكن كنيدي كان يشك في ذلك وقال "انهم لن يدعوا الامور تمر دون ان يعلوا شيئا فهم لا يستطيعون هذا. فاذا لم يتخذوا عملا في كوبا فالتأكيد سوف يتخذونه في برلين". (5).
وخلال اجتماعه مع زعماء الكونجرس الذين كان معظمهم حادا في نقده وفي مطالبته ان يتخذ الرئيس قرارا اكثر قوة بهجوم عسكري او غزو واعتبارهم ان الحصار هو عمل ضعيف للغاية، رد كنيدي انه لا يشعر ان عملا عسكريا كبيرا امر مطلوب منذ البداية لان من الممكن ان تسوي المشكلة بدون حرب مبيدة وانه قرر الطريق الذي اختاره وهو الحصار البحري، ولكنه اضاف انه ربما في النهاية سيصبح العمل العسكري ضروريا ومع هذا فان هذا الطريق يجب ان لا يؤخذ باستخفاف. وقد ذكرهم كنيدي انه اذا ما بدا الهجوم فان الخصم سوف يرد بإطلاق الصواريخ التي يمكن ان تقتل عدة ملايين من الامريكيين وهي مغامرة لا يستطيع الاقدام عليها حتي تستنفذ نهائيا وبالكامل كافة الامكانيات الأخرى. (6)
وفي البداية كان هناك شبه اجماع ان علي الولايات المتحدة ان تهاجم في صباح اليوم التالي لتدمير مواقع سام ولكن الرئيس كنيدي ابدي تحفظات اساسية قال "انها ليست الخطوة الاولي هي اتي يجب ان تشغلنا، وانما تصعيد كل جانب الي الخطوة الرابعة والخامسة، وان كان لن يذهبا الي الخطوة السادسة لأنه لن يكون هناك احد لكي يتخذها. يجب ان نذكر انفسنا اننا نشرع في طريق غاية في الخطورة" (7). وطالب كنيدي بأجراء تحقيق دقيق فيما اذا كانت طائرة الاستطلاع قد اسقطت ولم يقع لها حادث تصادم.
وكان الرئيس كنيدي يركز كل اهتمامه ومداولاته علي عدم إهانة خروتشوف وعدم اشعار السوفييت بان عليهم ان يصعدوا استجابتهم لان امنهم القومي او مصالحهم القومية تلزمهم بذلك وكان هذا وراء تردده في ان يتم توقيف او تفتيش باخرة روسية ومعارضته الهجوم علي مواقع الصواريخ، ويعبر عن هذا قوله "انه اذا ما بقي فرد حي ليكتب تاريخ هذه احرب فانه سيتفهم اننا بذلنا كل جهد لكي نصل الي سلام وكل جهد لكي نعطي خصمنا مكانا للحركة ولست مستعدا لان ادفع الروس بوصة ابعد مما يجب" (
.
هكذا كانت ازمة الصواريخ الكوبية حدا فاصلا في تاريخ العلاقات بين القوتين لما بعد الحرب العالمية الثانية كما كانت اكثر ازمات هذه الفترة المحملة بإمكانية الانفجار وقد استمدت الازمة هذه المكانة من انها نقلت معني الحرب والمواجهة النووية من مستوي التصور الذهني المجرد الي الواقع والامكانية الملموسة وجعلت الاحساس حيا بان كل البشرية لها مصلحة مشتركة في منع الحرب النووية (9) وفي هذا الموقف بدت هذه المصلحة اعلي من المصالح المتوخاة، وعلي هذا كانت ابلغ دروس الازمة بخطورة سياسية حافة الحرب، ومن الان فصاعدا سوف تعمل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي علي وضع قيود علي خلافاتهم والعمل علي الحد من التزاماتهم حتي يمكن الحد من استجابة ورد الفعل كل منهما.
والواقع ان شخصين فقط في العالم كانا تحت الضغط المطلق للقرار النووي هما خروتشوف وكنيدي، وقد سجل خروتشوف رد فعله في خطابه الشخصي الي كنيدي يوم الاحد 28 اكتوبر، وهو الخطاب الذي انهي الازمة، وتضمن قرار سحب الصواريخ السوفييتية، كذلك قدم خروتشوف تصوره وتقييمه للازمة ونتائجها في خطابة في 12 ديسمبر سنة 1962 امام مجلس السوفييت الأعلى، فقد تساءل خروتشوف عمن انتصر في هذه الازمة واجاب "هنا يمكن القول ان العقل هو الذي انتصر وان قضية السلام وان الامم هي التي فازت، إن الجانبين قد اظهرا اسلوبا مرضيا واعتبرا بالحقيقة القائلة بانه ما لم تتخذ اجراءات بل انه في الحقيقة فان لدينا وسائل الايصال الافضل للأسلحة النووية متمثلة في صواريخنا عابرة القارات القوية". (10)
ووقفا لهذا التقدير كان الاجراء السوفييتي في كوبا اول محاولة اراد بها خروتشوف ان يختبر هذا التقدير وان يخرج الاتحاد السوفيتي من نطاقة قوة قاربه continental power الي قوة عالمية (11) global power.
اما بالنسبة للرئيس الامريكي فان مشاعره قد تعرضت لتغيرات كيفية بعد تجربة كوبا واصبح يؤمن بان العالم الذي تتحدي فيه أمة امة اخري بأسلحة نووية لم يعد عالما خاليا من اي معقولية فحسب بل عالما غير محتمل وغير ممكن (12)
كما بات يعتقد ان خريف عام 1962 ان لم يكن نقطة تحول فقد كان علي الاقل "مرحلة الذروة. ورغم ان اثار التجربة قد لا يمكن تصورها بشكل كامل الان فان مؤرخي المستقبل حين سينظرون الي الخلف والي عام 1962 فربما سيسجلون هذا العام باعتباره الوقت الذي بدا فيه التيار في التحول" (13). كما وصف الواقع المشترك الذي اوضحت الازمة انه يجمع بينه وبين خروتشوف بالقول "ان خروتشوف وانا في نفس القارب بمعني ان كلينا لديه نفس القدرة النووية وان كلينا يريد حماية مجتمعاتنا". وكان يعتقد ان الاثر الحقيقي لازمة الصواريخ هي انها ساعدت علي توضيح الوضع في الولايات المتحدة حول عقم الاعتقاد في نصر نووي كامل.
وفي خطابه الذي القاه في الجامعة الامريكية في يونيو سنة 1963 اطلق كنيدي ما يمكن ان يعتبر الان اول بيان علني حول مفهوم الاعتماد المتبادل Interdependence كما تضمن دعوة للأمريكيين ان يفكروا في اطار جديد للمناقشة بينهم وبين السوفييت في ضوء ظروف العصر النووي "انه في العصر النووي قد اصبح السلام هو الغاية الضرورية العقلية للرجال العقلاء وقد قيل انه من العبث ان نحلم بالسلام حتي يتخذ الاتحاد السوفييتي اتجاها كأفراد وكأمة، لان اتجاهنا مهم مثل اتجاههم"، وكما تحدث خروتشوف في مؤتمر الحزب العشرين عن "عدم حتمية الحرب" مناقضا مفاهيم ثابتة في الفكر الماركسي اللينيني، كذلك تحدي كنيدي مفهوم العديد من الامريكيين " الذين ينظرون الي سلام كشيء غير ممكن ويعتبرون ان الحرب امر لا يمكن ان تحل بواسطة الانسان. غير انه اعتبر انه ليس صحيحا ان نفترض ان السلام سوف ينهي كل الخلافات والصراعات" فالأمر لا يتطلب ان يحب الانسان جاره وانما يتطلب ان يعيشا معا في تسامح متبادل" ويعلمنا التاريخ ان العداء بين الامم لا يدوم الي الابد "فتيار الزمن والاحداث سوف يأتي بتغيرات مدهشة في العلاقات بين الامم". كما اعتبر ان تجربة تاريخية وحربا كريهة تجمع الروس والامريكان فليست هناك امة في تاريخ المعارك عانت اكثر من الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية". فاذا ما حدثت الحرب مرة اخري "فان كل ما بناه الجانبان سوف يدمر في الاربع والعشرين ساعة الاولي" ومع هذا "فان كلا منا يقع اسير دائرة مفرغة يفرخ فيها الشك علي احد الجانبين شكا علي الجانب الاخر وتجلب الاسلحة الجديدة اسلحة مضادة (14).
وقد لقي خطاب كنيدي هذا استجابة واضحة لدي السوفييت ووصفة خروتشوف "بانه اعظم خطاب لرئيس امريكي منذ روزفلت" (2). وكان بهذا المعني من العوامل التي هيأت الي الخطوة الاساسية التي اتخذت نحو التفاوض حول معاهدة الحظر الجزئي للتجارب الذرية وتوقعيها، وهي الخطوة التي تعتبر في تاريخ العلاقات الامريكية السوفييتية اللبنة الاولي نحو اتجاه القوتين لتنظيم علاقاتهما في مجال الاسلحة الاستراتيجية، وهو اخطر جوانب العلاقات، وهي الخطوة التي تلتها خطوات في التوقيع علي معاهدة حظر التجارب النووية عام 1968، ثم الشروع في الخطوة الاوسع نحو سياسة " الوفاق " Detente والتي كانت ابرز معالمها اتفاقيات SALT للحد من الاسلحة الاستراتيجية في السبعينيات.
.
(X) من امثال هؤلاء روبرت مكنمارا ودين راسك وولت روستو وماك جورج بندي وماكسويل تيلور وقد شرعوا جميعا في مهمتهم مع كنيدي باقتناع ان العالم يمكن تطويعه وانهم يمكنهم ان يديروا ويسيطروا علي الاحداث بشكل ذكي وعاقل ولذلك اتخذوا اتجاها متشددا معتقدين ان لديهم الشجاعة والعقول والتصميم علي مواجهة التحرك السوفييتي والتغلب عليه