عقب ثورة الخامس والعشرين من يناير العام الماضي(2011) بدأت الساحة السياسية في البلاد
تشهد الإعلان عن أحزاب جديدة وائتلافات بين قوي مختلفة هنا وهناك أخذ عددها يزداد يوما بعد يوم, حتي أصبح من الصعوبة بمكان التعرف علي حقيقة الهوية السياسية لكثير من القائمين عليها, خاصة وأن كلا منها ينسب لنفسه الدور الرئيسي في تحريك الموقف السياسي. وكان الاختبار الأول لحجم هذه القوي انتخابات مجلس الشعب في سبتمبر(2011) والتي انتهت باقتناص التيار الإسلامي غالبية مقاعد مجلس الشعب. ولما انتهت رئاسة الجمهورية إلي الدكتور محمد مرسي ممثلا لتيار الإخوان المسلمين وحدث انقلاب علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة, وتغيير في بعض المحافظين ورؤساء تحرير الصحف القومية.. إلخ, بدأت القوي السياسية المدنية تدرك أن الرئيس وطاقمه يدفعون بالبلاد إلي إقامة الحكومة الإسلامية طبقا لأفكار حسن البنا كما وردت في لائحة الجماعة(6 مايو1948), وتأكد لهم ذلك من طبيعة المناقشات التي كانت تدور في مجلس الشعب قبل الحكم ببطلانه. وعلي هذا بدأت القوي السياسية تتجمع من جديد في ائتلافات وجبهات واندماجات تحت مسميات مختلفة استعدادا لمعركة انتخابات مجلس الشعب القادمة بعد إعلان الدستور.
ويبدو واضحا من هذه التجمعات ومن البيانات التي تنشر في مختلف وسائل الإعلام أن أصحابها يسعون لإقصاء الإخوان المسلمين عن حكم البلاد حفاظا علي الطابع المدني للدولة الذي اشتهرت به مصر علي مدي تاريخها الطويل, وحفاظا علي التماسك الوطني بين مختلف فئات الشعب المصري, وهي خصوصية أخري اشتهر بها المصريون عبر التاريخ, حيث إن ما يجمع بينهم علي مستوي التقاليد والأعراف أكبر مما يفرقهم علي مستوي العقائد والمذاهب.
لكن الوسيلة التي يتوسل بها هؤلاء للإطاحة بحكم الإخوان هي المأزق نفسه, ذلك أنهم يجتهدون لحشد الجماهير حولهم بدرجة يتمكنون معها من الفوز بأغلبية في البرلمان الجديد, وساعتها يصبح في إمكانهم وقد امتلكوا آلة التشريع إصدار القوانين التي من شأنها حصر التيار الإسلامي في خانة ضيقة ويصبح بلا معني, ويتم إنقاذ البلاد من الأسلمة والتأسلم ومن خطورة تديين السياسة. ومع أن تلك الوسيلة مشروعة ودستورية وديمقراطية لكن المأزق أنها لا تنجح إلا في نظام الحكومة البرلمانية, حيث تصبح الحكومة مسئولة أمام البرلمان الذي هو سلطة شعبية منتخبة, وبمقتضي هذا النظام يصبح من حق البرلمان أن يطرح الثقة بالحكومة وبالرئيس ويتقرر مصير كل منهما. غير أن الاتجاه في مصر كما يتبين من ظاهر الأحداث أن النظام الحاكم يرفض فكرة الحكومة البرلمانية ويفضل عليها الحكومة الرئاسية أو الجمع بين الطريقتين شكليا فيما يعرف بالحكومة البرلماسية وهو مصطلح مصطنع من شأنه تمييع المواقف السياسية, وبمقتضاه يظل مصير البلاد في يد الرئيس الذي لا يفصل بين السلطات ويحكم بدلا من أن يكوم حكما.
المأزق الثاني في التوسل بتلك الوسيلة البرلمانية لتحقيق المطالب يكمن في الخوف من انهيار تلك التجمعات أمام محاولات سلطة الحكم لاختراقها واستقطاب أعضائها واستجابة بعض العناصر لإغراءات السلطة القائمة, فتنتهي التجمعات إلي مزيد من الانشقاقات والاختلافات وتنعم السلطة بالهدوء والراحة والأمان. ومما يؤكد ذلك تصريحات كوادر الإخوان المسلمين من أنهم سوف يعملون علي إجهاض هذه التجمعات حتي تخلو الساحة للتيار الإسلامي دون منافس. ومن المعروف أن سلطة الحكم في أي بلد من البلاد تلجأ إلي اختراق المعارضة باستقطاب بعض عناصرها وتنجح حينما تجد من يستجيب للإغراءات, وفي هذا ينطبق المثل الشعبي القائل: النصاب بخير طول م المغفل موجود.
تلك هي المخاوف التي تحيط بالتجمعات السياسية الجديدة والمتجددة التي بدأت تشهر سلاح مقاومة نظام الحكم القائم, ذلك أن القدرة علي التوحد بين القوي السياسية في مصر ينتهي إلي مزيد من الانشقاق والتفكك نظرا للتناقضات الأساسية بين كل منها, علي حين إن الشرط الأول لنجاح التحالف بين المتناقضين أن ينسي كل منهم فلسفة جماعته وحزبه التي يعبر عنها ويتكلم فقط في كيفية تحقيق الهدف المحدد الذي اجتمعوا بشأنه, وهو ما يمثل الحد الأدني للعمل المشترك. غير أن ما يحدث في مصر نوع من سيطرة الفردية والذاتية علي العمل السياسي العام, وهذا من شأنه يفتت القوة الواحدة إلي مجموعة قوي متناحرة سرعان ما تختفي من الساحة ويطويها النسيان.
والمأساة أن التفتت والانشقاقات والانسلاخات أمر من ميراث الحياة الحزبية في مصر منذ بدأت هذه الحياة منذ مطلع القرن العشرين( عام1907), ثم مع حزب الوفد الكبير(1918), فقد رأينا أن الوفد انتهي إلي عدة أحزاب: حزب الإحرار الدستوريون(1922), حزب الشعب(1930), الهيئة السعدية(1938), الكتلة الوفدية(1943), ثم الطليعة الوفدية(1948). والحزب الوطني الذي أسسه مصطفي كامل خرجت منه مجموعة الحزب الوطني الجديد بزعامة فتحي رضوان. والحزب الشيوعي المصري الذي نشأ في1921 حزبا واحدا سرعان ما انشق علي نفسه وخرجت منه مجموعات لا مجال لحصرها الآن, وكذلك الإخوان المسلمون.
وفي التاريخ المعاصر الذي نعيشه خرج الناصريون من حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي وشكلوا حزبا, ثم خرج من الناصريين عدة أحزاب. وخرجت من حزب التجمع عدة مجموعات مثل التيار الثوري, والتيار الاشتراكي, واليسار الجديد.. إلخ.
والمثير في كل هذا أنه بعد أن تحدث تلك الانشقاقات نجد أن المنشقين يتنادون لتكوين جبهة.. ألم تكونوا واحدا فلماذا سمحتم لأنفسكم بأن تصبحوا أكثر من واحد ثم تريدون العودة مرة أخري. وفي هذه المحاولة من إعادة التجميع تحت اسم التحالف أو الجبهة يجلس المتنادون وكل منهم يريد أن يفرض شروطه وتوجهاته علي الآخرين فتفشل المحاولة وينفض السامر.
واعتقد أن هناك شيئا في الموروث الثقافي بين المصريين يجعل أمر العمل الجبهوي في شكل التحالفات حتي الوقتية منها تفشل أو تتحطم في النهاية علي صخرة الفردية والذاتية والنزوع للزعامة وعدم التضحية بشيء من الخصائص في سبيل تحقيق هدف أكبر. ولكي تنجح مثل هذه المحاولات يحتاج الأمر إلي التنازل عن بعض الشروط والخصائص إذ من المستحيل أن يفرض واحد رأيه علي الجميع مهما كانت قدرته ومهما كانت قيمته ومكانته. وهذه الخصوصية الثقافية بين المصريين تفسر إخفاق محاولات العمل الجبهوي