العدالة المنقوصة هي عدالة سريعة ونسبية تقرها الشريعة الاسلامية, وتفرضها الظروف الاستثنائية مثل الثورة.. ويبقي السؤال.. هل حقا قامت ثورة في مصر؟..
نعم قامت في مصر ثورة شعبية شريفة عارمة في25 يناير2011 وعلي مدي ثمانية عشر يوما, وتلك حقيقة ناصعة, أكدتها دماء الشهداء, وخلع رأس النظام السابق.. لكن ـ مع الأسف ـ عاشت مصر ثورتها في أرقي معانيها خلال تلك الفترة فقط ـ ثمانية عشر يوما ـ ثم عدنا أدراجنا نعيش حالة من اللا ثورة, ومناخا مما قد يعيق مسيرة الثورة, وها نحن في هذه الحالة منذ أكثر من ثمانية عشر شهرا ـ وما زلنا ـ ولا ندري الي متي؟!.. تتضح هذه الصورة في ملامح وممارسات كثيرة لكنها تتجلي في أحكام القضاء الخاصة بالثورة والتي غالبا ما تأتي لتؤكد أننا نعيش مرحلة استرخاء ورفاهية إجتماعية, لا مرحلة ثورة وظروف استثنائية..
لقد غاب عن القاضي تماما أننا نعيش في ثورة بما لها من شرعية ثورية تفوق كل القوانين, وربما تستوجب العدالة السريعة, ولو كانت منقوصة.
لقد غاب عن القاضي ما تفرضه الثورة من مواءمات ومراعاة للصالح العام ولو لم تكن العدل المطلق, غاب عنه أن الثورة تستوجب وتفرض القبضة الحديدية لتحقيق هيبة الدولة وشرف القضاء ولو لم يتمكن مع ذلك تحقيق العدل المطلق أو عين العدالة..
إن العدل المطلق لا يقدر عليه إلا الله عز وجل, أما قضاء البشر فمرجعه إلي اجتهادات القاضي, ومراعاته لمقتضي الحال وظروف الواقع ـ مثل ما نحن فيه من ثورة ـ وما يفرض ذلك من الإسراع في الحكم ـ العادل ـ ومراعاة لمصلحة الوطن, كل ذلك هو الذي يشكل قناعات القاضي, ويكون الحكم اجتهاديا, إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر.
إن الظروف الأستثنائية كالثورة والمجاعة والحرب والطاعون وغير ذلك تسمح للقاضي بأحكام قد لا تحقق إلا عدالة منقوصة وله في ذلك الأدلة الشرعية الثابتة, ألم يعطل سيدنا عمر بن الخطاب ـ وهو من هو ـ حد السرقة في عام الرمادة.. المجاعة؟!, ألم يمنع الناس من التنقل حين انتشر الطاعون في بلاد الشام, وحق التنقل مكفول لكل البشر, لكن مراعاة للصالح العام والصحة العامة وخوفه من موت الصحابة قبل تدوين السنة فرض عدم للخروج من المدينة إلي مكان الوباء والطاعون.
نأتي إلي واقعنا الآن...
أين المواءمة الوطنية ومراعاة الحالة والشرعية الثورية في أحكام البراءات ـ للمتهمين في قتل وقنص الثوار ـ بحجة عدم توافر الأدلة, مع قناعة القاضي بأن القاتل والمجرم قد يكون هو الماثل أمامه في قفص الإتهام؟!
أين مراعاة الكرامة الوطنية والعزة الثورية وهيبة القضاء المصري الشامخ في الحكم برفع حظر السفر عن الأجانب المتهمين في قضية منظمات التمويل الأجنبي. أين مواءمات القاضي ومراعاته للمصلحة العامة في الحكم بحل مجلس الشعب ونحن في أمس الحاجة إلي خطوة للأمام, وإلي أي دعم لخزانة الدولة وإلي التقاط أنفاسنا لنبدأ مسيرة الانتاج والعمل؟!
قد يكون الحكم صحيحا طبقا للأوراق والمستندات ولكن الأصح منه الحكم طبقا للمواءمات والمصلحة العامة ولو لم يحقق إلا العدالة المنقوصة كما فعل عمر بن الخطاب, وكما تقتضي ظروفنا الثورية والأستثنائية مع التأكيد علي أن العدالة المنقوصة ليست ظلما لكنها عدالة نسبية تفرضها ظروف استثنائية.
صحيح أن القيادة السياسية قد قبلت الحكم بحل مجلس الشعب لتكرس مبدأ احترام القضاء, لكن يبقي لنا أن نقرأ هذه المشاهد لعلها تفيد غدا في قضايا أخري..أين هيبة الدولة ومقام القضاء وشموخه حين يسمح بقبول دعاوي وطعن علي تشكيل وإنجاز اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور والتي أقر القاصي والداني بمدي جديتها ورقيها وحيدتها وعظمة إنتاجها بشكل يليق بقدر ومكانة مصر.. هل يقبل أن تسمح العدالة الوطنية للمعوقين والرافضين لكل خير ونجاح أن يتقدموا بدعاوي وطعون علي شرعية رئيس الجمهورية المنتخب انتخابا نزيها.. أو علي تشكيل تأسيسية الدستور وعمل أعضائها الشرفاء والخبراء. ما الذي يحدث بالضبط؟ لقد وصلنا إلي مرحلة أسوأ وأبشع مما كنا عليه في النظام السابق لم يكن يسمح ذلك النظام بالإفراط في حق التقاضي كما هو حادث الآن.. كل من هب ودب يستطيع أن يرفع دعوي ضد أي شريف أو مسئول أيا كان, إن هذا الأمر يجب أن تكون له ضوابط قضائية وشروط محددة للمحافظة علي هيبة الدولة ومقام القضاء إن القضاء في النظام السابق لم تكتمل قناعاته بحل مجلس الشعب عام1987 م إلا بعد عدة سنوات من البحث والدراسة والتمحيص ومراعاة المصلحة العامة وتفعيل مبدأ المواءمة السياسية, وكان المناخ حينذاك مناخ استقرار نسبي بمعني لم يكن مناخ ثورة كما نعيش الان ومع ذلك, أما الآن فلم يستغرق حكم حل مجلس الشعب سوي أسابيع حتي صدر أول حكم بالحل!..
هل القضاء لا يعلم أننا في ثورة, وأننا نعيش أزمة بل أزمات حقيقية, ما الذي يحدث بالضبط؟ ولماذا لا نكون صرحاء مع أنفسنا ونرفض أن نكون صنميين, نعبد القضاء علي إطلاقه ـ مع تقديري للقضاء المصري الشامخ بشكل عام ـ لماذا لا نعلنها بصراحة ووضوح, أن الكثير من أحكام وتفاسير القضاء ليست علي مستوي الثورة ولم تفعل مبدأ المواءمة ومراعاة المصلحة العامة. إننا ندرك طبيعة القضاء العادي, وأن الأصل فيه البراءات ما لم تتوفر كل أدلة الإدانة الورقية والعينية والمادية وغيرها, لكن هذا النهج يكون في الأحوال العادية وليس الاستثنائية كالثورة وما نحن فيه من أزمات إن البلطجية والمجرمين يعيثون في مصر الفساد ويعتمدون علي أنهم ومن وراءهم سيستوفون أوراق ومستندات وأدلة براءتهم وسيخفون أو يبددون أدلة إتهامهم ولذلك فهم يعملون بإطمئنان في إطار خطة فساد وإفساد منهج ومنظم تقوم بها جهات كبري للنيل من الثورة انها حرب علي مصر وعلي الثورة..
إن الأزمات التي تعيشها مصر الآن والانفلات الأخلاقي والقيمي العام لن يقدر علي مواجهته القضاء العادي بل يحتاج إلي قبضة حكم حديدية عادلة يعيد للدولة هيبتها واستقرارها, يحتاج إلي قضاء إستثنائي ليس بالضرورة أن يحكم بالعدالة المطلقة ولكن تفرض عليه الظروف أن يحكم بالعدالة السريعة الناجزة ولو كانت منقوصة, هذه الصيغة يمكن ان يصل اليها أهل القضاء أنفسهم مواكبة وتمشيا مع مناخ الثورة الاستثنائي.. صيغة تكون الأحكام فيها عادلة ولو منقوصة, تعيد الحقوق لأصحابها ولو نسبية, لا أن تغيبها تماما كما حدث في أكثر قضايا الشهداء والجرحي والتي تستوجب القصاص ثم تفاجأ بالبراءات, إضافة الي ذلك نريد صيغة تكون أحكامها ناجزة بمعني التطبيق السريع فإن مناخ الثورة وهمومها أسرع من بطء الأحكام والذي سيؤدي حتما إلي اليأس والاحباط وهما ألد أعداء الثورة والنهضة ومن هنا يكون التراجع والفشل!! لا قدر الله.
إن القضاء ركيزة أساسية في بناء الدولة القوية وإن احترام أحكامه واجب وملزم وضروري ولكن لا يجب أن يغيب عنا أن الأصل في القضاء مراعاة مصلحة الانسان وإنسانيته والنهوض بمصلحة الوطن وهيبته, لأنه لم ينفعنا حكم القضاء ولو كان في شكله عادلا حيث راعي المستندات والأدلة الورقية, لن ينفعنا هذا بقدر ما سينفع الأمة حكم القبضة الحديدة العادلة والناجزة والتي تعيد هيبة الدولة وتراعي حقوق المظلومين وأنات الثكالي وأمهات الشهداء والمجروحين نريد عدالة ولو كانت عدالة منقوصة حتي نسير إلي الأمام, إننا لا يجب أن لا ننسي أننا في ثورة وأن المسئولين والقضاة ما لم يفعلوا منهج القبضة الحديدية العادلة والعدالة السريعة الناجزة ولو منقوصة, ما لم يفعلوا ذلك سنظل ندفع الثمن ونزداد إرهاقا وخسرانا بل قد تسلب وتسرق منا الثورة بكاملها لا قدر الله..